مفهوم القوة العالمية

مفهوم القوة العالمية


 

يتم تداول مصطلح القوة العالمية أو القوة العظمى في أدبيات علم السياسة عامة وعلم العلاقات الدولية بصفة خاصة ويريد به أهل هذا العلم دولة أو دول متميزة عن غيرها من الدول بكثير من أنواع القوة تمكنها من فرض أهدافها وطموحاتها على غيرها.

ونظرا لأن هذه العلوم منبتها غربي فإنها تحمل ارثا تاريخيا ضد الإسلام والمسلمين والأمة الإسلامية والأمثلة التي دائما يتم ضربها عن القوى العظمى هي جميع القوى العالمية تاريخيا عدا الأمة الاسلامية فيدرسون  الفراعنة ودولتي الفرس والروم وممالك بيزنطة واليونان القديمة وروما وغيرها مرورا بالعصور الوسطى ووصولا للفتوحات البحرية التي تنافست عليها اسبانيا والبرتغال وصولا إلى الإمبراطوريتين الاستعماريتين الفرنسية والبريطانية ثم آخر قوتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبعدها انفراد الولايات المتحدة على الساحة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ثم الآن بدأوا يتحدثون مؤخرا عن الصين كقوة عالمية  ويتناسون أن الحضارة الإسلامية كانت هي المهيمنة على العالم في فترة ليست قصيرة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وثقافيًا وعلميًا.

كذلك يتجادل منظرو علم السياسة عن مقدار القوة التي يمكن بها اعتبار الدولة دولة عظمى ومهيمنة وتتعدد المناهج والاتجاهات التي يمكن بها قياس قوة الدولة فبينما يرى اتجاه أنها تقاس بواسطة العوامل المادية التي تشمل أربعة عناصر رئيسية هي: القدرة الاقتصادية والقدرة الحيوية والقدرة العسكرية والقدرة الاتصالية.

وهناك اتجاه آخر يدمج بين العوامل المادية والعوامل المعنوية التي لا يمكن قياسها ببساطة وقد قسم بعضهم هذه العوامل إلى ثمانية عناصر أساسية هي الجغرافيا والسكان والموارد الطبيعية والقوة الاقتصادية والقوة العسكرية والوظائف الحكومية وعملية صنع القرار.

أما الاتجاه الثالث فهو منظور توظيفي فهو يقيس قوة الدولة بمقدرتها على تعبئة مواردها وتوظيفها في موقف أو حدث معين.

بينما أحمد داود أوغلو أستاذ العلاقات الدولية ورئيس وزراء تركيا الأسبق في كتابه (العمق الاستراتيجي) يحاول أن يجمع بين هذه الرؤى ولكن بصياغة مختلفة فيقسم أنواع القوة إلى قوة ثابتة وقوة متغيرة ثم من خلال المعادلة التي تقول إن قوة الدولة هي حاصل جمع القوة الثابتة مع القوة المتغيرة مضروبا في ثلاثة عوامل: الذهنية الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي والإرادة السياسية.

ويشرح أوغلو القوة الثابتة ويقول إنها العناصر غير القابلة للتغير على المدى القصير والمتوسط ولا تخضع لإرادة الدولة ولكن ليس معنى أنها ثابتة أن أهميتها غير قابلة للتغير بل يمكن لها أن تتغير من حيث القوة والضعف بناء على تغيير الظروف المحيطة والوضع الدولي وكيفية تعامل الدولة مع المعطيات التي تشمل التاريخ والجغرافيا وعدد السكان والثقافة والوضع الدولي. وعلى سبيل المثال فآسيا الوسطى مثلا كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق لكن بعد انهياره أصبحت جغرافيا موضع اهتمام من روسيا والصين والولايات المتحدة وتركيا. أما القوة المتغيرة: وهي العناصر التي يمكن تفعيلها في المدى القريب أو المتوسط وتظهر مدى قدرة الدولة على الاستفادة من القدرات الكامنة فيها. وتشمل: الموارد الاقتصادية للدولة والبنى التحتية التكنولوجية والقدرة العسكرية. فالصراع الاقتصادي - السياسي الآن على أشده بين الدول وكل دولة تحاول إيجاد مكان مرموق لها على الساحة الدولية من خلال الأداء الاقتصادي المرتفع وهو يستلزم في جزء مهم منه وجود بنية تحتية تكنولوجية متقدمة في الدولة وبعض الذين خرجوا خاسرين من الحرب العالمية الثانية عسكريا عادوا منتصرين على الساحة العالمية في حرب التكنولوجيا (اليابان وألمانيا على سبيل المثال).

ويؤكد جوزيف ناي وهو أحد أبرز المفكرين الأمريكيين في العلاقات الدولية في كتابه الشهير مستقبل القوة ما ذهب إليه اوغلو في مسألة القوة المتغيرة وكيف أن مقومات القوة تبدلت عبر التاريخ (في القرن السادس عشر تبوأت إسبانيا مكانتها عبر السيطرة على المستعمرات وتكديس الذهب) في القرن السابع عشر (اعتمدت هولندا  على عنصري التجارة والمال) أما في القرن الثامن عشر (فلعب عامل عدد السكان والقوة العسكرية الدور الأهم في المكانة الفرنسية) بينما في القرن التاسع عشر (اعتمدت بريطانيا على نتائج الثورة الصناعية والقوة البحرية) إلى أن وصلنا إلى المجتمع الحالي والذي تمثل “المعلوماتية” أحد متغيرات القوة المركزية فيه.

أما مجموع القوة الثابتة والقوة المتغيرة فيتحدد من خلال ثلاثة عوامل: الذهنية الاستراتيجية: وتعني الرؤية التي يحدد بها المجتمع وضعه بالنسبة للعالم من حوله فالألمان على سبيل المثال ظل في مخيلتهم أن حدود دولتهم أكبر من الحدود القانونية على الورق وكان هذا سبباً في توسعهم في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين مع هتلر وعلى الجانب الآخر كانت ذهنية الأتراك أثناء عهد الدولة العثمانية تشمل أراضيَ في ثلاث قارات ثم أصبحت مع إنشاء الدولة التركية الحديثة الحدود الجغرافية والقانونية فقط للدولة التركية متخلية عن باقي الأراضي ذهنيا قبل أن يتحول ذلك إلى واقع على الأرض.

كذلك التخطيط الاستراتيجي حيث تكون الدولة فاعلاً لا مفعولاً به لديها رؤيتها الخاصة وأجندتها في العلاقات الدولية وقوة الدولة في العلاقات الدولية تحدد بقدرتها على المبادرة في الشأن الدولي.

أما الإرادة السياسية: فهي وجود نخبٍ حاكمة لديها الرغبة في الاستفادة من كل هذه العناصر ودور الدولة في هذه المعادلة يظهر من خلال التخطيط الاستراتيجي والإرادة السياسية ...ونحن نرى دولا لم تكن تملك الكثير من عناصر القوة الثابتة أو المتغيرة لكنها استطاعت تحقيق إنجازات كبيرة لوجود الإرادة السياسية والتخطيط الاستراتيجي.

وبتطبيق هذه المنهج على القوة العظمى الأولى في العالم الآن وهي الولايات المتحدة نجد أن هي رابع دولة من حيث المساحة حيث تمتد على ما يقرب من 10 مليون كيلو متر من الأراضي وتطل على محيطين وهذا يجعلها أكثر مناعة من حيث صعوبة غزوها عسكريا ويبغ عدد سكانها وفق آخر الاحصائيات ما يقدر بأكثر من 320 مليون نسمة .

أما بالنسبة للقوة المتغيرة ففي المجال الاقتصادي فالاقتصاد الأمريكي هو الأساس الذي يقوم عليه النظام المالي العالمي فأكثر من 80٪ من جميع المعاملات المالية تتم في جميع أنحاء العالم بعملة الولايات المتحدة الامريكية وهي الدولار والناتج المحلي الأمريكي يبلغ ربع الناتج المحلي العالمي بما يقرب من 20 تريليون دولار.

كذلك يظل التفوق العسكري الأميركي على جميع دول العالم وعند مقارنة الإنفاق العسكري الأمريكي بنظيره الصيني الذي يأتي في المرتبة الثانية فإنه يتفوق عليه بأكثر من أربعة أضعاف الصين.

وفي المجال الثقافي تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في الإنتاج الثقافي من حيث إنتاج الأفلام والمواد السمعية والبصرية والرقمية والصور وغيرها فساعد ذلك على زيادة ثقافة سكانها والسيطرة على نمط العيش كما ساعد نموذجها على التمدد والانتشار بين الأمم الأخرى.

وفي المجال التقني تحتل الولايات المتحدة أكبر مرتبة من حيث إنتاج المعلومات والتكنولوجيا فأصبحت رائدة في مجال الصناعات الفضائية وهي أول الدول تصل إلى الفضاء حيث تصنع الصواريخ والمركبات الفضائية وكذلك في مجالات البرمجيات والكومبيوتر وهي موطن لبعض أفضل شركات التكنولوجيا العالمية مثل مايكروسوفت وإنتل وجوجل فالولايات المتحدة هي واحدة من الدول الأكثر تكنولوجية والأسرع نموا في العالم.

ولكن أكثر ما تتميز به أمريكا عن غيرها من الامبراطوريات عبر التاريخ فهي توظيفها للقوى الثابتة والمتغيرة عبر وجود رؤية استراتيجية وتخطيط استراتيجي وإرادة سياسية...

فالرؤية الاستراتيجية الأمريكية تعتمد في صياغتها على مجموعة من المراكز البحثية والتي يصب خبراؤها خلاصة أفكارهم ورؤاهم للقوة الأمريكية سواء النظرة الشاملة للعالم أو لجميع القضايا والمشكلات السياسية والاقتصادية والتقنية.

كما تعتمد الإدارات المختلفة على التخطيط الاستراتيجي والمبادرة ولعل خير مثال لذلك ما فعلته في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وحاجتها لفرض رؤيتها على العالم كله من جر العراق لاحتلال الكويت ثم حشد دول العالم من خلفها لتحرير الكويت.

وتجيء نخبة سياسية أمريكية متنوعة ومختلفة فكريا وسياسيا ولكنها كلها بلا استثناء متفقة على سيادة النموذج الأمريكي وهيمنته على العالم.

وبذلك تبوأت الولايات المتحدة القوة الأولى العظمى في سلم النظام الدولي لتفرض ارادتها على الشعوب والدول..

ويبقى السؤال الذي يجب أن يشغل بال المسلمين الآن هي كيف تعود أمتهم مرة أخرى لتتبوأ المكان الأبرز والأقوى عالميا وهي لديها إمكانيات القوة سواء الثابتة والمتغيرة ولكن ينقصها الذهنية الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي وقبلهما الإرادة السياسية.

 

 

أعلى