أسباب الارتقاء وموانع السقوط

أسباب الارتقاء وموانع السقوط


قراءة في خُلق النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه قبل البعثة

أشرت في مقال سابق تحت عنوان «الجاذبية الأخلاقية: قراءة في خُلُق النَّبِيِّ وصَاحِبِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ»، إِلى بعض الفوائد الخُلُقية المستفادة من حدثين من أحداث السيرة النبوية، أولهما: قول خديجة رضي الله عنها في حادثة بَدْءِ الْوَحْيِ: «كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتصدُق الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ (أي: تنفق على الضعيف واليتيم والعيال، والكَلُّ أصله: الثقل والإعياء)، وتكسب المعدوم، وَتُقْرِي الضَّيْفَ (أَيْ: تُكْرِمُهُ)، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الحق (أي الكوارث والحوادث)».

وثانيهما: وصف رجل من المشركين يقال له ابْنُ الدَّغِنَةِ لأبي بكر حين خرج مهاجراً نحو أرض الحبشة ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين، فلقيه هذا الرجل فقال له: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ... إلخ.

وفي هذا المقال سأقف مع بعض الفوائد التربوية والنفسية المستفادة من الوصفين السابقين في الإشارات التالية:

الوقفة الأولى: بإنجاز الممكن نتغلب على المستحيل

إِنَّ مشكلة كثير مِنَ الناس في مجتمعاتنا ليست مع المستحيل أو الصعب أو البعيد الذي لا تناله أيديهم، وإِنَّما مع الممكن والسهل والقريب والمستطاع والمتيسَّر. وبالتدقيق في الخصال المذكورة نجد أنَّ فعلها ليس مِنَ المستحيلات، بل هو مما يقع في مقدور الإنسان العادي، ومع ذلك يعجز البعض عنها، مع أنَّ الله عز وجل - بمنِّه وكرمه - قد أعطانا الرخصة ما دمنا قد بذلنا ما في وسعنا، فمن قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن ملوماً ولا مذموماً في عدم فعله ما لا يقدر عليه؛ أشار إلى ذلك قوله تعالى حكايةً عن نبيه شُعَيْب: {إنْ أُرِيدُ إلَّا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: ٨٨]، أَيْ: إِنْ أُرِيدَ إِلَّا الْإِصْلَاحَ جَهْدِي وَاسْتِطَاعَتِي، وقوله تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون: 62]، أي: بمقدار ما تسعه طاقتها، ولا يعسر على قدرتها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، أي: افعلوا ما تقدرون عليه، وما عجزتم عنه فإنه ساقط عنكم.. لكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدَّت عليه أبواب الحيل.

فإذا أردنا أنْ نمتثل لأمر الله تعالى على قدر الوسع والطاقة، فعلينا أنْ نباشر ما هو ممكن ومتيسَّر لنا؛ فمشوار الألف ميل يُبدأ بخُطوة، وأول الغيث قطر ثم ينهمر، والجبال من الحصى، والبحار من القطر، وإذا عملنا ما هو ممكن اليوم صار ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً.

الوقفة الثانية: امتلاك الإرادة القوية

كثيراً ما تختلط علينا القدرة بالإرادة، حيث نظن أو نعتقد أنَّنا لا نستطيع فعل عمل ما، وتكون الحقيقة أنَّنا نستطيع فعلاً القيام به وبمثله معه، لكن لا نريد أنْ نفعله، والسبب الرئيسي في ذلك هو ضعف الإرادة، والحكماء يقولون: «مَنْ له إرادة تكون له القوَّة»، وقد صدقوا؛ فالإرادة هي سِرُّ النجاح، ولا يكون جمود الأعمال أو توقُّف نشاطها إلا حين يفقد صاحبها القدرة على التأثُّر أو الاستجابة نتيجة اللامبالاة أو انعدام الإرادة.

وقد أوضح لنا القرآن الكريم أنَّ الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك - غزوة الْعُسْرَةِ - كانوا غير صادقين حين ادَّعوا عدم القدرة على الخروج، والحقيقة أنَّهم كانوا يفقدون النية والرغبة والإرادة؛ بدليل عدم الاستعداد للخروج، وعدم السعي إلى توفير متطلباته، وفي هذا يقول الحق: {وَلَوْ أَرَادُوا الْـخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]، أي: لَهَيَّؤوا له ما يلزم من سلاحٍ وزادٍ ومركوبٍ، وعملوا ما يمكنهم من الأسباب، لكنهم كانوا عازمين على عدم الخروج بحال من الأحوال، ولو لم يأذن لهم النبي بالتخلف لتخلَّفوا مخالفين قصده متحدين أمره.

وهؤلاء أنفسهم هم الذين سعوا إلى التحقير من هِمَّة المسلمين الفقراء الذين تطوَّعوا بالقليل رغبةً منهم في المساهمة - على قدر طاقتهم - في الجهاد والْعُدَّةِ له، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قول الحق: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْـمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]. ولك أنْ تقارن بين إِرادة هؤلاء وإرادة هذا الرجل من فقراء المسلمين الذي بات يعمل ليحصل على صاعين أجرةً له، جاء بأحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عنه هؤلاء: إِنَّما أراد أنْ يذكر بنفسه!

الوقفة الثالثة: الاهتمام بالأشياء الجزئية التي نظنها صغيرة والإعلاء من شأنها

(إذا كان الْجَبَلُ مجموعة من حَبَّات الرَّمْلِ، فليس هناك شيء صغير).. مقولةٌ يرددها الحكماء تُفَسِّرُ قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ 7وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧ - ٨]، والذرة في نظر المفسرين القدامى: هي شيء لا وزن له، أو هي البعوضة، أو الهباءة التي تُرى في ضوء الشمس، أما في العصر الحديث فهي أصغرُ حجمٍ في الكون. فَرَغَّبَهُمْ في القليل من الخير أن يعملوه، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَحَذَّرَهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ.

وقد ذكر المفسرون جملة من الآثار تبيِّن عظم هذه الآية، منها: قول ابن مسعود: «هذه أحكم آية في القرآن»، وصدق. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الْآيَةَ «الْآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ». وقدم رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ عَلَيْهِ «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ... الآيات»، قَالَ الرجل: «حَسْبِي، لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ غَيْرَهَا». وقال آخر: «أَقْرِئْنِي - يَا رَسُولَ اللَّه ِ- سُورَةً جَامِعَةً». فَأَقْرَأَهُ: «إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا»، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ الرجلُ: «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَزْيَدُ عَلَيْهَا أَبَداً». ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ! أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ!».

إن التغيّرات الصغيرة في عاداتنا وسلوكنا، والتي لا نلقي لها في العادة بالاً؛ هي التي تغيّر الكثير من ملامح حياتنا الخاصة والعامة، فهي تشكِّل إضافات اجتماعية مؤثرة، تماماً كما يحدث حين نضع درهماً فوق إخوة له لنبني منها جامعة، أو نزيح حجراً من بين ألف حجر من طريق الناس لنوسع لهم الطريق، وفي ضوء هذا المعنى نفهم بقية النصوص، والتي منها:

- «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تَلْقَ أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»، أي: سهل منبسط.

- «تبسّمك في وجه أخيك صدقة».

- «اعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ».

الوقفة الرابعة: القناعة بأن العمل الخيري درع حصين للمجتمع

إذا كانت المناعة في عالم الطب تعني الحصانة والقوة التي يكتسبها الجسم فتجعله غير قابل لمرض من الأمراض، فإِنَّ مناعة المجتمعات لا تختلف كثيراً عن هذا المعنى؛ لأنَّ المنكرات كالجراثيم التي تؤثِّر في الجسد قطعاً، وإذا لم تمرضه فإنها تضعف مقاومته، ومن ثم التغلُّب عليه وقهره. وإذا نظرنا في سيرة نبينا وتأملنا أحاديثه، وجدنا أنَّ الشغل الشاغل له لم يكن ما يفعله الأعداء خارج مجتمعه، لكن ما يحدث داخل المجتمع {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 210].

وقد تَأَمَّلْتُ قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْـخَيْرَاتِ}، فوجدته قد جاء في القرآن مرتين:

المرة الأولى: في أثناء الرد على شبهات اليهود والنصارى ومَن شابههم مِنْ المعترضين على أحكام الله وشرائعه حول تحويل القبلة.

والمرة الثانية: ورد في أثناء جدال اليهود والنصارى بالباطل حول موقف القرآن من الكتب السابقة، وفي هذا إشارة إلى أن الله يريد أن يصرف المسلمين عن الانشغال بما يبثّه أهل الكتاب ومَن شابههم مِنْ دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل.

ويلاحظ أنَّ الله لم يأمر المسلمين بفعل الخيرات أمراً مجرداً فقط، بل أمرهم بالتسابق إليها، ومعلوم أنَّ الأمر بالاستباق قدر زائد على مجرد الأمر، فالاستباق يتضمن المبادرة وفعل المأمور به على أكمل الأحوال، فلا يصير فاعلها سابقاً لغيره إلا بأمرين:

الأمر الأول: المبادرة إليها وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها.

الأمر الثاني: الاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه الصحيح.

الوقفة الخامسة: القناعة بأن العمل الخيري يحمي فاعله من السقوط

إذا كانت للعمل الخيري فوائد لا تحصى، فإنَّ من أهم فوائده أنَّه أمر أساسي في المعالجة النفسية والسلوكية، حيث إِنَّه يساعد على تفهُّم الشخص لطبيعته وقدراته وحدوده، ويجعله على وعي بالمميِّزات والخصائص المكوِّنة لذاته، كما أنَّه يساعد على تكامل تلك الذَّات، وتحقيق التناسق والانسجام الداخلي لمختلف أوجه الشخصية، وإحداث التكامل بينها.

كما يساعد على التخلص مِنْ الاكتئاب والملل والإحساس بالفراغ والشعور بالضآلة، إذ مِنْ خلاله يشعر المرء أنَّه يتواصل مع القيم الأعمق والأنبل في كيانه، قيمُ التضحية والتعاطف والتفوق على الذَّات والإيثار، والاهتمام بالآخرين، ما يجعله في مأمن بعيداً عن مرض الانطواء على الذَّات، ذلك المرض الخطير الذي من أوضح أعراضه: عدم الاهتمام بالعالم الخارجي، وضعف القدرة على الاتصال بالآخرين.

إضافة إلى أنَّ في العمل الخيري وسيلة لتقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها، والتخلي عن الرديء، فالعلم بفضائل الأخلاق دون عمل لا يكفي، بل لا بُدَّ مِنْ مباشرتها، وإلا فماذا يستفيد المريض الذي أخذ وصفة العلاج لكنه لم يصرف الدواء أو صرفه ولم يتناوله، حتى إِنْ كان طبيبه قد نجح في تشخيص الداء وجاءت وصفته بخير دواء؟!

وقد نَبَّهنَا الله إلى ذلك في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: ٩]، أي: طهَّر نفسه مِنْ الذنوب، ونقاها مِنْ العيوب، ورقاها بطاعة الله، وأعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح، ولم يقل ربنا - تبارك وتعالى -: (قد أفلح من تعلَّم كيفية تزكيتها). والفلاح هنا لا يقتصر على الآخرة فقط، بل هو شامل الدنيا، حيث يعيش صاحبه حيَّ القلب، مرهف الحس؛ وشامل الآخرة، حيث النجاة مِنْ النار والفوز بالنعيم والرضوان.

ومِمَّا يدل على جودة هذا المسلك وأثره في تقويم الأخلاق؛ ما ورد في الحديث من أنَّ رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فقال له: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ فَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ».

اللهم أَعْلِ هِمَّتنا، وقَوِّ عزيمتنا، ووفقنا لكل خير.. آمين.

:: مجلة البيان العدد 316 ذو الحجة 1434هـ، أكتوبر – نوفمبر  2013م.

 

 

 

أعلى