إن منشأ غلط كثير من أهل العلم في ترجيحهم بين الأحاديث المتعارضة في الظاهر، هو زعمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز له أن يخبر بشيء ويُعْلِمُه الوحي بخلافه. قالوا: ويستحيل أن يقع التعارض بين خبرين من الوحي، لكنه جائز بين خبر قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه وبموجب اجتهاده وخبرٍ من الوحي!
قلت: إن دعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بشيء وأَعلَمه الوحي بخلافه دعوى عاريةٌ عن الدليل، ورجمٌ بالغيب، وقولٌ في دين الله بغير علم؛ فلا تثبت هذه الدعوى إلا بأمرين:
الأول: إثبات أنه قال هذا القول من عند نفسه أو قاله شاكّاً أو متردداً، ولن يستطيع مدَّعٍ إثبات ذلك أبداً، اللهم إلا رجماً بالغيب وقولاً بغير علم.
الثاني: إثبات أنه قال هذا القول، وأخبر بهذا الخبر قبل إخباره بالخبر الآخر؛ حتى يصح ادعاء أن الخبر الآخر وحي، والأول قاله شاكّاً أو متردداً أو قَبْلَ أن يوحى إليه؛ فبدون إثبات أنه قال أحد القولين قبل الآخر، لا يجوز لمدَّع أن يدَّعي أن أحد الخبرين وحيٌ والآخر ليس كذلك؛ فلا يمكن لمدعي هذه الدعوى أن يثبت صحتها ولو اجتمع له علم مَنْ في الأرض جميعاً.
إن القول في دين الله بغير علم حرام وقد قال الله - جل وعلا - لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٦٣]، وقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ - ٤]. وقال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب أن يسألَني عن شيء فَلْيَسأَلْني عنه؛ فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا»[1].
فلا يجوز لأحد من الناس أن يقول في دين الله بغير علم أو أن يُخْبِر عن شيء لا يدري ما هو؛ فكيف بالمعصوم - صلى الله عليه وسلم -؟
نعم! يجوز له - صلى الله عليه وسلم - أن يظن ظناً، أو يجتهد، أويرى رأياً، كما في حديث تأبير النخل، وقولِه: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»[2]. وحُكْمِه في أسارى بدر، وإذنِه لبعض المتخلفين عن تبوك، ولكن هذا في الأحكام لا في الأخبار، ومن استقرأ نصوص الشريعة علم يقيناً أنه لا يجوز الاجتهاد في الأخبار؛ لأن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، هو عين الكذب، والأنبياء معصـومون من هذا النوع من الكذب، وإن جاز في حقهـم الكـذب فهـو الكـذب المشـروع الـذي هـو خيـرٌ وحكمـةٌ ومصلحةٌ، وليـس القـول بغير علـم، والرجـم بالغيـب، ولا أظن أحداً يشم رائحة الفقه يدعي أنه يجوز الاجتهاد في الأخبار.
وقد اتفقت كلمة الأصولين على أنه لا يقع التعارض بين الأخبار؛ لأنه لو تعارض خبران كان أحدهما كذباً لا محالة. قال ابن قدامة في روضة الناظر: (اعلم أن التعارض هو التناقض؛ ولا يجوز ذلك في خبرين؛ لأن خبر الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون كذباً؛ فإن وُجِدَ ذلك في حكمين، فإما أن يكون أحدهما كذباً من الراوي، أو يكون الجمع بينهما بالتنزيل على حالين، أو في زمانين، أو يكون أحدهما منسوخاً)[3].
وهكذا صرَّح قَبْلَه الغزالي في المستصفى[4]،  وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي الطيب الطبري أنه قال: (كل خبرين عُلِم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهما فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهراهما متعارضين... لأنه يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزَّه عن ذلك، ومعصوم باتفاق كلِّ مثبت للنبوة)[5].
ولهذا صرحوا أنه لا يجوز النسخ في الأخبار؛ لأنه يستحيل التعارض بينها، والنسخ أَثَرٌ من آثار التعارض؛ فلو جاز التعارض لجاز النسخ، ولا شك في غلط من جوَّز التعارض ومنع النسخ، ثم قرر أن ذلك الخبر قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه.
فدعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله قبل أن يوحى إليه، فيها إهمال لوحي، وإسقاط لأحد الخبرين، وإبطالٌ لحديث الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، الذي لا ينطق عن الهوى؛ وقد اتفق الأصوليون على أن إعمال الدليلين أَوْلَى من إهمال أحدهما، وأنه لا يصار إلى إهمال أحد الدليلين إن أمكن الجمع بينهما.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: (وكلما احتُمِل حديثان أن يُستعمَلا معاً استُعمِلا معاً ولم يعطِّل واحد منهما الآخر)[6].
وقال في الرسالة: (ولم نجد عنه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً مختلفاً فكشفناه إلا وجدنا له وجهاً يحتمل به ألا يكون مختلفاً)[7].
وقال الإمام ابن خزيمة - رحمه الله -: (ليس ثَمَّ حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وَجَد من ذلك شيئاً فَلْيَأتني لأؤلِّف له بينهما)[8].
وقال القرافي - رحمه الله -: «إذا تعارض دليلان، فالعمل بكل واحد منهما من وجه أَوْلَى من العمل بأحدهما»[9].
ويقول اللكنوي: (إن إخراج نصٍّ شرعيٍّ عن العمل به مع إمكان العمل به غير لائق؛ فالأَوْلَى أن يُطلَب الجمع بين المتعارضيين بأي وجه كان بشرط تعمُّق النظر وغوص الفكر)[10].
إن نصوص الوحي يفسر بعضها بعضاً ويؤيد بعضها بعضاً ويقوي بعضها بعضاً، ومحال أن تأتي متعارضةً ومتناقضةً؛ لأنها من مشكاة واحدة، وفي ملَّة واحدة، ولم تأتِ عن جهل، ولم تصدر عن هوى. وما تُوُهِّم عن بعضها أنها مختلفة ومتعارضة، فهو تعارض ظاهري ينشأ في الذهن ويقع في الخاطر، وسرعان ما ينكشف ويتلاشى أمام الراسخ في العلم، وأعظم أسباب هذا الوهم هو عدم حضور النصوص مجتمعة عند المجتهد؛ فيحضر بعضها ويغيب بعضها، وما غاب عنه هو الرابط الذي يربط بين تلك النصوص ويؤلِّف بينها والجامع الذي يجمع شَمْلَها. وهذه القاعدة أشار إليها شيخ الأسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- فاستمسِك بها فإنها تغنيك عن سِفْر يُسْفِر عن كثير من القواعد في هذا الباب.
والعالِم الموفَّق، هيَّاب للوحي، معظِّم لشأنة، وقَّاف عند حدوده؛ لا يتقدم بين يدي الله ورسوله، وليس بهياب للجمهور، ولا معظِّمٍ للآراء ولا متبعٍ لنخالة الأفكار وزبالة الأذهان.
وإن يعظِّمِ العبد نصوص الوحي من ربِّه، ويقدِّرْها حق قَدْرِها، ويأخذها بقوة؛ يفتحِ الله - سبحانه - له أبواباً من العلم والفهم؛ وهو الفتاح العليم.
وبَعْدُ: فقد استقرأنا مظانَّ هذه الدعوى، وتتبعنا مواضعها في كتب القوم، فألفيناها في عدة أحاديث صحيحة يمكن أن نُجْمِلُها في ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: الأحاديث التي وردت في مصير الأطفال.
القسم الثاني: في الأحاديث التي وردت في المسخ.
 القسم الثالث: الأحاديث التي وردت في التفضيل بين الأنبياء.
وسنذكر هذه الأقسام مفصلة، ونذكر تأويلاتها اللائقة بها، ونبين أنه لا تعارض بينها وبين الأحاديث الأخرى، والله الموفق لا ربَّ سواه.
أولاً: الأحاديث التي وردت في مصير الأطفال:
بوَّب البخاري في صحيحه باباً بعنوان: (باب ما قيل في أولاد المشركين)، وأورد فيه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين».
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين». ورواه أبو داود في سننه وزاد: «هم مع آبائهم الله أعلم بما كانوا عاملين».
وأورد البخـاري أيضاً حديث أبي هـريرة - رضـي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تُنتِج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء؟».
وروى مسلم - رحمه الله - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: توفي صبيٌّ من الأنصار، فقلت: يارسول الله! طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة؛ لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: «أَوَ غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم».
وروى أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه بسند صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الوائدة والموؤودة في النار».
فهذه الأحاديث استشكلها كثير من أهل العلم، فزعم بعضهم[11] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قالها كان متوقفاً، ولم يقطع بمصير أطفال المشركين. وقال أكثرهم: بل قالها قبل أن يوحى إليه ولم يكن يعلم أن أولاد المشركين في الجنة. قالوا: وقد جاءت أحاديث صريحة بأن أطفال المشركين في الجنة منها: حديث إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة وحوله أولاد الناس قيل: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين». قـال ابن حجـر في الفتـح: (ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعاً: «سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم». إسناده حسن، وورد تفسير اللاهين بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه البزار. وأخرج أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت: قلت: يا رسول الله من في الجنة؟ قال: «النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة». إسناده حسن)[12]. واحتجوا أيضاً بما رواه ابن مَنْدَه في المعرفة وأبو نعيم في الحلية وأبو يعلى في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أطفال المشركين خدم أهل الجنة»، وقد صححه الألباني بمجموع طُرُقِه.
فقال هؤلاء: هذه الأحاديث صريحة في أن أطفال المشركين في الجنة، والأحاديث السابقة قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه ويعلم أن أطفال المشركين في الجنة. 
وهذا القول مذهب كثير من أهل العلم، واختاره أبو الفرج بن الجـوزي والنـووي، ورجحه القرطبي. قال النووي - رحمه الله -: (وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: ٥١] )[13] واحتج بالأدلة التي ذكرناها.
وقال الراسخون في العلم: الأحاديث ليست متعارضة في هـذا البـاب، بل يصـدِّق بعضهـا بعضاً ويؤيد بعضها بعضاً، ولا يجوز ضرب بعضها ببعض؛ لأنها من مشكاة واحدة، وأطفال المشركين الواجب أن يقال فيهم كما قال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: «الله أعلم بما كانوا عاملين»؛ فهو إذ خَلَقَهم أعلم بمآلهم وما كان سيصدر منهم لو بلغوا، بل هو أعلم بمآلهم قبل أن يخلقهم، وهم أجنَّة في بطون أمهاتهم، وهو بكل شيء عليم.
وقد جاء في عدة أحاديث أنهم يُمتَحَنُون في الآخرة بأن تُرفَعُ لهم نار؛ فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى عُذِّب. أخرجها البزار من حديث أنس وأبي سعيد، والطبراني من حديث معاذ بن جبل. وهي وإن كانت أسانيدها ضعيفة لكنها ليست شديدة الضعف، فيمكن أن ترتقي إلى درجة الحسن، ويشهد لها حديث الأسود بن سريع في حق المجنون والمعتوه ومن في الفترة؛ وهو حديث صحيح، صححه الأئمة: كالإمام أحمد، وعبد الحق الأشبيلي، وابن كثير، وغيرهم. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - موضحاً الحق في هذه المسألة: (والصواب أن يقال فيهم: الله أعلم بما كانوا عاملين ولا يُحكَم لمعيَّنٍ منهم بجنة ولا نار، وقد جاء في عدة أحاديث أنهم يُمتَحَنُون يوم القيامة؛ يؤمرون ويُنهَون؛ فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار وهذا هو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السُّنة والجماعة)[14].
وقال في موضع آخر: (أطفال المشركين الذين لم يكلَّفوا في الدنيا يكلَّفون في الآخرة كما وردت بذلك أحاديث متعددة، وهو القول الذي حكاه أبو الحسن الأشعري في أطفال المشركين، كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»)[15]. 
وهذا مذهب الشافعي كما ذكره البيهقي في كتاب الاعتقاد، ويدل لصحة هذا القول ما ورد في قصة الخَضِرالذي رحل نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى لقائه في مجمع البحرين؛ فإنه قال مبيناً السر في قتله الغلام: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: ٠٨]. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافراً؛ ولو تُرِك لأرهـق أبويه طغيـاناً وكفراً». قال ابن تيمية - رحمه الله -: (طُبِع؛ أي كُتِبَ؛ يعني: طبعه الله في أُمِّ الكتاب أي أثبته وكتبه كافراً، ولو عاش كفر بالفعل)[16].
وقد ضعَّف ابن عبد البر والقرطبي والحليمي وغيرهم هذا المذهب، وقالوا: الآخرة دار جزاء لا دار امتحان وابتلاء. قال القرطبي في التذكرة: (ويضعِّف هذا القولَ من جهة المعنى أن الآخرة ليست بدار تكليف وامتحان وإنما هي دار جزاء)[17]، وقال ابن عبد البر: (هو مخالف لأصول المسلمين؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف)، وردَّ عليهم شيخ الأسلام من عشرة أوجه[18]، وبيَّن أن التكليف إنما ينقطع بدخول دار القرار (الجنة أو النار). قال - رحمه الله تعالى -: (التكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهي الجنة والنار، وأما عرصات القيامة فيُمتَحَنُون فيها كما يُمتَحَنُون في البرزخ؛ وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يتجلى الله لعباده في الموقف إذا قيل: ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، فيتبع المشركون آلتهم ويبقى المؤمنون، فيتجلى لهم الرب في غير الصورة التي كانوا يعرفون فينكرونه، ثم يتجلى لهم في الصورة التي يعرفون فيسجد له المؤمنون وتبقى ظهور المنافقين كقرون البقر فيريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون؛ وذلك قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: ٢٤])[19].
ويدل عليه - كما قال ابن القيم رحمه الله -: حديثُ آخر من يدخل الجنة، الذي يأخذ عليه ربه عهوده ومواثيقه أن لا يسأَله غير ما أعطاه؛ فثبت بهذه الأحاديث وغيرها أن التكليف لا ينقطع إلا بدخول دار القرار فإن قيل: أحاديث الامتحان فيها أمر بالمشاق وتكليف بما لا يطاق؛ فكيف تصح؟ قلنا: هذا تكليف خاص، كبقية التكاليف الخاصة، كتكليف بني إسرائيل بقتل نفوسهم لتُقبَل توبتهم، وكتكليف من لم يكن من أهل السجود في الدنيا بالسجود في الآخرة، فيصبح ظهره طبقاً؛ فلا يستطيع السجود. وهذه النار التي يؤمرون بدخولها هي من جنس نار الدجال التي تكون على من دخلها برداً وسلاماً.
وأحسن من تكلَّم في هذه المسألة العلاَّمة ابن القيم في طريق الهجرتين؛ فقد حقق القول فيها غاية التحقيق وأجاد وأفاد وذكر فيها ثمانية مذاهب، وهي تدل على سِعَة عِلْمِه، رحمه الله تعالى.
أما حديث عائشة الذي ذكرتُه سـابقاً فهـو يدل علـى أنه لا يشهد لولد المؤمنين المعيَّن بجنة ولا نار، كما لا يشهد للمؤمن المعيَّن بجنة ولا نار؛ فإن الغلام الذي قتله الخَضِر كُتِب كافراً وكان أبواه مؤمنين، وأما حديث الوائدة والموؤودة في النار، فقد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الموؤودة بعينها، كما يدل عليه سياق الحديث؛ فالعبرة هنا بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؛ وهذه الموؤودة دخلت النار بسبب آخر علمه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو مثل قوله: «القاتل والمقتول في النار» فإن المقتول إنما يدخل النار إذا كان حريصاً على قتل صاحبه، فإذا كان قوله: «القاتل والمقتول في النار» ليس على عمومه فهكذا قوله: «الوائدة والموؤودة في النار» ليس على عمومه. قال العلاَّمة ابن القيم: (وكونها موؤودة لا يمنع دخولها النار بسبب آخر، وليس المراد أن كونها موؤودة هو السبب الموجب لدخولها النار، حتى يكون اللفظ عاماً في كل موؤودة وهذا ظاهر)[20].
ثانياً: الأحاديث التي وردت في المسخ:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فُقدَت أمَّة من بني إسرائيل لا يُدرَى ما فعلت، وما أراها إلا الفأر؛ ألا ترونها إذا وُضِعَ لها ألبان الإبل لم تشربْه، وإذا وُضِعَ لها ألبان الشاء شربته؟».
وروى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بضبٍّ فأبى أن يأكل منه وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مُسِخَت».
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحيات مسخ الجن ، كما مُسِخَت القردة والخنازير من بني إسرائيل»[21].
وروى مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «قال رجل: يا رسول الله القرد والخنازير هي مما مُسِخ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لم يجعلْ لمسخ نسلاً ولا عقباً، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك».
لقد اختلف العلماء في معاني هذه الأحاديث، فأخذ بعضهم بظاهر الأحاديث الأُوْلَى وزعموا أن الممسوخ يَنْسُل، وأن هذه القردة والخنازير هي من نَسْل بني إسرائيل الذين مُسِخُوا وكذلك الفأر والضب. وهو قول أبي إسحاق الزجاج واختاره القاضي أبو بكر بن العربي[22].
وقال الجمهور: إن الممسوخ لا يَنْسُل، وإن القردة والخنازير وغيرها كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا، ولم يبقَ لهم نسلٌ؛ لأنه قد أصابهم السخط والعذاب فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام، وقال ابن عباس: لم يعشْ مسخ قط بعد ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم يَنْسُل.
قالوا: ويدل عليه حديث ابن مسعود الذي ذكرناه آنفاً: «إن الله لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً»، واختلفوا في معنى أحاديث الفأر والضب، فقال بعضهم: أحاديث الفأر والضب قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً، وهذا قول كثيرٍ من أهل العلم ورجَّحه القرطبي وابن حجر وغيرهما. قال القرطبي: (وكان هذا حدساً منه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلاً، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مُسِخ)[23].
قلت: الأحاديث ليست متعارضة؛ لأنها أخبار والأخبار لا تتعارض؛ لأنها إن تعارضت لزم أن يكون بعضها كذباً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزَّه عن ذلك باتفاق، وإنما ينبغي تأويلها لتأتلف ويتفق معناها.
وقال الحازمي في الاعتبار: «ومهما أمكن حَمْلُ كلام الشارع على وجه يكون أعمَّ للفائدة؛ كان أَوُلَى؛ صوناً لكلامه عن سمات النقص»[24]؛ فلا بد أن تؤوَّل هذه الأحاديث تأويلاً صحيحاً بعيداً عن التعسف، ولا يؤدي إلى تعطيل اللفظ أو تحريفه.
وقال إمام الحرمين: «مما غلَّط الشافعي - رضي الله عنه - على المؤوِّلين كلُّ ما يؤدي فيه التأويل إلى تعطيل اللفظ»[25].
وبناءً عليه نقول - والله أعلم -: إن الأحاديث لا تعني أن الفأر الموجود الآن هي من بني إسرائيل الممسوخين، وإنما تعني أن بني إسرائيل وقع فيهم مسخٌ إلى الفأر، ويدل على هذا التأويل حديث ابن عباس: «الحيات مسخ الجن ، كما مُسِخَت القردة والخنازير من بني إسرائيل»؛ فإن ظاهره يوحي بذلك، وراوي هذا الحديث هو ابن عباس القائل: لم يعـشْ مسخ قط فـوق ثلاثة أيام. قال العـلاَّمة الألبـاني - رحمه الله -: «إن الحديث لا يعني أن الحيات الموجودة الآن هي من الجن الممسوخ وإنما يعني أن الجن وقع فيهم مسخ إلى الحيات». وهذا التأويل كالمتعين؛ لأنـه جارٍ على منهج الفصحاء، وأسلـوب البلغـاء، وليـس فيه تعسُّـف ولا يؤدي إلى تعطيل اللفظ أو تحريفه؛ فإن قيل: فما وجه امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن أكـل الضـب وقوله: «لعلـه من القـرون التـي مسخت»؟ قلنا: لا جرم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يشك: هل وقـع المسخ إلى الضب أم لا؟ وإذا كان قد وقع إليه المسخ، فهو حرام قطعاً؛ لأن المسخ لا يقع إلا إلى الحيوان الخبيث لوجود الشبه بين الممسوخ والممسوخ إليه ثم لا يزال هذا الشبه كما يقول ابن القيم يقوى ويتزايد حتى يصيرَ ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يَقْلبَ الصورة الظاهرة، كما قلب الهيئة الباطنة، ومن له فِراسة تامة يرى على صور الناس مسخاً من صور الحيوانات التي تخلَّقوا بأخلاقها في الباطن؛ فالظاهر مرتبط بالباطن أتمَّ ارتباط، وعقوبات الرب - تعالى - جارية على وَفْقِ حكمته وعدله[26]، ويدل على هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإني لا أراها إلا الفأر؛ ألا ترونها إذا وُضِعَ لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وُضِعَ لها ألبان الشاء شربته»؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - قد استدل على وقوع المسخ إلى الفأر بوجود الشبه بين الممسوخ والممسوخ إليه، وتبيَّن له أن الضب لم يقع إليه المسخ، فأُكِل بين يديه وعلى مائدته، ولم ينكِر، وقال: «إنه ليس من طعام قومي أجدني أعافه»[27].
وبهذا تجتمع الأدلة ويرتفع التعارض، ولله الحمد والمنَّة.
ثالثاً: الأحاديث التي وردت في التفضيل بين الأنبياء:
روى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأوَّل من ينشق عنه القبر، وأوَّل شافعٍ، وأوَّل مشفَّع».
وروى مسلم وأبو داود والترمـذي عن أنـس بن مالـك - رضي الله عنه - قال: «جاء رجل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا خير البرية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك إبراهيم، عليه السلام».
وروى البخـاري ومسلم عـن أبـي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تخيِّـروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون فأكون أوَّل من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صُعِق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟».
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قال الله - عز وجل - لا ينبغي لعبد لي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى، عليه السلام».
إن هذه الأحاديث من مشكاة واحدة، ولا تعارض بينها البتة، والله سبحانه – فضل بعض الأنبياء على بعض، وكل نبي له منزلة لم يبلغها غيره، وكلٌّ منهم اختص بخصيصة وتفرَّد بفضيلة كما جاء في هذه الأحاديث وغيرها، وإن كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - سيدَهم وأفضلَهم وأكملَهم.
أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خير البرية إبراهيم»، فقد قال عنه النووي في شرحه: «قال العلماء: إنما قال - صلى الله عليه وسلم - هذا تواضعاً واحتراماً لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لِخُلَّته وأُبوَّته، وإلا فنبينا أفضل. قال: وقيل: يُحتَمَل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: خير البرية إبراهيم قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فإن قيل: التأويل المذكور ضعيف؛ لأن هذا خبر؛ فلا يدخله خَلَف ولا نسخ، فالجواب: أنه لا يمتنع أنه أراد أفضل البَرِية الموجودين في عصره، وأطلق العبارة الموهِمَة للعموم؛ لأنه أبلغ في التواضع، وقد جزم صاحب التحرير بمعنى هذا فقال: المراد أفضل برية عصره»[28].
وأما الحديث الآخر: «لا تفضلوا بين الأنبياء»، وفي رواية: «لا تخيروني على موسى»، فقد ذكر النووي - رحمه الله - أن جوابه من خمسة أوجه:
أحدها: أنه قاله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به.
الثاني: أنه قاله أدباً وتواضعاً.
الثالث: أن النهـي إنمـا هو عن تفضيلٍ يؤدي إلى تنقيص المفضول.
الرابع: إنما نهى عن تفضيلٍ يؤدي إلى الخصومة والفتنة، كما هو مشهور في سبب الحديث.
الخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في النبوة نفسها؛ فإنه لا تفاضل فيها وإنما التفاضل في الخصائص وفضائل أخرى، ولا بد من اعتقاد التفضيل؛ فقد قال - تعالى -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: ٣٥٢][29]
قلت: الوجه الأول هو الذي كان الغرض إبطاله وقد ذكرنا الأدلة على فساده، والأوجه الأربعة محتمَلة، والله أعلم وأحكم.


[1] صحيح مسلم: (6074).
 
[2] صحيح مسلم: (6081).
 
[3] روضة الناظر: (2/208).
 
[4] المستصفى: (2/226).
 
[5] الكفاية في علم الرواية: ص 606.
 
[6] اختلاف الحديث: ص 39.
 
[7] الرسالة: ص 216.
 
[8] ابن كثير، اختصار علوم الحديث: ص 170.
 
[9] القرافي، تنقيح الفصول: ص 421.
 
[10] اللكنوي، الأجوبة الفاضلة: ص 183.
 
[11] القرطبي، التذكرة: ص 515.
 
[12] فتح الباري: (3/246).
 
[13] فتح الباري: (3/247).
 
[14] ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (24/372).
 
[15] ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (24/372) و (4/ 303).
 
[16] ابن القيم، شفاء العليل: ص 477.
 
[17] القرطبي التذكرة: ص514.
 
[18] ابن القيم طريق الهجرتين: ص476.
 
[19] ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (24/ 372) و (17/309).
 
[20] ابن القيم، طريق الهجرتين: ص547.
 
[21] الألباني، السلسلة الصحيحة.
 
[22] القرطبي، سورة البقرة: آية 65.
 
[23] المصدر السابق.
 
[24] الحازمي، الاعتبار: ص 11.
 
[25] البرهان: (1/551).
 
[26] ابن القيم إغاثة اللهفان: ص410.
 
[27] الألباني، السلسلة الصحيحة.
 
[28] النووي، شرح صحيح مسلم: (15/121).
 
[29] النووي شرح صحيح مسلم: (15/40).