مع النعم في سورة النحل

مع النعم في سورة النحل


 الحمد لله الغني الكريم؛ مسدي النعم ومتممها، ودافع النقم ورافعها، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق الخلق لعبادته، وأغناهم عن الحاجة لغيره، فأطعمهم وسقاهم وكساهم وآواهم، وقدر أرزاقهم، وضرب آجالهم، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يثني على الله تعالى بما هو أهله، ويُقِرُّ بما متعه من عطائه ونعمه، ويقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَلا يُطْعَمُ مَنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكُلُّ بَلاءٍ حَسَنٍ أَبْلانَا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعبدوه حق عبادته، وتفكروا في خلقه، واشكروه على نعمه، وتدبروا آيات كتابه؛ تزدادوا إيمانا ويقينا {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص:29].

أيها الناس: في القرآن عجائب لا تنقضي، وعلم لا ينتهي، لم يزل العلماء والمتدبرون منذ قرون ينهلون من علومه، ويستخرجون فنونه، فانقطعوا وما انقطعت، واندثروا وما انتهت، وعبت منها أجيال وأجيال فاتسعت وما نقصت، ولا بد أن يكون كذلك ما كان وصفه تبيانا لكل شيء.   

وسورة النحل من السور التي عددت نعم الله تعالى وفصلتها ولفتت القراء إليها، وبينت أوجه الانتفاع بها، ودعت العباد لشكرها، حتى سماها بعض السلف (سورة النعم) لما عدد الله تعالى فيها من النعم على عباده، فحري بمن قرأها بتدبر أن يعرف نعم الله تعالى عليه فيشكره عليها.

 وأول النعم وأعظمها وأهمها وأولاها: نعمة الهداية إلى الله تعالى، والعلم به سبحانه وبما يرضيه، وهي أول نعمة ذكرت في السورة، ودعي قارئها إليها، وتكررت في تضاعيفها لأهميتها {يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2] وفي خاتمة ربعها الأول تذكير بحملة الوحي ومبلغيه للناس؛ لاتباعهم فيه، وبيان دعوتهم التي دعوا إليها {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]  والرسول صلى الله عليه وسلم هو حامل القرآن ومبلغه، والعلماء هم حملة العلم من بعده ومبلغوه للناس؛ ليتتابع العلم بالله تعالى وبما يرضيه بين البشر جيلا بعد جيل إلى آخر الزمان، وهو ما نوهت به السورة في ثلثها الأول {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]،  ثم أكدته في وسطها مع بيان أنه هدى ورحمة، وفَصْل في المسائل الكبرى التي اختلف فيها البشر {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64]  وأكدت عليه أيضا في ثلثها الأخير {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89] وبينت أنه سبب للثبات على الحق {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102] فما أحوج المسلمين اليوم والفتن تحيط بهم من كل جانب إلى ملازمة القرآن تلاوة وفهما وتدبرا وعملا لتثبيت القلوب والربط عليها، وفي خاتمة السورة أمر باقتفاء أثر الخليل عليه السلام؛ لأنه رمز في الثبات على الحق، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل:123] هذا التكرار لنعمة الهداية وبيان مصادرها يحتم على المؤمن العناية بها على قدر عناية القرآن بها، وتكرير السورة لها.

وهذه النعمة هي أهم من نعمة خلق الإنسان؛ لأن خلقه سبب لابتلائه، فإن لم يهتد كان عدمه خيرا من وجوده، {وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النَّبأ:40] وما تمنى العدم إلا لما يرى من خسارته وشقائه.

ونعمة الخلق في سورة النحل جاءت تالية لنعمة الهداية  {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4]. ومن تمام نعمته سبحانه عليه في خلقه أنه ركب فيه أدوات تحصيل العلم؛ لينتفع بها في علوم دينه ودنياه، وهي نعم عدة تحتاج إلى شكر كثير {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].

 والعيش في الدنيا، وعمارة الأرض له ضرورات، لا يستغني عنها الإنسان، وهي المآكل والمشارب والمراكب والمساكن، وكلها مذكورة في هذه السورة، ففي المآكل والمشارب {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} {النحل:10-11} وفي مقام آخر {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:66-67].  

وفي نعمة الملابس {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل:81] وتلك ملابس الحر وملابس الحرب، وأما ملابس البرد ففي قوله تعالى {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5]. وأعقب نعمة الدفء بها نعما عدة وهي: ركوبها، وحمل المتاع عليها، والتجمل بها، واتخاذها زينة {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] لينتظم في هذه الجملة {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} كل ما يركبه الناس ويتزينون به مما يستجد لهم إلى آخر الزمان.

 وأما المساكن والأثاث من فرش وأغطية وأوان وغيرها ففي قوله سبحانه {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل:80-81]

 ويجمع ذلك كله، مع ما في الأرض مما ينفع الناس، وما يستخرجونه من باطنها قوله سبحانه: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل:13] .

 واستقرار الأرض ضرورة لعيش الإنسان فيها، وزراعتها وعمرانها، وشق طرقها، والسير فيها، فذللها الله تعالى للإنسان، ووفر له ما يحتاج إليه فيها {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:15-16].

 ولا تقتصر سورة النحل على ذكر ما في الأرض من نعم فقط، بل تتجاوزه إلى ما في البحر من خيرات الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:14].

 وتتجاوز سورة النحل ما في البر والبحر من نعم لتحلق بقارئها في الفضاء تذكره بما بثه الله تعالى فيه من نعم سخرها لهذا الإنسان الضعيف، من أجل أن يقيم دين الله تعالى في الأرض، وأن يشكر الله تعالى على نعمه {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:12].

ودواء الأمراض لم تغفله السورة التي سميت بالمخلوق الذي ينتجه {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:68-69].

ونعمة التزاوج والإنسال، والفرح بالأولاد والأحفاد؛ أتت السورة على ذكرها، ومنة الله تعالى على الإنسان بها  {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل:72].

فيا لها من سورة ما أعظمها! ومن نعم ما أكثرها وما أجلها! فمن منا يلهج بشكر الله تعالى عليها، ويتبع القول عملا، بلزوم الطاعات، ومجافاة المحرمات؟! نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الشاكرين، وأن يجنبنا سبل الجاحدين؛ فإن الله تعالى وصفهم في السورة نفسها بقوله {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} [النحل:71]  وبعدها بآية وصفهم بقوله عز وجل {أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72] نعوذ بالله تعالى من حالهم وأفعالهم ومآلهم..

 بارك الله لي ولكم في القرآن..

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، ونشكره على نعمه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]

أيها المسلمون: حري بمن قرأ سورة النحل وتدبرها، وتنقل بين آياتها وهي تفصل نعم الله تعالى عليه أن يمتلئ قلبه بتعظيم الله تعالى على قدرته وخلقه، وشكره على نعمه وفضله.. نعم كثيرة تعددها السورة في رحم كل نعمة منها نعم أخرى فمن يحصيها؟!

 وأكثر سورة نُوِّه فيها بالنعم هي هذه السورة، وهي أكثر سورة تكررت فيها مفردة (نعمة) ومشتقاتها، ذكرها الله تعالى بأساليب مختلفة ليغرينا بالشكر، ويغرسه في قلوبنا؛ فتارة يذكرنا الله تعالى بكثرتها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا} [النحل:18]. وتارة أخرى يلفت انتباهنا إلى أن أي نعمة فهي منه سبحانه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل:53] وفي كرة ثالثة يبين الحكمة في تتابع هذه النعم وإتمامها على الإنسان {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81] وفي رابعة يأمر سبحانه بالشكر بعد ذكر النعم {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ الله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل:114].

 ويضرب في السورة مثلين مهمين: لمن لا يشكر حتى يحذر الناس طريقته، وآخر لمن شكر حتى يتأسوا به، أما مثل الكافرين  ففي قوله سبحانه {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} [النحل:83]  ثم بين ما يصيبهم من عقوبة بسبب ذلك {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

 وأما مثل الشاكرين فالخليل عليه السلام، وبسيرته وشكره ختمت السورة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:121]  وليس إخبارا عنه فقط، فكما ذكر الله تعالى عقوبة من كفروا نعم الله تعالى بأن أبدل شبعهم جوعا، وأمنهم خوفا، فإنه سبحانه ذكرنا بما أعطى الخليل جزاء له على شكره، وأمرنا بأن نقتدي به لنفوز كما فاز {وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:122-123].

 فهل تجدون يا عباد الله تكريسا لقضية -مهما كانت مهمة- في وجدان الإنسان أكثر من تكريس شكر الله تعالى على نعمه في سورة النحل، والإلحاح عليها، وجعل التوحيد الذي هو القضية الأولى في القرآن مظهرا من مظاهر الشكر.

 ما أحوجنا يا عباد الله لتدبر هذه السورة، وما أحوجنا لشكر الله تعالى على نعم أتمها علينا، في وقت يتخطف فيه العالم من حولنا، وتضطرب أحوال الدول والأمم، ولا قيد للنعم كشكرها، ولا نماء لها إلا بشكرها، ولا شكر إلا بطاعة الله تعالى وإقامة شريعته. وأما من يحاربون الله تعالى، ويصادرون شريعته، ويعطلون أحكامها، ويحلون حرامها، ويسقطون واجبها، ويحرفون نصوصها؛ مجاراة للعصر، وموافقة لأهل الكفر؛ فهم سبب زوال النعم وسلبها، وهم سبب حلول الخوف والجوع في الأرض، والاحتساب عليهم واجب، ونهيهم عن المنكر فريضة، وإلا حلت بنا المثلات كما حلت بمن قبلنا، نسأل الله تعالى أن يعافينا وأن يسلمنا {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ} [الأعراف:155].

 وصلوا وسلموا...

أعلى