سوريا: الانشقاقات العسكرية ورهانات الثورة

سوريا: الانشقاقات العسكرية ورهانات الثورة

عانت المؤسسة العسكرية السورية في عهد "بشار أسد" من شروخ بنيوية ظهرت بوادرها لأول مرة عام 2004، وذلك عندما قام القصر الجمهوري بحركة تصفيات طالت حوالي 40 بالمائة من ضباط القيادة في دمشق، وكان الهدف من عملية التطهير تلك؛ تحجيم القادة العسكريين الذين تزايد نفوذهم، وتعيين ضباط موالين، على رأسهم العماد علي حبيب الذي عين رئيساً للأركان آنذاك.

ومنذ ذلك العام بذل العماد "علي حبيب" جهوداً مضنية لإحكام قبضة القصر الجمهوري على المؤسسة العسكرية، إلا أنه عانى في الفترة: 2005-2009 من وقوع خلافات كبيرة بين ضباط الجيش، وقعت فيها عمليات تصفية جسدية شملت كلاً من: وزير الداخلية ورئيس الأمن السياسي السابق اللواء "غازي كنعان" (2005)، وشقيقه "علي كنعان" (2006)، والعميد "محمد سليمان" (2008)، وذلك في ظل خروق أمنية أدت إلى مقتل "عماد مغنية" (2008).

في هذه الأثناء، كان صهر الرئيس اللواء "آصف شوكت" مشغولاً بإقصاء خصومه، وتعيين الموالين له في الجيش وقوى الأمن، وعندما ظنّ أن الأمور قد استتبت له وجد نفسه في خط المواجهة مع شقيق الرئيس "ماهر أسد"، وأدى الخلاف بين الخصمين اللدودين "آصف" و"ماهر" إلى حركة تسريحات وتنقلات دفعت بالقصر الجمهوري للقيام بعملية تطهير ثالثة عام 2009، فأعاد هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية، واستبدل مكتب "الأمن القومي" بمجلس "الأمن الوطني"، مما أدى إلى تذمر "شوكت" ورفضه الالتحاق بمكتبه الجديد بصفته نائباً لرئيس الأركان.

وعلى الرغم من نجاح القصر الجمهوري في فرض حالة من التكتم على الصراعات الداخلية التي هزّت قيادة الأركان عام 2009، إلا أن الثورة السورية قد أعادت هذه الصراعات إلى الواجهة من جديد:

- ففي 8 أغسطس 2011 غاب العماد علي حبيب عن المشهد العسكري، بعد تردد الحديث عن تذمره من إدارة ماهر أسد للحملة ضد المتظاهرين، وما نتج عن ذلك من تمرد عناصر من الجيش.

- وفي اليوم ذاته أُعلن تعيين العماد "داود راجحة" خلفاً "لحبيب"، وكانت بعض المصادر المطلعة قد وصفت "راجحة" بأنه ضابط ضعيف ليس له قيمة في معادلة التوازنات العشائرية داخل قيادة الجيش.

- ولم يكن خلف "راجحة" في رئاسة الأركان أفضل حالاً منه؛ فقد تخطت قيادة القصر الجمهوري العماد "آصف شوكت" وهو الضابط الأرفع رتبة بين النوّاب الثلاثة، وعمدت إلى تعيين العماد "فهد جاسم الفريج" رئيساً للأركان في 11 أغسطس 2011، وكان القرار مفاجئاً لأن "الفريج" لا يملك نفوذاً يذكر داخل المؤسسة العسكرية، وبدا من الواضح أن الهدف من هذا الإجراء هو عزل رئاسة الأركان عن قيادة العمليات العسكرية ضد الثورة.

- أما الإجراء الرابع فقد تمثل في إقصاء "آصف شوكت" عن رئاسة الأركان من خلال تعيينه نائباً لوزير الدفاع في 13 سبتمبر 2011، وذلك في انحياز واضح للفريق الذي يديره "ماهر أسد" في القصر الجمهوري.[1]

- وفي استمرار لمسلسل مفاجآت رئاسة الأركان؛ أعلنت وكالة الأنباء السورية الوفاة "المفاجئة" لنائب رئيس الأركان الثالث العماد "بسام نجم الدين أنطاكيه لي" على "إثر نوبة قلبية حادة" في 24 سبتمبر 2011، وبذلك فقدت رئاسة الأركان نائبيها دفعة واحدة، وأحيل رئيسها للحكومة، وعين الثالث نائباً له في عملية تطهير شاملة لقياد الجيش السوري.

الأيام الأخيرة في مكتب وزير الدفاع العماد "علي حبيب"

تولى العماد "علي حبيب" منصب رئيس الأركان عام 2004، ثم خلف العماد "حسن توركماني" وزيراً للدفاع عام 2009، وفي غضون هذه الفترة حاول حبيب بسط سيطرته على المؤسسة العسكرية من خلال إضعاف نفوذ الضباط المتنفذين، فتبنى سياسة التوسع الأفقي للجيش مما أدى إلى تقوية الصف الثاني من قادة الفرق والألوية، وارتفاع عدد التشكيلات العسكرية الوسطى على مستوى لواء وكتيبة بنسبة 150 بالمائة، ونتج عن ذلك ارتفاع نسبة السنة بين قادة الكتائب من 35 بالمائة إلى 65 بالمائة في غضون خمسة أعوام، وارتفاع نسبتهم في التشكيلات القيادية التابعة للقيادة العامة من 38 بالمائة إلى 54 بالمائة في الفترة نفسها.

أما على الصعيد المهني فقد تميز "علي حبيب" بكفاءته في قيادة القوات الخاصة، وكوفئ على ذلك بتعيينه قائداً لفرقة النخبة السورية التي شاركت في تحرير الكويت عام 1991، وفي هذه الأثناء عمل حبيب على تقوية صلاته مع قيادات عسكرية في دول الخليج العربي، وبذل جهوداً كبيرة لفك العزلة عن المؤسسة العسكرية، والتخلص من السمعة السيئة التي جلبتها عملية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق "رفيق الحريري" على ضباط الجيش.

ولدى اندلاع الثورة السورية وجهت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تحذيراً غير مباشر إلى القيادة السورية بضرورة إقصاء فرق الجيش النظامي عن بؤر التوتر لأنه لا يمكن ضمان ولاء هذه الفرق للنظام في حالة المواجهة مع الشعب، وأشارت هذه المصادر إلى أنه قد يكون من الممكن المحافظة على ولاء فرق النخبة المرابطة في درعا، إلا أنه ليس من الحكمة توريط الفرق الأخرى في عمليات قمع واسعة النطاق في كل من حماة وحمص ومدن الساحل السوري.

وقد ترددت أصداء هذه التحذيرات في الأروقة الغربية والعربية؛ حيث أكد خبير عسكري غربي أن: الجيش السوري سينقسم إذا جرت محاولة تكرار مذبحة حماة، وسربت إحدى الصحف العربية معلومات عن وجود: ضباط مستعدين للمساهمة بدور فاعل في الإطاحة بنظام "أسد" إذا أوغل في العنف ضد المتظاهرين.

ونتيجة لذلك فقد وقف "علي حبيب" موقف المعارض لتدخل الجيش في مدينة حماة، وتم تأخير اجتياح المدينة عدة مرات بسبب معارضته، ولم يرق له أن تعمل فرقه تحت قيادة الأجهزة الأمنية، فأخذ يجاهر بتذمره من إقحام فرق الجيش في عمليات قتالية داخل المدن، وما نتج عن ذلك من فقدان ألويته بعض المدرعات في الرستن وتلبيسة وكناكر ودرعا ودير الزور، وكان لظهور صور الدبابات السورية في قبضة الشعب وقد رفعت عليها شعارات الثورة أثر سلبي على معنويات "علي حبيب".

تزامنت هذه الأحداث مع وقوع انشقاقات عسكرية في درعا، واندلاع اشتباكات على مستوى الدبابات بين العناصر المنشقة والقوات الموالية للنظام السوري، أما في الحسكة ودير الزور والبوكمال؛ فقد اضطرت رئاسة الأركان إلى سحب جميع الفرق المرابطة فيها واستبدالها بعناصر من الفرقة السابعة، وفي 31 يوليو 2011 رفضت قيادة إحدى الفرق المدرعة التحرك من قطنا في عصيان شمل جميع أفراد الفرقة.

وعلى الرغم مما أبداه العماد "علي حبيب" من تذمر تجاه الأوامر الواردة من القصر الجمهوري؛ إلا أن رئاسة الأركان قد تحملت الجزء الأكبر من المهانة في وسائل الإعلام العربية والغربية، وما لبث "حبيب" أن اختفى عن المشهد العسكري في 8 أغسطس وسط أنباء عن مقتله.

وتنقل بعض المصادر التركية عن وزير الخارجية "أحمد داود أغلو" الذي زار دمشق في تلك الفترة؛ أنه وجد الأجواء متوترة داخل القصر الجمهوري، ولما سأل عن صحة "علي حبيب" جاءته الإجابة بأنه خضع لعملية جراحية ولن يتمكن من مقابلة أحد قبل شهرين!

وأكدت صحيفة "نيويورك تايمز" أن إقالة "علي حبيب" جاءت على خلفية الانقسام الواقع داخل الطائفة الحاكمة، مشيرة إلى احتمال انقلاب العلويين على نظام الحكم؛ خاصة وأن عائلة "حبيب" تعتبر أكبر من عائلة "أسد" داخل عشيرة المتاورة، وأكدت الصحيفة أنه: إذا اطمأن قادة العلويين البارزين إلى سلامتهم، فإنهم قد يشرعون في سحب تأييدهم من أسرة الأسد ويجربون حظهم مع المعارضة، وإشارة منهم يمكن أن تقنع قادة الجيش العلويين المتنفذين بالانشقاق وأخذ ضباط آخرين معهم.

القصر الجمهوري يخوض معركة البقاء

تؤكد المصادر الغربية أن الدائرة المغلقة حول "بشار أسد" تخوض معركتها الأخيرة، ففي تحليل نشر في 4 أكتوبر 2011؛[2] رأى "ثيو باندوس" أن المجموعة المحيطة بالرئيس قد تلجأ إلى ممارسات غير مسبوقة من أجل البقاء، ويمكن تلمس ملامح هذه المجموعة في فرقة العمليات التي شكلها القصر الجمهوري لمواجهة التظاهرات الشعبية، وتضم قادة الأجهزة الأمنية وفرق النخبة العسكرية التابعة للقصر الجمهوري ومستشاري الرئيس وعلى رأسهم: "محمد نصيف"، و"حسن خليل"، و"عبد الفتاح قدسية"، و"علي المملوك"، و"ماهر أسد".

وبمجرد اندلاع الأحداث عمدت هذه المجموعة إلى الزج بفرق حماية النظام في مواجهة المتظاهرين، وتتمثل هذه القوى في: القوات الخاصة، والحرس الجمهوري، والفرق المدرعة: الرابعة، والسابعة، والحادية عشر، واللواءين المدرعين (الرابع عشر والخامس عشر) التابعين للفيلق الثالث بحلب، كما تردد الحديث عن إلحاق الفرقة المدرعة الثالثة بالقصر الجمهوري.

أما القيادة الأمنية فقد زجت بقواتها من أجهزة: الاستخبارات العسكرية، والأمن السياسي، والأمن العام، والمخابرات الجوية، ومكافحة الشغب، ودعمتهم بفرق من عصابات الشبيحة والمرتزقة من أصحاب السوابق.

وللتأكد من تماسك الدائرة المغلقة حول الرئيس والتقليل من فرص التمرد والاختلاف؛ قام القصر الجمهوري بإقصاء أجهزة الحكومة وكوادر حزب البعث، وتم عزل قيادة الجيش النظامي عن إدارة العمليات، في حين أخضعت أجهزة الإعلام لسيطرة الرئاسة من خلال تبني الرئيس ونوابه ومستشاريه إدارة الحملة الإعلامية، وقيامهم ببث هواجس "المؤامرة الخارجية"، إضافة إلى مهاجمة الإعلام العربي والغربي، واستهداف جميع أطياف المعارضة دون تمييز.

استهداف المنشآت المدنية وقتل المدنيين: إرث بعثي

استفاد النظام السوري خلال العقود الخمسة الماضية من حالة التعتيم الإعلامي، حيث دأب على تكييف الأحداث وفق رواية رسمية واحدة لا منازع لها على المستوى المحلي.

إلا أن تغطية الإعلام الدولي لأحداث سوريا مثلت تحدياً كبيراً لأجهزة الإعلام السوري التي دأبت على تحذير المواطنين من مشاهدة: "القنوات المغرضة"، واقتصرت استراتيجيتها على نفي كل  شيء!

أما على الصعيد الدولي فقد أصبحت صور التعذيب المروع، والقتل الجماعي، وتدمير المساجد، واقتحام البيوت؛ جزءاً من التغطية الإخبارية اليومية في سوريا، دون أن يدرك الرأي العالمي أن أعمال القمع، واقتحام المدن بالمدرعات واستهدافها بالطائرات والمدفعية الثقيلة هي سمة ملازمة لحكم البعث منذ قيامه:

- ففي عام 1963 قصفت الطائرات الحربية مبنى رئاسة الأركان في دمشق، وأمر "أمين الحافظ" بزج الدبابات والمدفعية تحت إمرته في شوارع دمشق، وحصدت مدرعاته أرواح نحو خمسين من المدنيين، إضافة إلى 27 ضابط تم إعدامهم فور السيطرة على مقر قيادة الأركان.

- وفي عام 1964؛ اقتحم "حمد عبيد" مدينة حماة بالدبابات، واستخدم المدفعية لدك مسجد السلطان الذي قتل فيه أكثر من ستين شخصاً.

- وفي عام 1965 اقتحم "سليم حاطوم" المسجد الأموي وأمر بإطلاق نيران المدفعية على المصلين فقتل منهم عدداً كبيراً، واعتقل العشرات.

وما لبثت دوامة العنف أن احتزت رؤوس النظام البعثي وعلى رأسهم: "صلاح جديد" الذي لقي حتفه في سجن رفيق عمره "حافظ أسد"، و"محمد عمران" الذي تتبعته مخابرات "أسد" وقتلته في بيروت عام 1972، و"أمين الحافظ" الذي خاض معركة شرسة في مواجهة قوة قادها "سليم حاطوم" أودت بحياة فرقة كاملة من حراسه وأصيب فيها بجروح بليغة عام 1966، ثم قُتل "سليم حاطوم" على يد "عبد الكريم" الجندي الذي قام بتكسير أضلاعه قبل إطلاق النار عليه في يونيو 1967، وما لبث "عبد الكريم الجندي" أن لقي حتفه في هجوم شنه "رفعت أسد" على مكتبه في مارس 1969.

وفي مطلع الثمانينيات ولغ "رفعت أسد" في دماء الشعب السوري، وارتكبت قواته سلسلة مجازر دموية في تدمر وحلب وإدلب وجسر الشغور، وشهدت مدينة حماة في شهر فبراير 1982 آخر عمليات "رفعت" وأكثرها دموية حيث قامت فرق النخبة بالجيش السوري، مدعمة بالدبابات والمدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ والطائرات المروحية بحملة عملية عسكرية واسعة تبعتها عملية مسح لأحياء المدينة القديمة قتل فيها حوالي 30 ألف نسمة أغلبهم من المدنيين، وانتهى طموح رفعت العسكري على يد أخيه "حافظ" الذي نفاه على خلفية محاولة انقلابية فاشلة عام 1984.

وتقودنا هذه الحقائق لتقرير حقيقة مهمة تتمثل في ارتباط النظام البعث السوري منذ تأسيسه باستهداف المواطنين في حروب المدن، وتوجيه قذائف الآليات العسكرية والمدفعية الثقيلة ضد المدنيين العزل، ولا شك بأن الدول التي تتهم المتظاهرين بالمواجهة العسكرية وتسم حركة الاحتجاجات السلمية بالعنف؛ تجانب الحقيقة، وترتكب هذه المغالطات بهدف تبرير مواقفها المخزية من معاناة الشعب السوري.

الآثار المترتبة على تصدع أركان المؤسسة العسكرية

أ- ارتفاع وتيرة العنف

على الرغم من الإمكانات الكبيرة المتوفرة للقصر الجمهوري، فإن أداء قيادته لا تزال بعيدة عن المهنية والاحتراف؛ فعندما عجزت فرق النخبة وأجهزة الأمن عن السيطرة على الأوضاع الداخلية؛ لجأت إلى الجيش النظامي الذي سرعان ما ظهرت بوادر التمرد في كتائبة وألويته، فاضطر القصر إلى تفعيل دور جهاز الاستخبارات العسكرية الذي فشل في المحافظة على تماسك الجيش، فقد أدى الاستخدام المفرط للعنف إلى توسيع رقعة الانشقاقات بين الضباط المحايدين والذين استهدفهم النظام بحملة قتل دفعت بالكثير منهم إلى التمرد ورفع السلاح في مواجهة النظام.

ولما فشلت الاستخبارات العسكرية في أداء مهمتها؛ هبت الميليشات الطائفية لنجدة حلفائها في دمشق، حيث أعلنت لجنة تابعة للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة أن إيران و"حزب الله" اللبناني متورطان في قتل الجنود السوريين الرافضين لإطلاق النار على المتظاهرين، وأوضحت اللجنة أنها تمتلك معلومات دقيقة وصوراً للاجئين وجنود منشقين أدلوا بشهاداتهم حول تعرضهم لإطلاق النار من قبل عناصر من "حزب الله" والحرس الثوري الإيراني، وذلك بسبب رفضهم إطلاق النار على المتظاهرين.[3]

ب- تزايد الانشقاقات العسكرية

إن توجه النظام نحو تصعيد عمليات القمع عبر قتل أقطاب المعارضة المدنية، وخطف النساء، وتكثيف حملات الاعتقال الجماعي والقتل العشوائي؛ تهدف جميعها إلى تعزيز مناخ العنف والعمليات الانتقامية خاصة في مخيمات اللاجئين وفي المحافظات التي تهيمن عليها عشائر يمتلك أفرادها أسلحة يدوية حصلوا عليها من خلال انضمامهم في مراحل سابقة إلى فرق الجيش الشعبي.

وعلى الرغم من تفهم الدوافع لمن يستخدم السلاح دفاعاً عن دمه وعرضه؛ إلا أن الثورة السورية تواجه خطر ظهور مجموعات مسلحة تمارس دوراً يتسم بالانتقامية، وتتفشى فيه روح الانفلات، وقد أثبتت المخابرات السورية قدرة عالية على توفير الدوافع الكافية لتشكيل مثل هذه المجموعات، ومن ثم استدراجها في مواجهات غير متكافئة، بهدف زيادة الضغط على الشعب، ولا تزال تمثل في أذهان الشعب السوري مرارة العمل المسلح الذي انتهى بخسائر فادحة إبان فترة الثمانينيات من القرن المنصرم.

وتكمن الإشكالية في أن هذه المجموعات لا تستطيع أن توفر الحماية اللازمة للمدنيين في مواجهة الآلة الحربية الضخمة للنظام بطائراته ومدرعاته ومدفعيته الثقيلة، وفي مقابل ذلك يحقق النظام أهدافاً عدة تتمثل في: تقديم الذريعة اللازمة لمهاجمة المدن واستهداف المتظاهرين السلميين، وتعزيز مشاعر القلق لدى القوى الإقليمية من خطر قيام عمل عسكري شعبي تتغلغل فيه التيارات الدينية المتطرفة والإثنيات العرقية التي يمكن أن تستهدف أمن تركيا بصفة خاصة، وإيهام هذه الدول بأن النظام السوري هو صمام الأمان لحماية حدودها، إضافة إلى توظيف الهاجس الأمني لدى اليهود بإمكانية اندلاع الفوضى إذا انهار النظام، ودفعهم للتأثير على الإدارة الأمريكية بتخفيف الضغط على النظام ومنحه المهلة اللازمة للقضاء على الثورة الشعبية.

ج- الانتقال إلى مرحلة جديدة من العمل الثوري

أكد "سيمون تسيدال" في مقال نشرته صحيفة الغارديان في 29 سبتمبر 2011 أن الثورة السورية قد دخلت منعطفاً جديداً يتمثل فيما أسماه: "مرحلة تسليح الثورة"، وهو التطور الذي باتت معه سوريا على حافة الانزلاق إلى حرب أهلية.

وتوقعت المصادر الغربية زيادة وتيرة العنف في الفترة المقبلة نتيجة إحكام دائرة الحصار الاقتصادي على النظام الذي يعاني أقطابه من توتر يدفع بهم لارتكاب المزيد من الجرائم الإنسانية، وسيؤدي ذلك حتماً إلى ارتفاع وتيرة الانشقاقات والمواجهات المسلحة.

وبناء على ذلك فإنه يتعين على جميع الجهات المعارضة أن تسعى إلى إعادة ترتيب الأوراق في مواجهة النظام الذي يحاول خلطها، وبالأخص منها ورقة العمل المسلح التي تعتبر الأكثر حساسية في مسيرة الثورة، حيث يفرض الواقع عليها استيعاب أهم متغيرات المرحلة التي تحولت فيها مظاهر السخط الشعبي إلى كيان ثوري يستهدف بنية الحكم، ويمثل بديلاً عن نظام الحكم الذي تنخر في جسده عوامل التعرية ومظاهر الفساد.

ففي مراجعته لنظريات الاجتماع السياسي حول فلسفة الثورة رأى "تيد غور" أن الثورات تمر بثلاثة مراحل رئيسة؛ إذ تنطلق في البداية من خلال اندلاع سخط شعبي عارم، ثم تتحول في المرحلة الثانية إلى حركة سياسية منظمة، وتتطور في المرحلة الثالثة لتشكل قوة تواجه نظام الحكم القائم بندية، وتعمل على هدم أركانه وتفكيك مؤسساته تمهيداً لتقديم البديل.[4]

التجاهل أم الترشيد؟

يمكن القول بأن حركة الاحتجاج السلمي في سوريا قد انتقلت بالفعل من مرحلة السخط الشعبي إلى مرحلة تشكيل البنية السياسية للعمل الثوري، مما يفرض عليها أن تواجه تحديات جديدة، يتمثل الأبرز منها في مواجهة التحدي المتمثل في تحول العمل المسلح إلى حقيقة واقعة فرضها النظام بتعسفه، وجاءت كنتيجة حتمية للتدهور الذي انتاب قيادة الجيش.

ويتعين على القوة الوطنية أن تعترف بوجود هذه الظاهرة، وأن تسعى إلى تدارك عواقبها الوخيمة، على المستويين؛ المحلي والإقليمي، وذلك من خلال ما يأتي:

1- الخروج من دوامة النقاش حول جدوى التدخل الخارجي لحماية المدنيين، والسعي إلى تقديم بدائل محلية يمكن أن يكون لها أثر إيجابي في التقليل من حجم الخسائر المدنية، والدفع باتجاه تحقيق النمط المصري (بدلاً من الليبي) في الانتقال السلمي للسلطة بأقل الخسائر.

2- احتواء حركة الانشقاقات العسكرية والتمرد المسلح، والعمل على ترشيد هذه الظاهرة واستيعابها ضمن إطار الحراك الوطني بدلاً من تجاهلها، والتمييز ما بين حركة الاحتجاجات الشعبية السلمية من جهة، والتمرد العسكري الذي جاء كنتيجة حتمية لتصدع أركان المؤسسة العسكرية وانهيار معنويات جنودها وضباطها من جهة أخرى.

3- في الوقت الذي تكسب فيه الحركة الوطنية زخماً متصاعداً وتسجل نجاحاً في تنظيم صفوفها؛ تظهر ملامح الإنهاك والضعف على مؤسسات النظام، مما ينذر بوقوع فراغ أمني يبدأ في المناطق النائية، مما يفرض على القوى الوطنية أن تدرس الخيارات المتاحة لديها للمحافظة على حالة السلم الأهلي، ومنع فرص الاقتتال الداخلي، وتوفير القاعدة الشرعية والقانونية للمبادرات العسكرية المتضامنة مع الشعب ومطالبه العادلة.

4- إدراك الأبعاد الإقليمية للأزمة السورية، وتفهم مخاوف الأتراك والدول العربية المجاورة من عواقب تخبط النظام وتلويحه بالتأزيم الإقليمي، وما يمكن أن يسببه ذلك من تأثير سلبي على أمن هذه الدول واستقرارها، والسعي إلى تقديم ضمانات بملء حالة الفراغ الأمني والحد من الخروقات التي يرتكبها النظام.

والحقيقة التي لا بد من إدراكها؛ هي أن النظام قد ارتكب سلسلة أخطاء فادحة في تعامله مع الحراك الشعبي، ولم يبق لديه خيار سوى التأزيم، والتهديد بإشعال المنطقة! ومحو أوروبا من الخارطة! ومعاقبة الدول التي تعترف بالمجلس الوطني! وعلى جميع القوى الوطنية أن تعمل جاهدة للسيطرة على انهيار المعنويات داخل المؤسسة العسكرية ومنسوبيها قبل أن تتحول إلى حالة انفلات أمني يقوم على الأعمال الانتقامية وردود الأفعال.


 


[1] كان آصف شوكت من أبرز ضباط الوحدات الخاصة، ثم قاد إحدى سرايا الاقتحام قبل أن ينخرط في جهاز الاستخبارات العسكرية ويصبح رئيساً لها خلفاً للواء حسن خليل، وعلى الرغم من خبرته وطول فترة خدمته؛ إلا أن القيادة العسكرية لم تغفر له صلاته المشبوهة بالسفارة البريطانية في عهد حافظ أسد، عندما تقدم بطلب للجوء في بريطانيا هرباً من بطش باسل، ومن ثم علاقاته المتينة مع بعض الضباط الأمريكان عندما شارك في محادثات السلام مع حكمت الشهابي، ومن ثم تكليفه بالتنسيق مع الأجهزة الغربية بعد 11 سبتمبر 2001. وفي الوقت ذاته، لم يكن شوكت يروق لماهر أسد الذي وقع منافسة شديدة معه طوال الفترة: 2004-2009 للسيطرة على الحرس الجمهوري والفرقة المدرعة الرابعة وجهاز الاستخبارات العسكرية.

[2] Theo Pandos (2011) ‘The Cult: The twisted, Terrifying Last Days of Assad’s Syria’. The New Republic, 4th October 2011.

[3] وكالة الأنباء الفرنسية 6 أغسطس 2011.

[4] Ted Gurr (1970) Why Men Rebel, Princeton, p. 15.

 

أعلى