دروس من سورة الحج

دروس من سورة الحج


- أركان الإسلام خمسة؛ الشهادتان، والصلاة والزكاة والصيام والحج، وانفرد الحج بسورة سميت باسمه! ذلك لأن الحج يشمل كل أركان الإسلام، ففيه التوحيد المتمثل في مناسكه وشعائره، وفيه الصلاة، المتمثلة في الطواف، وفيه الزكاة فهو عباد ة مالية (وبدنية)، وفيه كذلك الصيام والمتمثل في الإمساك عن الرفث (وهو الجماع ومقدماته) والامتناع عن محظورات تفسد الحج كما تفسد الصيام (كالفسوق والجدال والكذب.. )

- وبالسورة سجدتان؛ ولعل ذلك إشارة وتأكيد أن التوحيد هو سجود العقل (والجوارح) لأوامر الله، وقد تجلى ذلك في الاذعان والتطبيق التام لأعمال الحج؛ فهذا حجر نقبله، وذاك حجر نرجمه؛ ما معنى ذلك؟ والذبح (النحر) نسك والنسك عبادة لا دخل للعقل فيها!!

- والسورة مكية مدنية؛ ففيها أربعة نداءات }يا أيها الناس{ ونداء واحد }يا أيها الذين آمنوا{، ومنها ما نزل بمكة ومنها ما نزل بالمدينة ومنها ما بين ذلك كآية الإذن بالقتال؛ وهي قوله تعالى }أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير{ [آية 39]، ذكر القرطبي قول ابن عباس "نزلت عند هجرة رسول الله سلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال: " لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم؛ ليهلكن؛ فأنزل الله }أذن للذين يقاتلون أنهم ظلموا..{ وقال: حديث حسن"

- جاء في السورة أصناف الناس: بتصنيفات مختلفة:

التصنيف الأول: في قوله تعالى }هذان خصمان اختصموا في ربهم..{ [آية 19] وما بعدها.. فقد ذكر المفسرون أنها في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه؛ (فقد تبارزا في بدر)، وقيل الخصمان هما المسلمون وأهل الكتاب، وقيل المؤمنون والكافرون.

التصنيف الثاني: وهو أن الناس منهم الضلال الجهال المقلدين بغير علم، ومنهم الدعاة إلى الضلال؛ وهم رؤوس الكفر وأهل البدع والأهواء ومنهم المذبذبون المترددون؛

-  أما الصنف الأول وهم الجهال التابعون المقلدون ففيهم قال تعالى }ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد.. { [آية 3]، وهؤلاء مآلهم مع قادتهم في الكفر..

- وأما الصنف الثاني وهم الدعاة إلى الضلالة وهم رؤوس الكفر وقادة الفساد والإفساد المتبوعون؛ قال الله تعالى فيهم }ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله..{ [آية 8]، وهؤلاء قد جمعوا مع الأوصاف السابقة الكبر والتعالي على الناس وهم أحقر وأنذل وأقذر الخلق!

- وأما الصنف الثالث هو "من يعبد الله على حرف" أي شك؛ فطريقه غير واضحة، لا علم ولا يقين ولا بينة؛ }ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة..{ [آية 11]، وهذا الصنف قائده هواه ومزاجه، ومحركه مصلحته ومنفعته، لا يصمد أمام أدنى اختبار وينهار مع أول ابتلاء أو فتنة!

موضوعات السورة:

1- إثبات البعث وقيام الساعة (من الآية 1-24 ).

2- حديث الحج (من الآية 25-37 ).

3- حديث السنن (سنة الاستئصال السابقة ثم سنة المدافعة الماضية إلى يوم القيامة) (38-60 ).

4- دلائل الألوهية (من آية 61 إلى آخر السورة ).

أولا: إثبات البعث:

إن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثا ولن يتركهم سدى؛ فقد خلقهم ليوحدوه؛ أي ليعبدوه وحده لا يشركوا به شيئا، والخلق حتما سيموتون، فكان لابد من البعث لحساب من عبد ومن أشرك ومجازاة العابدين بالجنة والمشركين بالنار، وإلا فما قيمة الحياة وما معنى إرسال الرسل وإنزال الكتب، مع العلم بأن الدنيا ليست دار لمجازاة المحسنين ولا لمعاقبة المسيئين..

}يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم...{:

نداء رهيب هو مطلع السورة؛ }اتقوا الله{؛ لماذا؟ لأن }زلزلة الساعة شئ عظيم{،  وزلزلة الساعة أمر لا شك فيه فهو واقع لا محالة، غير أن بعض الناس يشكون في ذلك ولا يصدقونه، لذا كانت مخاطبتهم وجدالهم بالحق والحقيقة لا بالباطل ولا بالجهل الذي يجادلون به؛ }يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب...{ [آية 5]، ونقف عند "التراب"، هل في التراب حياة، وما قيمة هذا التراب؟ وهل يستطيع إنسان أن يصنع من التراب إنسانا؟ لكن الله بقدرته وإرادته هو الذي خلق من التراب إنسانا.. ثم يموت الإنسان فيصير ترابا، فهل في إعادته إنسانا مرة ثانية أمر صعب أو مستحيل؟ فهو سبحانه الذي بدأ الخلق وهو سبحانه الذي يعيده وسيعيده..

مثل آخر }وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج{ [آية 5] [ذات الآية]؛ أرض هامدة لا أثر لزرع ولا لحياة فيها؛ فإذا أنزل عليها الماء، تهتز (تتشقق) ويخرج منها نبات جذوره في الأرض ليتغذى منها، وساقه إلى السماء، وهيأ الله له أسباب نمائه وبعد اكتمال نضجه وإثماره يذبل ويموت كالإنسان حينما يهرم ويموت فلماذا الشك في قدرة الله على البعث، ولماذا الجدال – بالباطل وبغير علم – في يوم القيامة؟ أما الحقيقة التي لا جدال فيها ولو جادل رؤوس الضلال هي: }ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور{ [آيه 6- 7]. وذلك رغم أنف المجادلين والمشككين والمغالطين..

وكما جادل هؤلاء في أمر البعث فقد جادلوا في صدق الرسول وفي أن الله تعالى لن ينصره }من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخره فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ..{ [آية 15]، إن ظنونهم خاطئة لأن قلوبهم فاسدة حاقدة يملؤها الغيظ على الرسول وعلى المسلمين يتمنون لهم الهزيمة والضعف والفقر والمذلة؛ لكن ظنهم هذا ظن خائب وسوف يرون نصر الله تعالى لرسوله وأتباعه!

ثانيا: حديث الحج:

أميل إلى القول بأن سورة الحج تجمع بين أواخر القرآن المكي وأوائل القرآن المدني، كما تمثل نقطة تحول في تاريخ الدعوة؛ ففي صدرها – أي صدر السورة – كان الحديث عن الجدال }ومن الناس من يجادل{، لكن المجادلين لم يغيروا مواقفهم بعد دحض مزاعمهم ورد شبهاتهم؛ فكان لابد من أن يتحول الجدال إلى الجلاد؛ أي السيف وهو ما جاء ذكره في المقطع الثالث من السورة وهو الإذن بالقتال ومبررات ذلك؛: قال تعالى }أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله{ [آية 39-40] (وسأبين ذلك في الموضوع الثالث لاحقا)..

ومن المعلوم – أيضاً – أنه حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وبعدها، كانت الأصنام لا زالت تعبد بالكعبة، ولا يزال يسيطر عليها صناديد قريش، وكان الحج من الشعائر الباقية من دين إبراهيم عليه السلام لكنها حرفت وغيرت ودخلت فيها أهواء البشر وعقولهم؛ فلما جاء الإسلام أعاد هذه الشعائر والمناسك إلى ما كانت عليه من توحيد الله عز وجل، وضبط المناسك حسب ما جاء في شريعة الإسلام وما كان من أجله وضع (بُنِي) البيت الحرام الذي أرسى قواعده إبراهيم عليه السلام.

لقد وضع البيت لعبادة الله وحده بلا شريك }وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود{ [آية 26]، يقول ابن كثير (}وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت{ ": ذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت؛ أي أرشده إليه وأذن له في بنائه، واستدل به كثير ممن قال إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق، وإنه لم يبن قبله – كما ثبت في الصحيحين (البخاري 3366 ومسلم 520) – عن أي ذر قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول قال المسجد الحرام، قلت ثم أي قال بيت المقدس، قلت كم بينهما، قال أربعون سنة.. ). قلت: وما استدل به ابن كثير رحمه الله دليل على أنه أول بيت لا على أن إبراهيم عليه السلام هو أول من بناه! فهناك أقوال أخرى أن آدم هو أول من بناه وقيل الملائكة والله تعالى أعلى وأعلم!

لكن القضية هي أن الله تعالى  أمر إبراهيم عليه السلام (وذريته وأتباعه) أن يطهروا البيت الحرام من الأوثان ومن كل مظاهر الشرك..

وبعد أن رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قواعد البيت أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج (فلم يكن قبل ذلك حج!) قال تعالى }وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل  ضامر..{ [آية 27]؛ ذكر ابن كثير (أن إبراهيم عليه السلام قال: يارب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم، فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن الله قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شئ سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك، والله أعلم ، وأوردها ابن جرير وغيره مطولا.. )

ويشتمل الحج على نسك وشعائر تؤدى في مشاعر أو أماكن معينة في أوقات معينة وبكيفية معينة لا دخل للعقل فيها؛ فهي أمور تعبدية توقيفية تتجلى فيها العبودية لله عز وجل، فالعبادة هي الطاعة والامتثال لأوامر الله عز وجل دونما تردد أو انتظار حتى يستفتى العقل، فلا دخل للعقل في هذه الأمور؛ فلابد للعقل من حد يقف عنده ويسجد لأمر الله؛ كما فعل إبراهيم عليه السلام حينما أمره ربه تعالى بذبح ولده ‘ وحينما أمره ربه تعالى بترك ولده الرضيع وزوجه بجوار البيت ولم يكن بعد ظاهرا؛ لم يُعمِلْ عقله ولم يفكر: أفعل أو لا أفعل؟ بل كان مسلما مستسلما منقادا ممتثلا لأمر الله وهذا هو التوحيد.

والتوحيد تعظيم لله عز وجل وتعظيم لحرماته ولشعائره ولحدوده ولما أحل وما حرم؛ }ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه..{ يقول الطبري: (قال مجاهد: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه، وقال ابن زيد: الحرمات: المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام – قال الطبري: ومن يجتنب ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها وحرمه أن يستحلها، فهو خير له عند ربه). وقال تعالى }ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب{ [آية 32]، يقول الطبري: (وتعظيم شعائر الله هو استحسان البدن (بضم الباء) واستسمانها وأداء مناسك الحج على ما أمر الله جل ثناؤه من تقوى قلوبكم..)، ومن هنا فإن تقوى القلوب تظهر وتتجلى في تعظيم حرمات الله وشعائر الله وأداء النسك على أكمل وجه وأحسن ما يكون رجاء الثواب من الله تعالى، ولهذا قال عز وجل }لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين{ [آية 37]، والمعنى: ومع تعظيمكم للبدن (وهي الإبل العظام الجسام، وهي أيضا البقر والبعير السمان) فإن الله تعالى لن يناله ولن يصل إليه من ذلك شيء، ولكنه دليل منكم على تقواكم وتعظيمكم لله، واستحقاقكم للأجر والمثوبة؛ }وبشر المحسنين{.

أما المشركون عباد الأوثان والآلهة المصنوعة الذين لم يجتنبوا قول الزور وفعل الزور [وهو الكذب والفرية على الله بقولكم في الآلهة: }ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى{ [سورة الزمر: آية 3]، وقولكم في الملائكة: هي بنات الله، ونحو ذلك من القول فإن ذلك كذب وزور وشرك بالله] قاله الطبري.. فتبين من ذلك أن الشرك بالله زور، وعبادة غير الله زور، وتعظيم الطواغيت زور، واحترام المواثيق والعهود الظالمة من شهادة الزور؛ فهذا النظام العالمي الذي تحكمه وتسيطر عليه القوى الظالمة التي تعمل لصالحها فقط، ولا تعرف للضعيف حقا ولا قيمة، وتدعي العدالة ومراعاة ما يسمونه بحقوق الإنسان، كل ذلك كذب وافتراء وزور!

ثالثا: حديث السنن:

1- سنة المدافعة، وهي السنة الفاعلة منذ نزول التوراة على موسى عليه السلام }.. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله..{ [آية 40]، فبينت الآية أنه لولا هذه السنة لم يبق دين على وجه الأرض، ولما بقي مكان يعبد الله تعالى فيه.

2- الظلم سبب الهلاك }فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد{ [آية 45]، فكم من حضارات أبيدت وأهلكها الله عز وجل.. لكن من يعتبر؟ لا يعتبر إلا أصحاب البصائر، أما العمي فهو عمي البصائر والذين لهم قلوب لا يعقلون بها وآذان لا يسمعون بها سماع تعقل واستجابة؛ فهؤلاء لا يعتبرون لأنهم سكرى بخمرة الحياة والمتع الفانية!

3- سنة الإمهال والإنظار }فكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير{ [آية 48]؛ فالله عز وجل لا يعجل للظالمين بالعقوبة ولو عجل لهم العقوبة لم يبق على وجه الأرض أحد ولقامت القيامة ولكنها حكمته وسنته.

رابعاً: دلائل الألوهية:

1- هل يملك الليل والنهار وتعاقبهما غير الله؟ (آية 61 )

2- هل أحد غير الله يملك إنزال المطر وإخراج النبات؟ (آية 63 )

3- من الذي مهد الأرض وسخرها لأهلها؟ ومن خالق قانون الطفو لتجري الفلك في البحر بأمره؟ ومن المميت ومن الذى سيحيي الناس للحساب..؟ (آية 66)

نعم (إن الإنسان لكفور) أي جحود لنعم الله التي أنعم بها عليه؛ فدلائل الوحدانية تملأ الآفاق، وتدل على عظمته وتنطق بوحدانيته.. ثم هم يشركون به ويستنكفون عن عبادته.. }ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير. وإذا تتلى عليهم آياتنا تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر..{ [آية 71، 72]

ومع أنه - أي الإنسان - كفور فهو عاجز ضعيف؛ ومع عجزه وضعفه فهو متمرد علي الله }يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره..{ [آية 73، 74]؛ فالطالب: الآلهة وقيل بني آدم، والمطلوب: الذباب وقيل المسلوب (أي ما سلبه الذباب من بني آدم حين قرصه)، }وما قدروا الله حق قدره{ أي ما عظموه وما وحدوه وما أخلصوا له العبادة لأنهم ما عرفوه حق المعرفة.

:: موقع مجلة البيان الالكتروني

أعلى