تركيا.. مهمة ثقافية صعبة ولكن

تركيا.. مهمة ثقافية صعبة ولكن


تعود تركيا إلى جوارها العربي مثقلة بمعطيات قطيعة تسعة عقود؛ فكرية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية. وقد قطعت أشواطاً قياسية في الالتئام والعودة إلى مقدمة الركب الإقليمي، لكنه لا يزال يعوزها وجود إحساس بملكية إقليمية مشتركة للمفاهيم التي ترفعها، التي هي أساس البناء الإقليمي المعاصر، وتعوزها آلية تترجم حقائق إقليمية علمية إلى ثقافة إقليمية مشاعة، تعدل ميزان المعادلة في الشارع الإقليمي، وتحفظ مكاسب إقليمية هشة في مسرح إقليمي شديد التنافس وعديم الاستقرار، وتضع بين يديها أوراقاً استراتيجية جديدة تضعها في مصافات ما زالت خارجها، وتمهّد لها أدواراً إقليمية سيطلبها العالم في عملية إعادة رسم الخرائط الإقليمية، وستتحدد على أساسها مراكز القوى فيها.

تمر تركيا بمخاض إعادة توجيه البوصلة، وتضطلع بأدوار لم تكن على أجندتها قبل بضع سنوات، وتنكب على استحداث مؤسسات لإدارة واقع جديد قسمٌ أساسيٌّ منه هو عودتها إلى جوار غادرته منذ أمد، وانعطفت عنه ثقافياً بزاوية حادة، تاركة معطيات مزمنة عبثت بتجانسها الفكري معه وبقدرتها على إعادة التكامل معه. الظاهرة التي لا ينفيها مثقفون أتراك ويتابعها الجوار، تستدعي استنفاراً ثقافياً إقليمياً يتداركها، ويؤمّن للمنطقة تعافياً سياسياً يضعها على الطريق الصحيح.

لا تحتاج تركيا في واقعها الجديد إلى إطراءات يقدمها إعلاميون وشعراء في احتفالات ذكرى فتح القسطنطينية، وتحليلات سياسية تطفح بالمجاملات. مكانة تركيا في النفوس معروفة ومحفوظة، والتدليل عليها تبديد للوقت والمال. ما تحتاج إليه تركيا هو قليل من العاطفة وكثير من العمق الذي يضمن إبحاراً آمناً في مياه مضطربة.

إذا كانت أبسط طرق التقويم الإداري على مستوى الفرد هو مقدرته على تخيل نفسه جالساً في ركن من أركان الغرفة والنظر إلى نفسه من فوق، فإن ما تحتاج إليه الدول هو شيء أكثر تعقيداً. ما تحتاج إليه تركيا هو حاضنة فكرية تنظر إليها من بُعد، ترى أكثر مما تراه هي كلاعب في قلب الميدان أو مرابط على الصدوع السياسية، كمدير فريق كرة القدم الذي يتابع المباراة من نقطة على خط التماس مع المستطيل الأخضر لا يعمه منها نظره، أو كلاعبيه المكلف الواحد منهم بمساحة محددة على المستطيل.

إن أول شيء يحرص المدير ولاعبوه عليه بعد المباراة هو مشاهدتها بعيون مستعارة كانت قد شاهدت من بُعد ما حجبه عنهم القرب، وسجلت أحداث المباراة بتفاصيلها من زوايا مختلفة، تلك هي عدسات التصوير، فيتسمّرون أمام شاشة كبيرة يتعرفون من خلالها على إبداعاتهم وهفواتهم. ولا تلغي العدسات دور الجمهور الذي تابع المباراة هو الآخر من المدرجات. بل إن دائرة العيون المستعارة تتسع لتصبح بقطر الأرض عندما تصبح شبكة "تويتر" ساحة عالمية لإبداء الآراء، وتتنافس الأندية على من يملك عدداً أكبر من المتابعين، وغالبيتهم في دول وقارات أخرى، وللواحد أن يتخيل مدلول أن يكون لدولة مناصرون طوعيون في دول أخرى والوقع المعنوي لذلك على نظامها السياسي.

لا تقف نجاحات أندية كرة القدم العملاقة عند تقويم الأداء، وإنما صناعته بادئ ذي بدء، فاللاعبون الذين يحصدون لها أرفع الجوائز لم يعودوا صبية المدينة التي يوجد فيها النادي الذين كانوا بالأمس يتقاذفون الكرة في أزقتها وحدائقها العامة، ولم تعد تلك الأزقة الحاضنة التي تدفع بالمواهب. لقد جعلت هذه الأندية أزقة العالم بأسره حواضن لها تدفع بمواهب لا تنضب ومهارات تتجدد وأنماط تتبدل، ما يكسبها عنصر المفاجأة أمام منافسيها. أما الأندية التي تعتمد على الأزقة المحلية لعجز مالي أو سوء إدارة، فتحكم على أدائها بالرتابة والخلو من المفاجأة وبأنماط يسهل على منافسيها فك شفرتها قبل حدوث النزال، فتبقى حبيسة المضامير المحلية، وإذا ما ارتقت لحنكة مدرب جديد فارتقاء موسمي تصعب إدامته.

آلية غائبة

تركيا لا ينقصها وجود حاضنة فكرية، الناقص هو آلية تصل الحاضنة بمؤسستها الفكرية، تبدأ بسيطة ثم تتطور، كأن تكون بادئ ذي بدء عنواناً إلكترونياً يستقبل ما يصدر عن الحاضنة من رؤى، ويرد بما يشعر مُنشئ الرؤية باكتراث المؤسسة الفكرية به، بل بعلمها بوجوده، حتى إن لم تعتمد فكرته، ولا أدنى من قائمة بريدية تديم الصلة مع الأصدقاء.

أو أن تكون الآلية موقعاً على الشبكة الدولية على شاكلة "فيس بوك"، يعرض فيه مفكرون عرب وأتراك نتاجاتهم الفكرية التي تصب في تأسيس مفاهيم إقليمية، والأولوية أن يكون حجر الزاوية لهذه المفاهيم ترميم المفهوم الإقليمي العثماني من أعطاب مُقعِدة أصابته بها حرب الانفصال (الحرب العالمية الأولى) وإرهاصاتها الثقافية التي امتدت بعد الانفصال وجردته من صفة الواقعية وأسكنته بطون الأراشيف. ومن أحجار الزاوية الغوص في الأرشيف العثماني كشاهد عيان على الشخصية الإقليمية (العربية التركية) مدة خمسة قرون عاشت في كنفها أديان ومذاهب وعرقيات شتى، وتأسس فيها أرقى نظام اجتماعي تعددي، وأوت إلى واحتها الإنسانية شعوب مختلفة، واستكشاف مواطن القوة والضعف فيها، وصولاً إلى صياغة شخصية إقليمية لعصر التكتلات.

ويتاح للمفكر في الموقع عرض مساحات فكرية خاصة به مما يرغب في إنضاجه هو مع نظراء له. وتطرح إدارة الموقع من جانبها للتدارس مساحات فكرية أخرى ما زالت بكراً، فتتشكل حول كل مساحة مجموعة مفكرين، ثم تكون مجاميع، ولن يمضي وقت طويل حتى يكون قدر متقدم من الانسجام الفكري قد تم إنجازه، ما يؤهل لعقد ورشة للاندفاع نحو مستويات جديدة من التكامل.

لا تقف الآلية عند الحدود التقليدية ممثلة في الكتابة والنشر، وإنما تتجاوزها إلى تطوير الفكر والانتقال به من حيز النظرية إلى التطبيق، مثلما تطورت علوم الرياضيات مثلاً من رياضيات محضة إلى أخرى تطبيقية، حيث الفرق الهائل، فالأولى معادلات وقوانين خالية من الروح، والثانية نابضة، وهي الوجه الآخر للهندسة التي ترفع العمران وتبني الطائرة... وهكذا سائر العلوم كعلم الاجتماع التطبيقي، وعلم النفس، والتربية التي خرجت من بين جدران الأكاديميات وصمتها إلى ضجيج الشارع تخدم المجتمع في مناحٍ يلمسها الإنسان العادي، ومن المفاهيم التي ما زالت عالقة في حيز النظرية بحالة بدائية في هذا المكان من العالم، هو مفهوم "الإقليمية".

كما تنتقل الآلية بشخصية المفكر من تقليدي يعد ظهور مقال له في موقع على الشبكة الدولية ذروة سنام مساره المهني، وينقضي العمر وهو بهذه القامة لا يتجاوزها؛ إلى عنصر في مناخ من الطموح الاستراتيجي الذي لا يحده سقف، فتصبح الآلية رئة خارجية تتنفس المؤسسة الفكرية ومن ورائها المؤسسة السياسية من خلالها هواءً مثقلاً بالأوكسجين يأتي من مكان بعيد، كالذي يفر من غرفة محكمة النوافذ استنفد الجالسون الأوكسجين فيها إلى حيث الهواء الطلق.

هذه الآلية غائبة، وولوج الفضاء الفكري التركي مهمة شبه تعجيزية ما لم تتم بمساعدة صديق غير عادي، والوصول إلى الصديق مشقة بحد ذاتها. صحيح أن للدولة التركية اليوم نكهة إقليمية نافذة، لكنها نكهة تنبعث من مواقع محددة في الدولة، أما منافذها الخارجية التي هي نقاط تماسها مع الأمم الأخرى، فزهور بلا عبق، لا تحط عليها نحلة تبحث عن رحيق ترتشفه لعسل تنتجه، جامدة لا تثير فضول عابر أمامها للتفكير بدخولها في مهمة ثقافية استكشافية؛ لأنها بالنسبة له دوائر رسمية تخص المواطن التركي فقط.

هذا خلاف الزينة الدبلوماسية التي تخرج بها الدول على الأمم الأخرى، والخيلاء الثقافي الذي تبديه إبان محطات نابضة وواثقة من أطوارها السياسية، وهو حال تركيا اليوم وتفننها في تقديم أنموذجها قدوة للأمم الأخرى. وقد كانت السفارات السوفييتية في حقبة الخمسينيات والستينيات تزكم الأنوف برائحة الشيوعية، ومثلها البعثات الإيرانية اليوم التي تفوح بالطائفية، ما جعل لهذه الدول جاليات في بيئات المهجر من غير شعوبها تساند قضاياها في شوارع المدن العالمية وأمام الإعلام تمنحها ذراعاً إقليمية.

وإذا ما قورنت الممثليات الدبلوماسية التركية مع نظيراتها البرازيلية، فإن للأخيرة مدلولاً سياسياً وثقافياً بالنسبة لمواطن أمريكا اللاتينية أكثر مما لدى التركية بالنسبة للمواطن الذي يعيش في فضائها الحيوي. التفسير لا يقع برمته على كاهل تركيا، فبيئة أمريكا اللاتينية بيئة هامدة أيديولوجياً ودينياً، على عكس بيئة الشرق الأوسط الهشة سياسياً والمتهيجة طائفياً، ما يخفف من أعباء الخطاب الإقليمي في بيئة أمريكا اللاتينية ويجعله أسهل رواجاً، ويزيد من أعباء الخطاب الإقليمي التركي ومن حاجته إلى آليات ترويج أكثر تعقيداً.

حال المفكر في الحاضنة الإقليمية أو في المهجر أشبه بعاشق يهيم بمحبوبته ومحبوبته لا علم لها بحاله، وربما انطوت ظاهرة العشق من طرف واحد على جزء من إجابة عن تساؤلات يطلقها مفكرون أتراك عن مدى كفاءة معاهد الفكر التركية في توليد أفكار وأوراق سياسية جديدة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالفضاء العثماني، وعن طغيان الأفكار الفيزيائية (العاطفية) فيها التي لا تؤثر في الخصائص البلورية للأشياء على حساب الأفكار الكيميائية المطلوبة لتغيير خصائص بلورية لواقع ثقافي إقليمي خامل، ومن هؤلاء المفكرين من يذهب بتساؤلاته أبعد من ذلك.

معادلة حتمية

إن المعادلة الميدانية التي تجعل توفير الآلية الثقافية الإقليمية مطلباً حتمياً، هي أن تركيا لا تحكم جوارها اليوم كما فعلت الدولة العثمانية، وشعوب الجوار ليسوا رعايا عندها تضمن ولاءهم لأمنها القومي كما حالهم في العهد العثماني، لكن حاجتها إليهم لا تقل عن حاجة الدولة العثمانية وللأسباب نفسها، أي أن المعطيات تبدلت والحاجة لم تتبدل. أما الجوار فمختار لأنموذجها السياسي اختياراً قابلاً للتطور والتقهقر كما كان قبل العام 2002، ومن ثم فثمة حاجة إلى صيغة تخدم المصلحة المتبادلة تنبثق من المعطيات الجديدة وتلبي الحاجة القديمة، كالتي يحرص فيها صاحب سلعة على ولاء زبون اختار سلعته من بين منافسين آخرين.

أما المناخ الذي يجعل إيجاد الآلية مطلباً حتمياً، فهو مصادفتها لقناعات جمعية قد ألانها ضغط وحرارة الأحداث وضاعف من قابليتها على إعادة التشكيل أضعافاً مضاعفة، وهو حيز زمني في حياة المجتمعات لا يدوم طويلاً ولا يتكرر على نحو متقارب، وإنما يأتي مصاحباً للأزمات وشيوع الحيرة، ثم ما تلبث أن تستعيد القناعات صلابتها. في هذا الحيز ترتفع في سماء الأمم لافتة تسد الأفق مكتوب عليها شعار قُدّت مفرداته من معطيات الواقع تقول: "الأزمات محطات مهمة في تاريخ الشعوب لا تفوّت، فيها تراجع القناعات، وتصنع المعجزات، وفيها يعاد رسم الشخصية الجمعية، وهي فرص نادرة الحدوث".

هذه اللافتة تحجب سماء أووربا اليوم، ورغم من يعد أزمتها المالية أعظم خطر يهددها، إلا أن هناك من يرى في الأزمة فرصة ذهبية تتخلى القارة فيها عن قناعات قومية تاريخية معرقلة والدخول في الاندماج النهائي من بوابة الأزمة، وذلك عندما تسلم دولها المفلسة أمرها لآليات الإنقاذ في المصرف المركزي الأوروبي، معلنة أن لا منجاة للدولة القومية بعد اليوم خارج آليات عضوية إقليمية، ويدرس التلاميذ على مقاعد الدراسة قصة الإنقاذ الإقليمي المثيرة لاقتصاد بلادهم، وكيف استمر التيار الكهربائي والتدفئة والحليب، فتتكسر الأواصر القومية وتنصهر الأجيال.

كرة ثلج ساكنة

سيلي إيجاد الآلية سلسلة تحولات اجتماعية.

ستنشأ طبقة جديدة في المجتمع المدني قوامها مثقفون ومفكرون ووجهاء مجتمع، قادمة من الوسطين الإقليمي والمحلي التركي، يقوى نسيجها الفكري والاجتماعي على حمل أفكار إقليمية تنأى الدولة الإقليمية (التركية) بنفسها عنها اليوم لا لسبب سوى أنها لا حمالة سياسية لها بين دولةٍ تركيةٍ ومحيط غير تركي، فتبقى طي أرشيف الأمنيات أو الحسرات.

وستشق الطبقة الجديدة الطريق أمام قيام مؤسسة إقليمية استراتيجية مشيدة من لبنات المجتمع المدني الإقليمي، لها برامج ومؤتمرات وحضور إعلامي يغذي ويزرع مفهوم الإقليمية ونظرية الأمن الإقليمي.

وستكتسب المؤسسة أمومة سياسية معنوية من الدولة الإقليمية تمنحها واقعية على الساحة الدولية وتضعها في مدار "بروتوكولي" سليم يمكّنها من التمدد في علاقات مع مؤسسات مشابهة في مجتمعات عالمية فاعلة، والدخول معها في عملية تحديد قواسم مشتركة حول ملفات مهمة عالقة وصياغة مفاهيم استراتيجية على مستوى كتل إقليمية (وليس على مستوى منفرد كما في مؤتمر بكين للمنظمات غير الحكومية) من جهة، وعلى مستوى المجتمعات المدنية وليس الأنظمة الرسمية من جهة ثانية، فيكون منصة إقليمية مدنية، وتكون بذلك قد أضافت لوناً جديداً إلى الطيف الاستراتيجي الدولي.

وستُحضر الآلية ملفات الدولة الإقليمية إلى يوميات الجوار وتجعله في جاهزية فكرية لإطلاق هبات إعلامية كلما ارتفعت حرارة الملفات، كهبات حاضنة المشجعين في ملعب كرة القدم كلما صفر الحكم محتسباً خطأ لصالح الخصم، وهو واقع ما زالت تركيا بعيدة عنه، وما زال الحكم الصهيوني في ملعب الكونغرس يصفر لصالح الخصم الأرمني وسط صمت الجوار، وما زالت ملفات التمرد الكردي، وقبرص، والقوقاز، واليونان، والعلويين، وخطوط نقل الغاز الاستراتيجية؛ وجميعها ملفات ذات امتدادات إقليمية ومرشحة لتكون فتيل نزاعات مستقبلية بحاجة إلى تخندقات إقليمية على غير الصورة إبان الإنزال التركي في قبرص في العام 1974 يوم وجدت تركيا نفسها من دون صديق؛ ما زالت هذه الملفات موضع جهل عند الجوار ولم ينجح الإعلام التركي في تعديل الصورة.

إذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن كرات ثلجية لأمم أخرى ما فتئت تتدحرج دون توقف، فأقوام الأنغلوسكسون البروتستانت الذين تفرقوا في قارات ثلاث، ما زال بينهم من آليات التواصل ما أبقاهم على أنماط متشابهة في التفكير، ما جعل من أحوال مدينة سيدني أخباراً محلية في لندن، ومن مشكلة تقع في مدرسة ابتدائية في تازمانيا (جزيرة قرب أستراليا) حالة تقاس عليها المعالجات التربوية في المدارس الإنكليزية، ويأتي المواطن النيوزيلندي إلى إنكلترا ليتماهى في نسيجها الاجتماعي والسياسي، وهو إنسان مأمون على مصالحها الاستراتيجية، ومثله الأسترالي في كندا، مثلما كان خير الدين باشا التونسي العربي في مجتمع الأستانة، يوم استدعته الإدارة العثمانية للاستفادة من قدراته الإدارية والاستراتيجية واستأمنته على أرفع موقع (الصدر الأعظم)، وهي صورة يصعب مجرد تخيلها اليوم.

بهذه الثقة نجت العائلة الأنغلوسكسونية في عالم مضطرب، والعولمة هو أنموذجها الاستراتيجي الذي ألزمت به العالم، والمقارنة بين الصورتين تظهر حجم التقهقر الذي أصاب الثقة البينية بين ركني السياسة في هذه المنطقة: العرب والترك، على مدى عقود الانفصال، فما عادوا قادرين على استذكار أنموذجهم الإقليمي السابق فضلاً عن إيجاد أنموذج جديد.

معطيات التدحرج والسكون في المثالين المختلفين هي مناط القضية، ويجدر هنا القول: إذا كانت السياسة هي فن الممكن، وأن كل غير ممكن ليس بسياسة، فإن الفكر الاستراتيجي هو فن إحداث الممكن أو تطويره في حال وجوده. وما دام السياسي يستعيض عن غير الممكن رغب صوابه بما هو ممكن، فهو مصفح عن أهداف استراتيجية حقيقية وضالع في منع حدوث التدحرج. هنا يكمن دور الفكر الاستراتيجي، وهو إيجاد الحمالة السياسية لغير الممكن وإخراج السياسي من ضيق الخيارات إلى سعة البدائل وإفساح الطريق أمام كرة الثلج.

التدحرج العظيم

ما سبق من معطيات يضع كرة ثلج المشهد الإقليمي على شفا سفح مديد بانتظار ركلة هينة لتبتدئ رحلة التدحرج العظيم.

عمل يسير كبير الدلالة لتحريك الكرة الساكنة يمكن أن يتخذ شكل تحديد يوم شهد حدثاً مهماً أحيا مغزىً في ذاكرة الأمة وأشعل عواطفها، وجعله أسبوعاً احتفالياً إقليمياً من كل عام. سيكون اليوم الأول من شهر مارس (آذار) هو ذاك اليوم من دون منازع، تخليداً لقرار البرلمان التركي في العام 2003، الذي رفض طلب الجيش الأمريكي استخدام الأراضي التركية لاحتلال العراق في أكبر غزو عرفه تاريخ الشرق الإسلامي مع الغرب المسيحي، والفصل المتمم لما كانت تطلق عليه أوروبا "المسألة الشرقية"، وهي خطة الإجهاز على الدولة العثمانية واحتلال الشرق الإسلامي الذي أنجزته الحرب العالمية الأولى.

ترتفع في سماء الاحتفال لافتة كتب عليها "الأمن الإقليمي أيار 1901 آذار 2003"، وتُلقى كلمات تصل الحاضر بالماضي، تحديداً قرار السلطان عبد الحميد الثاني رفض مقايضة فلسطين بديون الدولة العثمانية، ويتحدث نواب أتراك بصفتهم الشخصية عن مشاعرهم وهم يصوتون بـ "لا" ضد المطلب الأمريكي، وعما حملهم على موقف خاسر في حسابات السياسة والاقتصاد، وما ارتسم في مخيلتهم مما سيحدثه الغزو في بلاد وحرمات كانوا حتى الأمس القريب سدنتها، وما سيقوله التاريخ لأحفادهم عنهم.

ويرد العرب بتبيان لماذا لم يأتِ القرار التركي مفاجأة لهم، وماذا يعني أن الحدث وضع العرب والترك على طريق مصيري مشترك من جديد. ويأخذ الاحتفال مسلكين: خطابي في ميادين إستانبول، وآخر نخبوي في أجواء المعاهد والأكاديميات، حيث يأخذ طريقه إلى صياغات فكرية ورؤى استراتيجية واشتقاقات لفظية لقاموس سياسي إقليمي.

هذا المشروع من أدعى أنماط المشاريع إلى النجاح، وأقدرها على الاستمرار، وأبعدها عن الرتابة، لاجتماع الحقيقة والعاطفة فيه، وحدوثه على خلفية مشروع إقليمي آخر معاكس تواطأ مع الغزو. رغم ذلك فإن ذكرى الأول من آذار غدت نسياً منسياً، وأهملها الإعلام التركي نفسه غير القادر على أقلمة حدث تركي يهم العرب (مشكلة الحمّالة مرة أخرى)، ولو سئل عنها رجل الشارع لما أسعفته الذاكرة، لكن هذه الذاكرة تستحضر القرار الأسبق، أي سلامة الذاكرة البعيدة وفقدان الذاكرة القريبة، وهو مؤشر على تدهور الآلية الثقافية الإقليمية وعلى شيخوخة اجتماعية.

ليس قراراً آنياً

التعبئة الفكرية التي ترمي إليها الآلية ليست خيار لحظة، صحيح أن المنطقة اليوم تعيش استنفاراً من المشروع الطائفي الإقليمي، لكنه استنفار متأخر بواقع ثلاثة عقود، فات فيها الأوان على فصول حاسمة في الصراع مع الطائفية، أي أن المنطقة وجدت نفسها وجهاً لوجه مع ملف بهذه الدرجة من الخطورة مجردة من الذخيرة الفكرية، بل كانت الشرنقة التي احتمى بها المشروع الطائفي يوم كان يرقة، وقد تطلب توفير الذخيرة ثلاثة عقود من مراجعات مضنية لقناعات جمعية ثبت أنها كانت ساذجة.

تركيا بحاجة إلى سباق مع الزمن، بأن تكون على تماس ثقافي مع من يقصدها، صغر القاصد أو كبر، وأن تقصد المواهب التي لم تكتشف في مواطنها الأصلية فتكتشفها، وتطوق نفسها بمهارات متنوعة لإدارة مشهد معقد ومواجهة خصم محنك.

ثمة تشابه بين ما هو مطلوب وبين ما هو معمول به في أندية كرة القدم الآنفة، التي تتحرك بآليات تجوب المدارس الابتدائية والأزقة الشعبية وتقتحم أرياف إفريقيا بحثاً عن مواهب غضة في مهمة شعارها "صبي اليوم مارادونا الغد"، قسم من هذه الآليات يملكه النادي، والقسم الآخر لشركات خاصة أو أفراد، وفي جميع الحالات يؤتى بالصيد الثمين أمام لجان مختصة تنتقي أجوده وتحوله إلى أكاديمية النادي التي تقوم بصقل مهاراته وتشكيل فريق تجريبي منه.

كل شيء حتى اللحظة يجري مع القادمين الجدد وفق عقود رخوة، وعلى مساحة لأخطاء لا بد منها بما لا ينعكس على السجل الرسمي للنادي، يتبع ذلك تأهيل للقادم الجديد أو تسريح له بإحسان، ما يضمن للنادي تدفق المواهب وتفادي وضع تتعاقب فيه النجاحات والكبوات. أما القادم الجديد نفسه فهذه نافذته على المجد، وقد كانت نافذة لنجوم يعرفهم العالم اليوم بعد أن احتجبت مواهبهم في بيئات نائية احتجاب اللؤلؤ في جوف المحار. والمحصلة هي: مؤسسة متعددة الجنسيات تخدم نادياً محلياً، وعلامة رياضية عالمية مشتقة من اسم محلي صنعتها الحاضنة الواسعة.

على طريق الإقليمية

لقد فتحت تركيا حدودها السياسية مع المنطقة العربية، وهي خطوة جريئة تدفع عجلة الرتق الاجتماعي الإقليمي إلى الدوران، وتقود إلى تداخل أسباب كسب العيش على طرفي الحدود. الخطوة الجريئة الأخرى التي لم تأتِ بعد هي مصارحة الذات بأن 9 عقود من الانفصال قد أوجدت موانع فكرية معرقلة للتكامل الإقليمي المنشود ينبغي أن تزول، وأن ثمرة زوالها تقتضي أن تكون يانعة في يوم يصل فيه المسار الاقتصادي الإقليمي التي تقوده تركيا إلى محطة يتحتم عندها حدوث تغيير سياسي إقليمي، مثلما فعلت أوروبا التي سارت بمسارين متوازيين، فما أن وصل مسارها الاقتصادي مفترق طرق سياسي كانت أجواؤها الفكرية قد بلغت مصافات أهّلتها للاندفاع نحو صيغة سياسية متقدمة. ولعل الأدق هو أنها أطلقت مسارها الاقتصادي على أرضية جاهزة من التجانس الفكري والاستراتيجي أوجدتها نتائج الحرب العالمية الثانية، وليس العكس.

إذا كان طمس الحدود السياسية يقتضي إزالة حاجز عند نقطة الحدود، فإن طمس الحدود الفكرية يقتضي جهداً مختلفاً. وإذا كان الأول، وهو إصلاح سياسي، عملية تطلقها النخب السياسية في الأعلى وتنفذها مؤسسات قائمة اسمها الدولة وتهبط ثمارها إلى الشارع؛ فإن الثاني، وهو ترميم اجتماعي، عملية ينجزها الناس على الأرض وتصعد ثمارها إلى الأعلى، لكن مؤسساتها ليست موجودة في كل مجتمع، وقد يفتقد المجتمع ثقافتها، ما يثقل العبء على روادها.

لقد بذل الأوروبيون جهوداً عظيمة، ليس في رتق النسيج الاجتماعي، لأن أوروبا لم يكن لها نسيج موحد في يوم من الأيام، وإنما في حياكة نسيج اصطناعي بصبر فاق صبر حائك السجاد الإيراني، وكان إنجازاً من طرفين: نظم سياسية وضعت التشريعات؛ فألغت المكوس، وفتحت الحدود، وأنشأت محكمة أوروبية، وبرلماناً أوروبياً، ومصرفاً أوروبياً، وعملة موحدة. ومنظومات مجتمع مدني ترجمت الرؤية السياسية من توجسات قومية تاريخية إلى قناعات شعبية اجتازت استفتاءات عامة، وكانت المنظمات تمهد الطريق الشعبي أمام كل تشريع جديد.

مفارقة

في الفترة ما بين 1914 - 1922 عمل الأوروبيون على إعادة التشكيل السياسي للشرق الإسلامي، وراحوا يحدثون نظماً سياسية وثقافات بديلة كل بطريقته؛ فالروس شككوا في الأساس الذي تقوم عليه الحياة السياسية في الشرق، الدين، فقدموا الشيوعية، وقدم الإنكليز القومية أو الولاء للسلالة الحاكمة، واعتمد الفرنسيون الطائفية وضرب الطوائف ببعضها.

المفارقة هي أن الدولة التي استثنيت مؤسساتها الثقافية والدينية من التفكيك وترك لها استقلالها، على خلاف المؤسسات الدينية والثقافية في الولايات العثمانية (الدول العربية لاحقاً) التي أمّمت تحت لافتة وزارات الأوقاف وأعيدت كتابة مناهجها؛ هذه الدولة هي من يولي المنطقة اليوم اهتماماً ثقافياً وفكرياً مؤسساتياً منقطع النظير، ما يضع المنطقة أمام عنوان لا يتعدد، هو: "إعادة التأهيل للنظام الثقافي الإقليمي المفكك"، بعبارة أخرى "إعادة التأهيل الثقافي الإقليمي لتركيا".

إننا أمام استراتيجيتين ثقافيتين لنظامين سياسيين إقليميين: استراتيجية من لم يفقد شيئاً وليس لديه ما يعوضه لكنه يمتلك مؤسسات إقليمية وظيفتها النزول إلى سوق الكتّاب والإعلاميين والفنانين بشكل موسمي والتبضع منهم بما يسد نهم آلته الدعائية الهائلة المتخصصة في هتك النسيج الثقافي والاجتماعي الإقليمي، وأبوابه مشرعة لمن يقصده، صادقاً كان أو متملقاً.

واستراتيجية من اجتثته من محيطه حرب ثقافية من جذوره اجتثاثاً، ويعود إليه متأخراً بجهد ثقافي متواضع يقصده الجوار فلا يكاد يهتدي إليه سبيلاً. وغني عن التعريف أي النظامين يمسك بأوراق الجوار ويتحكم في مفاصله.

عندما توجد الآلية

عندما تلتحم حاضنة فكرية مفعمة بالقدرات في محيط مضطرب بمؤسسات الدولة الإقليمية المتعافية سياسياً والمرموقة دولياً، فإن الالتحام يكون حينئذ أمام دورين: إقليمي؛ وهو تأسيس مفاهيم إقليمية وترميم شخصية إقليمية كما مر. ودولي؛ حيث ستجد المؤسسة الإقليمية نفسها على أرضية مشتركة من المنطلقات والآليات مع منظومات مجتمعات ينتابها قلق من مؤسسة سياسية أهملت قضاياها، ومن ازدهار صناعة "ترويج الشخصية" التي تقصي زعماء الإصلاح الحقيقيين لصالح مرشحي الأحزاب، ومن ثالوث اسمه "مال، وأحزاب، وإعلام"، ومن شعب أصبح وقود العملية السياسية؛ يدفع الضرائب، ويمنح الأصوات، ويتلقى الأكاذيب.

:: مجلة البيان العدد  320 ربيع الثاني 1435هـ، فبراير  2014م.

 

أعلى