• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
معضلة رضوخ هرقل في قمة جبروته

معضلة رضوخ هرقل في قمة جبروته

 

كما وعدتكم في المقال السابق (معضلة الصحابي ضغاطر الأسقف) الذي بينت فيه دلائل إسلام رأس الكنيسة الرومانية زمن البعثة "البابا هونوريوس الأول" (625م - 638م)، وأنه هو نفسه الصحابي ضغاطر، الذي آثر آخرته، وجاد بنفسه في سبيل الله. فسأحاول اليوم توضيح أدلة إيمان رأس الإمبراطورية الرومانية آنذاك "الإمبراطور هرقل" (610م - 641م) أيضاً بنبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقيامه كصاحبه بدعوة قومه للإسلام. ولكن على عكسه، حاول الجمع بين الدنيا والآخرة، فلما يأس من ذلك، آثر دنياه على آخرته.

وقد جاء في صحيح البخاري أن "هرقلُ أذن لعظماء الروم في دسكرة له بحِمص ثم أمَرَ بأبوابها فغُلِّقت ثم اطَّلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشدِ، وأن يَثبتَ مُلككم فتُبايعوا هذا النبي؟ فحاصُوا حيصةَ حمرِ الوحشِ إلى الأبواب، فوجَدوها قد غُلِّقت، فلمَّا رأى هِرقل نفرتَهم وأيسَ من الإيمان، قال: ردُّوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفًا أختبِرُ بها شدَّتكم على دينِكم، فقد رأيتُ؛ فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل".

وبمراجعة التاريخ نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقد أرسل كتابه إليه بعد صلح الحديبية مباشرةً، وكان هرقل آنذاك يحتفل في إيلياء (القدس) باستعادة الصليب المقدس، وبانتصاره الكاسح على الإمبراطورية الفارسية، حيث أصبحت روما هي القطب الأوحد للعالم، واستحق هو شخصياً لقب "ملك الملوك". أي أن هرقل كان آنذاك في أوج جبروته، ولم يكن من المعقول أن يرضخ أو حتى يهادن مجموعة من "البدو" لا يتعدى نفوذها مدينة صغيرة في صحراء بعيدة. ولم تخض أي حرب حقيقية غير الغارات القبلية البسيطة، بل ومنع سيدهم صلى الله عليه وسلملتوه من مجرد الدخول إلى مدينته الأم معتمراً.

 وبذلك فإن ميزان القوى (بالمقاييس المادية) كان يرجح كفة هرقل وإمبراطوريته على تلك الجماعة بأشواط بعيدة. وهو ما لا ينسجم بتاتاً مع ما سنوضحه من طريقة تعامله معهم، والتي يظهر فيها جلياً خوفه من المسلمين. بالتأكيد ليس كقوة بشرية، وإنما كقوة مدعومة بتأييد إلهي، وتحت قيادة النبي المنتظر، الذي سيظهر الله أمره مهما كره أعدائه.

وعلى الرغم من أن الإمبراطور هرقل قد اعتبر بمصير البابا هونوريوس، وآثر حياته وملكه، على علمه قناعته، إلا أنه حاول، وفي الوقت نفسه، أن يمد حبال الود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد له بالنبوة، وأرسل الهدايا ورسائل التبرير والاعتذار، إحداها لا تزال محفوظةً ضمن المقتنيات الخاصة بالديوان الملكي الأردني: "إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى، من قيصـر الروم: إنه جاءنـي كتابك مـــع رسولك، وإنــي أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريـــم. وإني دعـــوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم".

ورغم رفض الرسول صلى الله عليه وسلم لإيمانه الناقص قائلاً: "كذب عدو الله، ليس بمسلم"، إلا أن هرقل لم يقطع حبل الود معه، فنهى بصرامة أحد أتباعه (ملك الغساسنة "الحارث بن ابي شمر") عن حملة تأديبية أمر بتجهيزها بعد أن وصله بدوره كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبقائه على ملكه شرط أن يسلم. بل وسكت بعد ذلك بثلاثة سنوات عن تحدي الرسول صلى الله عليه وسلم للسلطة الرمانية، باقتحامه حدود الإمبراطورية مع ثلاثين ألفاً من جنده. حيث فوت هرقل فرصة ًلن تتكرر ثانيةً؛ كونهم كانوا يشكلون آنذاك الغالبية العظمى من المسلمين القادرين على حمل السلاح، وكانوا طوال الطريق منهكين جائعين وعطشى (جيش العسرة)، وفيهم صاحب الدعوة الذي بقتله يقضي على شوكة الإسلام قضاء مبرماً قبل أن يستفحل خطره. وقد عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة عشرين يوماً في "تبوك" (أي بمتناول قبضة هرقل)، وهو يسقط هيبة روما من نفوس العرب جميعاً، ويؤمّن حدوده الشمالية، مرسلاً السرايا إلى ملوك النواحي والحكام المخلصين لها، ومتقبلاً الهدايا والجزية السنوية من الذين بدؤوا يراجعون مواقفهم ويقارنون بين جدوى الاستمرار في الولاء للإمبراطورية أو تحويل هذا الولاء إلى الدولة الإسلامية الناشئة، وعاقداً معاهدات الحماية مع العرب من أهل تلك المناطق، ليحيلهم بموجبها من تبعية الإمبراطورية الرومانية التي قص أجنحتها هناك، إلى سلطان دولة الإسلام، مع أن أغلبهم كانوا لا يزالون على النصرانية.

ولولا أن تحداه جيش مؤتة بطريقة لم تترك له مجالاً لمزيد من التهرب، لكفَّ قادة جيشه أيضاً عن قتالهم. ورغم أن الجيش الإسلامي قد أثخن في الجيش الروماني، الذي يفوقه عدداً بستة وستين ضعفاً، فقد سمح لهم بالانسحاب بأقل الخسائر، (إثنى عشر شهيداً)، رافضاً نصيحة قواده بمطاردتهم.

وحتى عندما لجأ إليه أحد سادات الخزرج "أبو عامر الراهب" (وكان قد تنصر في الجاهلية، وعلا شأنه بين نصارى العرب) يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم، أقامه عنده يعده ويمنيه، دون نية جادة باستغلال هذه الفرصة. فوعد أبا عامر على وعد هرقل جماعة من قومه المنافقين في المدينة بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك (مسجد ضرار). وظل هرقل يعد ويمني أبا عامر الراهب ست سنوات إلى أن تهاوت مصداقيته لدى منافقي المدينة، وقطع منه الأمل.

ولكي نفهم أسباب إيمان هرقل بخاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم، التي جعلته يقوم بكل هذا، وطبيعة شخصيته التي جعلته على الرغم من ذلك يؤثر دنياه ويضن بملكه متهرباً من دفع استحقاقات إيمانه كاملةً، يتوجب علينا نمر بدايةً على نشأته، وتعليمه، وطرقة في التقصي، وظروف حياته.

ولد هرقل لعائلة نصرانية محافظة من أصول أرمنية، وكان ابوه أسقفاً يحكم المقاطعة الإفريقية من الإمبراطورية، لذا حرص على تنشئته نشأة دينية وعسكرية. ولما كان هرقل مولعاً بعلم النجوم، فقد اهتم بالذات بنبوءات كتبهم المقدسة، ومنها قرب ظهور النبي المنتظر وصفاته التي كانت لاتزال محفوظة من الحذف وإعادة الصياغة والخلط. فآنذاك لم يذع خبر الإسلام بعد، ومن ثم فلم يكن هناك داع للتلاعب بالترجمة والتأويل والتمويه، كما حصل لاحقاً بشكل منهجي لنفي نبوءة صلى الله عليه وسلم  من جذورها. (مثل إستبدال كلمة العرب بالمساء، ومحمد بالمشتهى، وبيركليتوس (المحمود) بباراكليتوس (المعزي)، والإسلام بالسلام، وعرفات بقفار، وبكة بالبكاء...إلى آخره) وقارن ذلك بما أشارت إليه النجوم، بزعم الحزائين آنذاك، إلى قرب ظهور "ملك الختان" الذي ولد بقران العلويين ببرج العقرب المائي، (وكانا يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة).

وكان شكه آنذاك منصباً بشكل كامل جهة اليهود، ولكن أثناء وجوده في القدس للإحتفال بانتصاره، رأى رؤيا، أولها بظهور ملك الختان، ومواجهته له. وشاء الله أن يرسل له الملك الغساني صبيحة اليوم التالي بخبر كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إليه مع "عدي بن حاتم الطائي" (وكان آنذاك لاجئاً عنده هرباً من الرسول صلى الله عليه وسلم) وعرف منه أن العرب يختتنون، فتحول شكه إليهم. وعندما وصله بعدها دحية بن خليفة الكلبي بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، لاحظ أن "جبهته تتحادر عرقا من كرب الصحيفة" (حسب تعبيره) عندما سمع ترجمتها.

ولم يكتفي هرقل بعلمه بالكتاب والتنجيم في مثل هذا الأمر الجلل، فأرسل إلى البابا هونوريوس الأول، والأسقف سيرجيوس يستفتيهما، فوافقاه فيما ذهب إليه. ومع ذلك أجرى تحرياته الخاصة متبعاً منهجاً علمياً للتأكد مما توصلوا إليه. فقد كان ذلك الوقت هو موعد رحلة الصيف لتجار مكة، فأمر بالبحث عن قافلتهم وإحضارهم للمثول بين يديه. فوجدوهم في مدينة غزة، وأتوا بهم إليه في القدس، فأمر بأن يدنو إليه أشرفهم وأقربهم للرسول صلى الله عليه وسلم، (أبو سفيان وكان لا يزال مشركاً) ويقف الباقون خلف ظهره، ثم أخذ يطرح عليه الأسئلة بعد أن أمرهم عن طريق ترجمانه بأن يكذبوه إن كذب. فقال بعد استجوابه: "إن يكن ما تقول حقاً، إنه لنبي. وقد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظنه منكم. ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين من حوله من عظماء الروم، وكثر لغطهم، فلا أدري ما قالوا، وأمر بنا فأخرجنا" حسب تعبير ابو سفيان في حديثه الطويل.

أما عن ظروف حياته فلم ينتمي هرقل لأسرة إمبراطورية حاكمة كما أسلفنا، وما كان مقدراً له أن يصبح أمبراطوراً، بل وأقوى حاكم في عصره، لولا تظافر عدة ظروف، شكلت بمجملها أحد نبوءات القرآن الكريم، التي أكدت شكوكه بتدبير إلهي للمتغيرات الإعجازية التي مهدت لانتصاراته في السنوات العشر الفائتة، والتي وسأحاول أن أمر عليها بأشد إيجاز ممكن رغم كثرة تفاصيلها وخلفياتها.

بدأ الموضوع إثر انقلاب سياسي على الإمبراطور "موريس" من قبل أحد قادته ويدعى "فوكاس"، الذي قضى عليه وعلى عائلته بطريقة وحشية، ليصبح بعدها الإمبراطور الجديد. ولكن إمبراطور فارس "كسرى أبرويز الثاني" كان بمثابة الإبن للإمبراطور موريس، إذ كان قد لجأ إليه عام 591م، بسبب مؤامرة داخلية في الإمبراطورية الفارسية، حيث أمده موريس بجنوده لاستعادة العرش، وزوجه ابنته. فلما عرف بانقلاب الروم على حماه أعلن عدم اعترافه بشرعية حكومة الروم الجديدة، وألغى معاهدة السلام بين الإمبراطوريتين، ثم أغار بكل ما يملك من قوة على بلاد الروم طلباً للثأر.

ولم يتمكن فوكاس، الذي لم يتجاوز بعد تداعيات انقلابه الدموي، من مقاومة جيوش الفرس، خاصة بعد أن ناصرته الطوائف النصرانية المضطهدة من قبل الرومان كالآريوسيين (النصارى الموحدين الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم لاحقاً في كتابه لهرقل) والنسطوريين، واليعاقبة، وتبعهم اليهود، مما وسع حدود فارس على حساب روما. فأرسل مجلس الشيوخ الروماني رسالة سرية إلى الحاكم الرومي في المستعمرات الإفريقية يناشدونه إنقاذ الإمبراطورية، فأرسل إليهم إسطولاً صغيراً بقيادة ابنه الشاب هرقل، الذي استطاع أن يستولي بمساعدتهم على عاصمة الإمبراطورية دون مقاومة تذكر، وقتل فوكاس الخائن.

ولو كانت نوايا كسرى طيبة في حقيقة الأمر، لاصطلح مع الروم بعد قتلهم فوكاس، ولاستقبل هرقل كخير صديق أخذ بثأر حليفه. ولكنه كشف نواياه الحقيقية عندما قرر مواصلة الحرب. وبالطبع لم يتمكن هرقل من إيقاف طوفان الفرس، فضاع من الروم تدريجياً كل ما ملكوا من البلاد في شرق العاصمة، وجنوبها، حتى تقلصت الإمبراطورية الرومانية إلى حدود اليونان فقط. وسدت عليها جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس، وعم القحط، وفشت الأمراض الوبائية. وأراق الفرس دماء ما يقرب من 100.000 من النصارى المسالمين، وأرغموا الناس على عبادة الشمس، واغتصبوا الصليب المقدس، وأرسلوه إلى المدائن. وبعد ذلك كله من كسرى على هرقل باعترافه بما بقي له من ملكه شروط أن يدفع له جزية مذلة (ألف تالنت من الذهب، وألف تالنت من الفضة، وألف ثوب من الحرير، وألف جواد، وألف فتاة عذراء).

وليت الأمر اقتصر على هذا فحسب؛ ففي السنة 617 عبر الدانوب جمع غفير من "الصقالبة"، وعاثوا في البلاد فساداً. ولم تكد تنجلي المحنة وينقضي عامان حتى كرّ الصقالبة كرةً أخرى، جارين وراءهم الآفاريين" أيضاً. ومازالوا حتى بلغوا إلى ضواحي القسطنطينية، فنهبوا ودمروا وأحرقوا وسبوا، ولم يتراجعوا إلا بعد أن زاد لهم هرقل الإتاوة، وأصبحت الإمبراطورية الرومانية لا تتعدى حدود القسطنطينية المهددة من الجهتين، كما أفلست الدولة وأصبحت خزائنها خاوية نتيجة الإتاوات وفقدان خراج الأقاليم والحصار الاقتصادي.

وهنا استبد اليأس والقنوط بهرقل، وقرر الهرب من روما عائداً إلى قصر أبيه في "قرطاجنة" على الساحل الإفريقي؛ فلم يعد يهمه أن يدافع عن الإمبراطورية، بل كان شغله الشاغل هو إنقاذ نفسه.

وفي تلك الحالة البائسة، نزلت كلمات الله تعالى على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: }الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4){ صدق الله العظيم [سورة الروم]. وهنا أخذ انقلاب يظهر على ساحة الإمبراطورية الرومانية. يصفه المؤرخ "جيبون" على النحو التالي: "إنها من أبرز البطولات التاريخية، تلك التي نراها في هرقل؛ فقد ظهر هذا الإمبراطور غاية في الكسل، والتمتع باللذات، وعبادة الأوهام في السنين الأولى، والأخيرة (إشارة إلى تهاونه في وقف المد الإسلامي) من حكمه. كان يبدو كما لو كان متفرجاً أبله، استسلم لمصائب شعبه، ولكن الضباب الذي يسود السماء ساعتي الصباح والمساء، يغيب حيناً من الوقت لشدة الشمس في الظهيرة".

وفجأة عاد هرقل إلى الله، وتاب عن نكاح المحارم الذي كان يمارسه مع ابنة أخته، ونفض عن نفسه الكسل، وتخلى عن فكرة الهرب، بل أعد أسطولاً للإغارة على الفرس من الخلف، وسار بجيوشه عن طريق البحر الأسود إلى وطنه الأم أرمينيا، وشن من هناك على الفرس هجوماً مباغتاً، لم يستطع الفرس مقاومته، فلاذوا بالفرار. وكان كسرى قد عقد مجمعاً كنسياً مسكونياً (مجمع طيسفون 614م) تدخل فيه بالعقائد النصرانية، رغم أنه زرادشتي، وحرمهم لاحقاً من ممارسة دينهم بما يخالف قراراته، مما أدى إلى عودة الطوائف النصرانية المضطهدة إلى أهون الشرين، بعدما خبرت اضطهاد عبدة النار. فاستعاد بهم هرقل سيطرته على كامل أراضي الإمبراطورية الرومانية.

ثم عاد إلى القسطنطينية عن طريق البحر، حيث عقد معاهدة مع أعدائه القدامى من قبائل "اللومبارديين" و"الآفاريين" ذوي المذهب الآريوسي، بعد نجاح المساعي غير المتوقعة من البابا هنوريوس الأول بعقد سلام معهم، واستطاع بنصرتهم أن يشن ثلاث حروب أخرى ناجحة ضد الفرس في السنوات 623، 624، 625م، حتى استطاع أن ينفذ إلى أراضي العراق عن طريق البحر الأسود، وأصبح في مركز يسمح له بالتوغل داخل الحدود الفارسية، حتى أنه تمكن سنة 628م من فتح مدينة "دستجر" على بعد ثمانين ميلاً فقط من عاصمة الفرس (المدائن). وزاد من سوء وضع الفرس استيلاء "قباذ" الملقب بشرويه على عرش أبيه كسرى وقتله سنة 628م. ليبدأ ملك كسرى بعد ذلك بالتمزق (كما تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) ويصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، فقتل شرويه بعد ستة أشهر من قبل أحد إخوته، ثم توالت انقلابات الأمراء، حتى جلس على عرش فارس عشرة أباطرة، منهم أربعة من النساء، في مدة أربع سنوات فقط.

وقد أدت كل تلك الظروف الغير منتظرة إلى غلبة الروم على الفرس بعد غلبتهم ببضع سنين، وبشكل خالف في تلك الفترة كافة التوقعات السياسية والعسكرية، وحتى المنطقية. بل وأدى لاحقاً، وعلى مرأى من هرقل، إلى تتمة تحقيق نبوءة أخرى للرسول صلى الله عليه وسلم (كما أشرنا سابقاً) بتمزق ملك الفرس كما مزق كسرى كتابه، وزوال الدولة الساسانية نهائياً على يد المسلمين سنة 637م بعد أن دامت وازدهرت لأكثر من أربعة قرون. وهو ما أكد له صحة ما ذهب إليه من تجنب المخاطرة بأي صدام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كي لا يفرط بالملك الذي تحصل له بعد كل تلك الحروب، وجعله سيد العالم الأول بلا منازع.

وكما تجلى (في المقال السابق) سبب الغموض الذي أحاط بتاريخ الكنيسة وتقويمها منذ الإختفاء المريب للبابا هونوريوس الأول، وطيلة زمن تسع باباوات من بعده، يتجلى لنا في هذا المقال سبب الغموض الذي حير كل المؤرخين الذين تناولوا فترة ظهور الإسلام، وعجزهم عن تفسير غياب الصراع الروماني المسيحي الحازم ضده، وسبب اندفاع جيوش الإسلام عبر الحدود الرومانية بسهولة مريبة، وفتوحاتها الأسطورية، مع أن الإمبراطورية كانت أقوى قوة على وجه الأرض آنذاك. والأهم من ذلك حيرتهم في تفسير غياب الكتابات المسيحية المضادة للإسلام لفترة امتدت قروناً من الزمن، مع أن التهديد الإسلامي كان يتعاظم! حتى لجأ بعضهم إلى المبالغة في فرضية "السنوات الشبحية في التاريخ الميلادي" في محاولة لإيجاد تفسير بهلواني لذلك الغموض. إلا أن الأمر يبدو منطقياً الآن بعد كل هذه المعطيات التي حاولت تفصيلها بأقصى ما يسمح به حدود المقال. وستصبح بإذن الله أكثر منطقية وأشد وضوحاً وأوسع إلماماً في حال رجوعكم إلى الرواية الثالثة من سلسلة رحلة أبراهام بعنوان "كهولة قبل البلوغ".

 

 

أعلى