أن تُنْزَعَ رؤوس من رمال

أن تُنْزَعَ رؤوس من رمال

 

لم تكن الثورة الفرنسية في بداياتها تعرف ذلك الشعار المشهور عنها اليوم، الذي ينسب لميرابو خطيب تلك الثورة، إذ يقول:

 «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس».

تلك الثورة لم تكن في الأصل ثورة على الكنيسة كمؤسسة أو على المسيحية كدين، لكنها كانت ثورة على ممارسات سلطوية متشابكة بين الكنيسة والإقطاع والسلطة الملكية الحاكمة؛ ممارسات أدت إلى تردٍّ اقتصادي واجتماعي شديد، فكان المطلب الرئيس لها الذي يدركه الفلاح الفقير الذي كان وقود تلك الثورة، هو الخبز والخبز أولاً، كما أشار إلى ذلك سير. هـربرت جورج ويلز في كتابه “معالم تاريخ الإنسانية”.

لذلك؛ احتاج تلاميذ فولتير وروسو وموليير إلى أن يقوموا بمرحلة وسيطة تتيح لهم غرس تلك الأفكار المتمردة والمعقّدة في عقول أولئك البسطاء، من خلال حملات توجيه بسيطة وسهلة الفهم، لكنها تغرس في العقل الجمعي الفرنسي صورة مشوهة لرجال الدين.

قاد خطباء الثورة والممثلون في مسارحهم المتنقلة، تلك الحملة لسنوات أحصاها بعض المؤرخين بعشر سنوات، وقال بعضهم الآخر أضعاف تلك المدة؛ أظهروا فيها رجال الدين بأسوأ وأحط صورة يمكن تخيلها، وحرصوا على أن يبدو الممثلون الذين يقومون بأدوارهم بصورة مقززة منفرة، بل فاحشة، حتى ذكرت بعض الروايات التاريخية أنه مرت على رجال الدين في فرنسا فترات لم يتمكّنوا فيها من ارتداء زيهم المميز والخروج به؛ خشية السخرية والامتهان والاستهزاء، التي كانت ثماراً طبيعية لتلك الجهود الموجهة والمساعي الحثيثة.

بذلك، زالت أولاً قداسة (ما أنزل الله بها من سلطان)، ثم زال الاحترام والقبول ثانياً، ثم زالت المرجعية بالكلية بعد ذلك.

من هنا، صارت الثورة الفرنسية ثورة علمانية شرسة عازلة للدين نفسه وليس فقط لرجاله أو لفكرة الكهنوتية وصكوك الغفران وغيرها من المسائل التي أحسن علمانيو فرنسا استغلالها وصنعوا من خلالها وعبر ذلك المنحنى الفكري المتصاعد هزة عقدية زلزالية كانت بمنزلة شرارة سرت بعدها العلمانية في ربوع أوروبا والعالم سريان النار في الهشيم.

ومما لا شك فيه أن الأحداث المفصلية الكبرى تتبعها اهتزازات شاملة في البنى الفكرية والأيديولوجية والقيمية الخاصة بهذه الشعوب التي مرت بتلك الظروف الاستثنائية.

هذا الأمر متكرر في جل الأمم التي حدثت فيها مثل تلك المنحنيات الحادة في مسارها السياسي والاجتماعي.

وسواء كانت تلك المنحنيات في شكل ثورات شعبية أو حروب شاملة أو أهلية أو احتلال أو تحرر من احتلال؛ فإن المآل الفكري يتشابه ويشترك في معامل أساس، ألا وهو التغيير؛ التغيير الحاد والجذري والشامل.

الشعوب في تلك الظروف الاستثنائية تميل بشكل واضح للتغيير في كل شيء تقريباً، وهذا التغيير أحياناً يكون بشكل جمعي موجه أو بشكل عشوائي أو تختلط فيه العشوائية بالتوجيه.

والحقيقة أن المقلّب لصفحات التاريخ يجد قاعدة مهمة ماثلة أمام عينيه، مفادها أن ليس ثمة أمة يمكن أن يقال عنها إنها بمعزل عن التغير والتحول والتبدل.

فكم من الأمم تغيّرت عقائدها وأفكارها مراراً وليس مرة واحدة، خصوصاً بعد الأحداث الجسام كالثورات والحروب؟

وهل عرفت روسيا الشيوعية قبل ما يسمى الثورة البلشفية؟

وهل كانت فرنسا ليبرالية أو عرفت علمانية شرسة تعلن شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس قبل الثورة الفرنسية؟

وهل تشبه تركيا أتاتورك وما بعده تركيا الخلافة العثمانية، أو تبدو إيران الشاه قريبة أيديولوجياً أو ظاهرياً من إيران الخميني وولاية الفقيه؟!

وهل كانت مصر قبل الحقبة الفاطمية وحكم العبيديين مثل مصر بعدهم؟!

بل هل مصر الخمسينيات والستينيات تشبه مصر في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من حيث التمسك بالدين وشعائره وسمته وثوابته؟!

إن نظرة سريعة على أدبيات النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين ومنتجاته الفكرية والثقافية والفنية؛ تظهر لنا بجلاء تغيّراً جذرياً في البنية الدينية للأمة المصرية في ذلك الوقت.

ولست بصدد التناول التفصيلي والتحليل التفكيكي لتلك المرحلة ومظاهر الانتكاس الديني فيها، على الأقل ظاهراً؛ فإنها معروفة ومسجلة، لكنها قد لا تظهر إلا عند المقارنة بالحقبة المحافظة التي سبقتها في أوائل ذلك القرن أو الذي سبقه.

وإن المتأمل في الواقع الإسلامي اليوم يلحظ بسهولة ويسر أن هزة شبيهة وربما أعمق وأخطر تتعرّض لها الحالة الدينية المعاصرة، على الأقل ظاهراً، وأن الاتصال بين الظاهر والباطن أمر لا يجحده بصير؛ ففي الجسد مضغة بصلاحها يصلح وبفسادها يفسد، والكتاب قد يظهر شيء من حاله عبر عنوانه.

إن من ينكرون اليوم أن هناك مشكلة حقيقية في التزام الناس بتعاليم الدين وتكاليفه وإقبالهم على شعائره وقبولهم دعوته؛ هم في رأيي يمارسون نوعاً من دس الرؤوس في الرمال، ويتجاهلون ظواهر إعلامية وثقافية وحياتية يومية تصرخ فيهم أن انزعوا رؤوسكم من رمالها وانتبهوا.. فثمة مشكلة.

ولولا أنني لست من محبّي الخوض في التفاصيل المحزنة والمشاهد الموجعة، على الأقل من باب “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم”؛ لذكرت عشرات الشواهد التي تعضّد ما ذهبت إليه من أن هناك مشكلة حقيقية تصل أحياناً إلى أسوار العقيدة نفسها، لكنني أنأى بالقارئ الكريم عن أن تتلوث عيناه ويتأذى قلبه بها، أو أن تهون المعصية في نظر بعض الخلق بسبب كثرة شيوعها، و”إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة”.

لذلك؛ أعنى في تلك السطور برصد العوامل التي أدت وتؤدي إلى تلك الهزة الدينية والانتكاسة الالتزامية المعاصرة، وتلك هي أولى خطوات الحل، “ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء”.

والعوامل التي تتضافر لزلزلة معتقدات الناس وثوابتهم وخلخلة تماسكهم العقدي وتمسّكهم العملي؛ كثيرة، من ضمنها بلا شك: تجفيف منابع التلقي الديني، خصوصاً من خلال الدعوة العامة والوعظ المطلق الذي رغم رتابته وعدم تجديد آلياته يتم تقييده وحصره، وأيضاً: ارتباط الأعمال الدعوية في أذهان المتلقين بالصراعات المعاصرة وافتراضهم المسبق أنها ليست دعوة خالصة لكنها لأجل غايات سياسية أو حزبية، كل ذلك جنباً إلى جنب مع إسراف في مصادر التلقي المضاد وإطلاق يد الآخرين في المقابل ليعبثوا بأدواتهم من شهوات جاذبة أو شبهات لامعة تلقى بكل حرية.

لكنني هنا أريد أن أقف وقفة مع العامل الأكثر تأثيراً في نظري، الذي يتم هدمه وإحلال غيره محله بإصرار؛ إنه عامل القدوة.. تلك التي تنهار في النفوس تدريجياً.

ولست أعني بالانهيار هنا انهيار الاستحقاق، فإن القدوات ومن يستحقون أن ينظر إليهم الناس بعين التقدير موجودون دائماً بفضل الله، ولا يزال الخير في الأمة حتى تقوم الساعة؛ لكنني أعني هنا انهيار تلك القدوات في نظر الناس، وذلك إما بتشويه متعمد مكذوب، أو للأسف بأخطاء حقيقية وقع ويقع فيها بعض الناس بسفه غير مسبوق وعدم تحمّل مسؤولية المكانة وقيمة الاقتداء بهم، ما أثر في كل من يحمل السمت نفسه بالتبعية.

كثير ممن هم في مقام القدوة يهوّنون على أنفسهم خطورة هذا العامل بترديد تلك القاعدة العظيمة المنسوبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لا يعرف الحق بالرجال”.. وهي كقاعدة لا غبار عليها، لكن كم من الناس يدركها ويطبقها؟! وكم من الخلق يتعامل على أساسها ولا يفتن بضدها؟!

الحقيقة الواقعية والمشاهدة أن أكثر الناس يتأثرون وربما يفتنون بأفعال المتدينين وأخلاقهم، وينظرون دوماً إلى صنيعهم، ولقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر واعتبره فقال: “إن منكم لمنفرين”.

ولو كانت القاعدة مطردة تسري على كل الخلائق، فلماذا أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك من ينفر عن الدين بسبب أهل الدين من المنفرين؟

نعم، هي ليست حجة مبررة لأفعال وتفريط النافر، لكنها حجة على المُنَفِّر والمستهين بتلك القيمة، قيمة أنه قدوة.

والمتغافل عن كون مقام الرجل الصالح في نفس الإنسان البسيط - حتى لو كان هذا الإنسان عاصياً - مقاماً كبيراً ومهماً ينبغي أن يصان وأنه إن سقط في نفس الإنسان كانت النتيجة لا تحمد عقباها؛ هو أحد من يصرّون على مزيد من دس الرؤوس في الرمال.

لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أُوصيكَ أن تَستَحي مَنَ اللهِ تعالى كما تَستَحي مِن الرَّجلِ الصَّالِحِ مِن قومِكَ”.

تأمل حرصه على رعاية تلك القيمة في نفوس الناس وإقرار أن هناك حياءً من الرجل الصالح، ثم تخيل لو انهار ذلك الصالح وسقط في أعينهم.

إذا كان هذا الرجل الصالح المتديّن فيه كذا وكذا من سيئ النعوت وقبيح الخصال، فماذا أفعل أنا وأنا الضعيف المسكين الذي لم يدَّعِ يوماً أنه متدين أو شيخ؟!

هؤلاء ثلة من المنافقين يظهرون الصلاح بينما قلوبهم تمتلئ بالفساد والباطل، أما أنا فصاحب قلب نظيف، إذاً فأنا أفضل أو على الأقل مثلهم.

كذلك لسان حال كثير ممن يستمرئون الخطأ تبعاً لأخطاء المتديّنين أو انهيار صورتهم، وإن العامل النفسي أمر لا يجب تجاهله أو إغفاله.

المفرط غير القادر على إصلاح حاله أو الإقلاع عن معصيته، البديل لديه أحياناً أن يكون الناس كلهم مثله، بل حبذا لو كانوا أسوأ؛ لذلك يريد الذين يتّبعون الشهوات أن يميل الصالحون ميلاً عظيماً لكي تكتمل الحجة وتهون المعصية بحجة.

هؤلاء المتدينون في نظره أفاقون، ومنافقون، وتجار دين، وطلاب دنيا ومنصب وجاه، بينما هو بحاله ومعاصيه لم يفعل شيئاً من هذا، فهو في نظر نفسه قد ارتاح، ولم تعد هناك حاجة إذاً للتغيير والتوبة، وهذا هو محل الخطر، وذاك ما يسعى إليه البعض بكل قوة، وتساعدهم فرص ذهبية يعطيهم إياها بعض المتديّنين بعدم تحمّلهم تلك المسؤولية وعدم الانتباه لتلك القيمة، قيمة القدوة، وأن صلاح الصالحين حجة في الأرض على الفاسدين، ويقولها رب العالمين حين يصرخ أصحاب الجحيم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106]، فيجيبهم ويقيم عليهم الحجة بفعل الصالحين: {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ صلى الله عليه وسلم٩٠١صلى الله عليه وسلم) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ 110 إنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109-111].

حين يغفل أهل الصلاح عن ذلك ويتهاونون في قضية الحرص على عدم فتنة الناس بزلاتهم؛ تعظم تلك الزلات ويسلط عليها الضوء للغاية، ومن ثم تنهار القدوة، ويخبو في القلب ذلك المثل الذي كان يشكل جذوة من ضياء يتمنى جزء خفي من نفس العاصي وفطرته أن يعم القلب والبدن.

وبانهيار تلك القدوة وخبو تلك الجذوة من ضياء التأسي والاستحياء من صالحي القوم؛ تتحول الهزة المجتمعية أو السياسية إلى هزة دينية وتردٍّ التزامي وأخلاقي، وتزل قدم بعد ثبوتها، ويذوق المجتمع بمتديّنيه وغير متديّنيه السوء بما صدوا عن سبيل الله.

من هنا تتضاعف مسؤولية القدوات وأهل الديانة وأصحاب السمت، ويصير من الضروري أن يتم الالتفات إلى خطورة دعوة الحال بالتوازي مع دعوة اللسان والمقال، وقبل ذلك كله أن يتم الانتباه للحال والمآل.. وأن تُنزع رؤوس من رمال.

 

:: مجلة البيان العدد  326 شوّال 1435هـ، أغسطس  2014م.

أعلى