الزكاة المفروضة (الزكاة في شرائع الأنبياء عليهم السلام)

الزكاة المفروضة (الزكاة في شرائع الأنبياء عليهم السلام)



الحمد لله رب العالمين؛ هدانا للإسلام، وفرض علينا الصيام، وعلمنا الشرائع والأحكام، وجعلنا من أمة القرآن، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله من فضله العظيم، فهو الجواد الكريم، البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فرض الزكاة وجعلها ثالث أركان لإسلام، بعد الصلاة وقبل الصيام؛ لتطهر بها الأموال، وتزكى بها القلوب والأبدان، وليحصل بها رضا الرحمن، ومواساة الفقراء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ ذلك أنه شهر الجود والخير والإحسان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستفيدوا من رمضان؛ فإنه فرصة للبر والإحسان، وقد لا يدركه العبد في قابل الأعوام؛ فالمنون تتخطف الناس بلا إنذار ولا إعذار، ويا لسعادة من حضره أجله وهو في علاقته بربه سبحانه على أحسن حال، ويا لتعاسة من غرته الأماني والأحلام، فقابل ربه سبحانه بشر حال {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123- 124].

أيها الناس: الزكاة حق الله تعالى في المال، وهي جزء واحد من أربعين جزء؛ فلصاحب المال تسعة وثلاثون جزء، ولله تعالى جزء واحد يُنفق على مصارف الزكاة. وهذا الجزء الذي يُخرج من المال زكاةً له، سببٌ لبركته ونمائه وطهارته، كما أنه سبب لتزكية صاحبه من الشح والبخل والإمساك {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].

والزكاة شرعت في شرائع النبيين من قبلنا، كما شرعت الصلاة والصيام والحج، وأخبر الله تعالى عن جملة من الأنبياء في سورة الأنبياء فقال سبحانه {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء: 73]. مما يدل على أن الله تعالى قد أوحى للأنبياء عليهم السلام بإيتاء الزكاة، وأنها فرض في الشرائع السابقة.

 وفي إخبار الله تعالى عن أبينا إسماعيل عليه السلام مثنيا عليه قال سبحانه {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54- 55].

وقال إخوة يوسف ليوسف عليه السلام {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88] وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رحمه الله تعالى: «هَلْ حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ فَقَالَ سُفْيَانُ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}، يُرِيدُ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَتَصَدَّقُ، وَإِنَّمَا يَتَصَدَّقُ مَنْ يَبْغِي الثَّوَابَ، قُلِ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي أَوْ تَفَضَّلْ عَلَيَّ».

ولما نجّا الله تعالى موسى والمؤمنين معه من فرعون وبطشه، وأهلكه وجنده؛ سار بهم موسى عليه السلام، فخالفوا أوامره، وعبدوا العجل في غيبته، فأخذتهم الرجفة، وهي الزلزلة، فدعا موسى ربه سبحانه وتعالى، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وأخبره سبحانه بأن رحمته وسعت كل شيء، وأن مؤتي الزكاة قد كتبت لهم الرحمة {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]. «فَتَشْمَلُ هَذِهِ الرَّحْمَةُ مَنِ اتَّقَى وَآمَنَ وَآتَى الزَّكَاةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...».

ومن أنبياء بني إسرائيل يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بني إسرائيل وخطب فيهم يأمرهم بأوامر الله تعالى إليهم، ويخبرهم بفرائضه سبحانه عليهم، ومنها الزكاة، فمما قال في خطبته فيما يتعلق بالزكاة: «وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ، وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ؟ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ» رواه أحمد.

وعيسى عليه السلام لما تكلم في المهد نطق بالزكاة، وأخبر أنها وصية الله تعالى إليه {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 29 - 31].

ولأهمية الزكاة في الشرائع الربانية فإن الله تعالى أخذ الميثاق على بني إسرائيل للإتيان بجملة من الشرائع كان منها الزكاة، ووعدهم بالجنة إن وفوا بميثاقهم، وأقاموا شرائعهم {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة: 12].

ولكن أكثر بني إسرائيل نقضوا ميثاقهم، وشحوا بأموالهم عن فريضة ربهم سبحانه وتعالى، فاستحقوا غضبه ونقمته {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].

وأثنى الله تعالى على الراسخين في العلم من بني إسرائيل، وهم قلة؛ لوفائهم بميثاقهم، وإقامتهم شرائعهم، وأدائهم زكاة أموالهم {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162].

فحري بأهل الإيمان أن يسلكوا مسلك الأنبياء وأتباعهم في أداء الزكاة، وأن يحذروا من فعل بني إسرائيل حين منعوا الزكاة، وقالوا {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} فقال الله تعالى {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181- 182].

نعوذ بالله تعالى من حالهم ومآلهم، ونسأله سبحانه الاستقامة على أمره، وإقامة شرعه، والثبات على دينه، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم... 

 

 

الخطبة الثانية

  الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

  أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

أيها المسلمون: أمر الزكاة عند الله تعالى عظيم، وشأنها في شريعته كبير؛ ولذا قال الله تعالى عن المشركين {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وفي آية أخرى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] وقال سبحانه عن أهل الكتاب {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] وقاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وأقره الصحابة رضي الله عنهم على قتالهم؛ فكان قتالهم مما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، وهو من سنة الخلفاء الراشديين التي أمرنا باتباعها، وكل ذلك يدل على أهمية الزكاة في دين الله تعالى.

والتهاون في أداء الزكاة خطره كبير، وإثمه عظيم، ويعذب صاحبه بماله الذي لم يؤد زكاته {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35].

وكما يجب أداء الزكاة فإنه يجب التحري في وصولها لمستحقيها، فمن الناس من يدفع الزكاة إلى غير مستحقيها، بل يتخلص منها فيدفعها لمن يطلبها، فلا تبرأ بها ذمة مخرجها، ولا يتحقق المقصود من فرضها، وهو سد حاجات المحتاجين.

واستغل ذلك قوم صاروا يتاجرون بالسؤال؛ لأنهم وجدوا أن الناس يعطونهم صدقاتهم الواجبة والمندوبة، وهم أناس غير محتاجين، أو يوجد من هم أكثر حاجة منهم، أو كانوا محتاجين من قبل فسُدت حاجتهم ولكنهم ألفوا السؤال، أو يتكثرون بالسؤال ليصرفوا على الكماليات، وقد سمعنا عن أناس يستحلون أخذ الزكاة لأجل السفر للسياحة، وهذا بطر لا يجوز، وصرف للمال في غير وجهه، وأخذ للزكاة بلا حق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]» رواه الشيخان.

فحري بمخرج زكاته أن يتحرى فيها، لتبرأ ذمته منها، ولتقع في يد محتاج لها، فتحقق مقصودها.

وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

 

أعلى