• - الموافق2024/05/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العام الثاني للحرب الروسية الأوكرانية... ترسيخ للتداعيات السياسية والاقتصادية

يبدو أن الهدف الاستراتيجي الأوروأمريكي بترويض الدُّبّ الروسي كان مُقدَّمًا على الأضرار الاقتصادية الساحقة على جموع الأوروبيين، والتي من المؤكد أن معظمها كان واضحًا بشدة لدى الأوروبيين قبل اتخاذهم قرار المساندة اللامحدودة للجانب الأوكراني


مرَّ عام كامل تقريبًا على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تثاقلت فيه الهموم الاقتصادية على جميع دول العالم، وربما للمرة الأولى منذ ما يزيد عن نصف قرن يسمع الجميع أنّات اقتصادية قادمة من شمال المعمورة بعد عقودٍ من الرفاهية غير المسبوقة، وبعد اعتياد طبيعي على معاناة شعوب الجنوب التي لا تزال تعاني اقتصاداتها، رغم مرور السنوات الطوال، من تَبِعات المرحلة الاستعمارية بأوجهها المتعددة.

وقد تكاملت تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا مع تداعيات الإغلاق الناجم عن تفشي فيروس كورونا، ما أدَّى إلى خَلْق مرحلة اقتصادية صعبة على الدول الأوروبية، وهي الأحوال التي لم يَعْتد عليها المواطن الأبيض، ويصعب عليه التكيف معها بالتنازل عن نسبة من مستوى معيشته، فلجأ إلى الشكوى ثم الصراخ، وعندما لم تستطع الحكومات الاستجابة له؛ كانت المظاهرات العارمة والإضرابات العامة التي طالت المرافق شديدة الحساسية مثل المرافق الصحية والأمنية؛ للمطالبة بزيادة الأجور، ومواجهة موجات التضخم المتوالية والمتصاعدة.

ويمكن القول: إن الحرب الروسية الأوكرانية حفَّزت وتيرة تعميق آثار فيروس كورونا، والذي أدّى إلى صعوبات في سلاسل الإمداد والتوريد، وارتفاع أسعار الشحن، وأزمة الرقائق الإلكترونية، وهي العوامل التي بدأت رحلة الصعود التضخمي، وسرعان ما تلاحمت مع آثار الحزم التمويلية الضخمة التي حقنتها حكومات الدول الأوروبية في جَسد اقتصاداته المريضة بالكوفيد، ولم تراعِ توازن الطلب مع العرض؛ فاشتعل معدل التضخم بصورة بدت مقبولة مبدئيًّا، ولكنَّه مع اشتعال الحرب على أوكرانيا تأجَّجت معدلات التضخم بصورة استعصى استيعابها على المواطن الأوروبي، واستعصى ترويضها عبر السياسات النقدية، وعلى الأخص رفع أسعار الفائدة في كل بلدان الاتحاد الأوروبي.

ويبدو أن الهدف الاستراتيجي الأوروأمريكي بترويض الدُّبّ الروسي كان مُقدَّمًا على الأضرار الاقتصادية الساحقة على جموع الأوروبيين، والتي من المؤكد أن معظمها كان واضحًا بشدة لدى الأوروبيين قبل اتخاذهم قرار المساندة اللامحدودة للجانب الأوكراني، فلا يمكن تصوُّر غياب دراسات مستقبلية توضّح أثر وتداعيات انقطاع النفط والغاز الروسي على الدول الأوروبية كليًّا أو جزئيًّا.

فمن المعروف أن روسـيا تُشـكِّل نسـبة كبيرة من الصـادرات العالمية لعددٍ كبيرٍ من السـلع الاسـتراتيجية؛ حيث تُعدّ مصـدرًا أسـاسـيًّا للغاز الطبيعيّ والبترول؛ حيث تُصدّر 25% من صادرات الغاز الطبيعي عالميًّا، كما أنها ثاني أكبر مُصدِّر للفحم باستئثارها بحوالي 18% من صادراته عالميًّا، كما أنها تُصدّر 11% من صادرات النفط، علاوةً على 14% من صادرات البلاتين العالمية. ومن ناحية أخرى فإن روسيا تُعدّ أكبر مُصدِّر في العالم للأسمدة؛ حيث تُمثل 14% من حجم الصادرات العالمية، وبالتالي فإن أيّ نقص في إمدادات الأسـمدة سـوف يُشـكِّل خطرًا كبيرًا على الإنتاج الزراعي في جميع أنحاء العالم.

كما أن نقص الأسمدة سيرفع أسعارها، ومِن ثَم سترتفع أسعار السلع الزراعية، وهي الفاتورة التي سيدفعها المستهلك النهائي، أو أنها ستؤدي إلى تقليل اســـتخدام مدخلات الإنتاج الزراعية، الأمر الذي سيُخفّض كمية الإنتاج، وبالتالي ترتفع الأسعار، وتزيد أزمات الغذاء والضغوط التضخمية المتعاظمة بالفعل قبل اندلاع الحرب.

ومِن ثَمَّ فإنَّ المخاطر المنطقية الناجمة عن الحرب حال اندلاعها ستؤدي إلى الانخفاض الحاد في المعروض من العديد من الســـــلع الاستراتيجية، وبالتالي تأجيج معدلات التضخم، وهذا بدَوره من المنطقي أن يؤدِّي إلى عرقلة أعمال البناء والبتروكيماويات والنقل، وسيترتب على ذلك منطقيًّا خفض النموّ الاقتصاديّ للدول الأوروبية، وفقدانها لفرص العمل المتولدة عبر هذا النمو المتعسر.

 ومع استمرار الحرب لعامٍ كاملٍ فقد ترسَّخ ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج بصفة عامة، والزراعية منها على وجه الخصوص، لا سيما تلك المستلزمات كثيفة استخدام الطاقة، وفي مقدمتها الأسمدة، وهو الأمر الذي يفسّر الارتفاع المحموم لأسعار السلع الغذائية والحبوب في كلّ دول العالم، وعلى الأخص في دول الاتحاد الأوروبي، وذلك على الرغم من الاكتفاء الذاتي الذي تتمتع به معظم الدول الأوروبية في إنتاج هذه السلع، ولكنها على الجانب الآخر تستورد معظم احتياجاتها من النفط والغاز المصابين بحُمّى ارتفاع الأسعار الناجم عن اندلاع واستمرار الحرب.

وربما هذا ما يُفسّر القرار الأوروبي الأخير المثير للجدل بالسماح باستخدام مسحوق الحشرات (مثل الصراصير ويرقات الدود) في تصنيع بعض المواد الغذائية، كبديل للبروتين، وذلك في إطار لوائح جديدة أقرّها الاتحاد الأوروبي، وتتضمّن السماح لمصانع الأغذية والشوكولاتة باستخدام الصراصير المجمدة أو المجففة، أو في صورة مسحوق ضمن عمليات التصنيع الغذائي، وذلك بعد أن اعتبرت هيئة سلامة الأغذية الأوروبية أن الطعام المصنوع من مسحوق الصراصير آمِنٌ في عدد من الاستخدامات؛ منها: دقيق الخبز، واللفائف متعددة الحبوب، والبسكويت، وأعواد الخبز، وألواح الحبوب، والمعكرونة، والبيتزا، والبطاطا المقلية.

لعل الأثر الأكبر للحرب الروسية والأوكرانية على الاقتصادات الأوروبية يتجلَّى في ارتفاع أسعار الطاقة التي تُمثّل جسر عبور الأزمة إلى أوروبا؛ لاعتماد الدول الأوروبية بشكل كبير على الطاقة الروسية، ورغم نجاح الدول الأوروبية في توفير احتياجاتها من النفط والغاز للشتاء الحالي وامتلاء معظم مخازنها بصورة كاملة تقريبًا؛ إلا أنه يمكن القول: إن أزمة ارتفاع أسعار البنزين والغاز هي السبب الرئيس لاشتعال الأسعار وحدوث العديد من التوترات الداخلية.

وبخلاف الآثار التضخمية؛ فإن هناك العديد من التداعيات الأخرى يأتي في مقدمتها إبطاء التعافي من الجائحة، بالإضافة إلى ما شهدته أوروبا الشرقية من ارتفاع في تكاليف التمويل نتيجة للطفرة في تدفُّق اللاجئين؛ حيث استوعبت معظم اللاجئين البالغ عددهم 4 ملايين نسمة الذين فروا من أوكرانيا مؤخرًا. وقد تواجه الحكومات الأوروبية كذلك ضغوطًا على المالية العامة من زيادة الإنفاق على تأمين مصادر الطاقة وميزانيات الدفاع.

هذا بالإضافة إلى تهديد حجم التبادل التجاري؛ حيث يُعدّ الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا، وتُشكِّل موسكو خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، وستؤثر العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بشدة في العلاقات التجارية بين موسكو والاتحاد الأوروبي، خاصةً مع قرار الدول الصناعية السبع الكبرى بإلغاء وضع «الدولة الأولى بالرعاية» الممنوح لروسيا بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية.  

وكذلك فإن الحرب تُهدِّد الاستثمارات والأصول الأوروبية في روسيا وتُعرّضها لخطر المصادرة أو التأميم بسبب الحرب والعقوبات الغربية؛ حيث يصل رصيد استثمارات بلدان الاتحاد الأوروبي في السوق الروسي نحو 311.4 مليار يورو (ما يعادل 340 مليار دولار) حتى عام 2020م، كما أن هناك حوالي 60 مليار دولار مستحقة لبنوك الاتحاد الأوروبي على كيانات روسية يمكن تجميدها، وقد يتعرَّض أيضًا حاملو السندات السيادية الأوكرانية من أوروبا (نحو 23 مليار دولار) لمخاطر عدم القدرة على السداد.

ومن الطبيعي أن تمتد الآثار الاقتصادية السلبية الناجمة عن الحرب إلى مجريات الحياة السياسية في العديد من الدول الأوروبية؛ فبعد اندلاع الحرب، أعاد الهولنديون النظر في خطة التخلُّص من الدبابات الثقيلة، وأعلن الألمان التخلّي عن نهج «التريث في تعزيز قدراتها العسكرية»، وهو النهج الألماني التقليدي، القائم على الموازنة بين الاعتبارات الأمنية والمصالح التجارية، وذلك بإعادة هيكلة الجيش الألماني، وتزويده بأحدث المنظومات التسليحية، عبر استثمار ما يربو على 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي في التَّسلّح، بزيادة قدرها 20 مليار يورو، وإنشاء صندوق خاص للاستثمارات في الجيش الألماني بقيمة 100 مليار يورو.

ومن جانبها أعلنت السويد تعزيز نفقاتها الدفاعية، والتزمت الدنمارك بتطبيق معيار الناتو بأن تبلغ ميزانيتها العسكرية 2% من دخلها القومي، كما أعلنت رومانيا ولاتفيا زيادة إنفاقهما الدفاعي إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي، وأعلنت بولندا زيادة إنفاقها الدفاعي إلى 3% بحلول عام 2023م.

ومن جانب آخر غيَّرت الحرب خريطة موقع ومكانة بعض الدول الأوروبية في العلاقات الدولية، فبعد حياد استراتيجي امتد لعقود، إزاء التوترات العالمية، تبنَّت دول مثل: السويد، وفنلندا، والنمسا، وسويسرا، وأيرلندا الموقف الأوكراني، وأغلقت مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية، وفرضت عقوبات على موسكو، في تطور غير مسبوق منذ العام 1939م.

كما أعلنت دول كانت محايدة مثل السويد وفنلندا عزمها على الانضمام للناتو، وشاركت في مناورته الحربية الكبرى بشمال النرويج شهر فبراير عام 2022م. وبموافقة 67 بالمئة من الناخبين، اختارت الدنمارك الانضمام للسياسة الدفاعية الأوروبية التي ابتعدت عنها في العقود الثلاثة الماضية، واعتبرت رئيسة وزراء الدنمارك ميتي فريدريكسون، أن نتيجة الاستفتاء رسالة قوية للحلفاء في أوروبا وحلف الناتو من ناحية، وإلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من ناحية أخرى، قائلة: «نحن نُبيِّن أنه عندما يجتاح بوتين بلدًا حرًّا، ويهدّد استقرار أوروبا، فنحن الباقون نتجمع سويًّا».

وفي هذا الإطار، يُخطط الاتحاد الأوروبي لإنشاء قوة تدخُّل مشتركة قوامها 5000 جندي بحلول عام 2025م، لتنسيق مشاريع التسلح بشكل أفضل. وتتكوّن قوة التدخل السريع من وحدات «برية وجوية وبحرية تكون قادرة على التنقل» لإنقاذ وإجلاء مواطنين أوروبيين محاصرين في النزاعات. كما يخطط الأوروبيون، خصوصًا من خلال، وكالة الدفاع الأوروبية (EDA) للاستثمار في قدرات يفتقرون إليها حاليًا، لا سيما الطائرات دون طيار (المسيرات) والدبابات وأنظمة الدفاع المضادَّة للطائرات والصواريخ.

كما توصَّلت القمة الأوروبية التي عُقدت في بروكسل في يونيو الماضي إلى إرساء قواعد السياسة الدفاعية المشتركة التي يتطلّع إليها أنصار أوروبا الموحَّدة منذ سنوات، كقطب استراتيجي مُوازن سياسيًّا وعسكريًّا على الساحة الدولية، وينصُّ هذا الاتفاق، على تكليف المفوضية بوضع خطة للإسراع في التنسيق المشترك لترميم المخزونات الدفاعية الأوروبية التي تضاءلت طوال السنوات التي تلت نهاية الحرب الباردة، وبلغت أدنى مستوياتها مؤخرًا بعد المساعدات العسكرية التي قدَّمتها الدول الأعضاء في الاتحاد إلى أوكرانيا.

ومن التدابير التي تضمّنها الاتفاق: إنشاء منصَّة تُشرف عليها المفوضية للمشتريات العسكرية المشتركة، على غرار مشتريات الغاز واللقاحات ضد «كوفيد-19»، إضافة إلى برنامج أوروبي للاستثمار المشترك في الصناعات الدفاعية ليكون الإطار المالي العام لإعادة التَّسلُّح في البلدان الأوروبية، كما اتفق القادة الأوروبيون على إعطاء البنك الأوروبي للاستثمار دورًا أساسيًّا في دَعْم خطة الأمن والدفاع المشتركة، مع احتمال إعفاء مشروعات الدفاع الأوروبية ذات المنفعة المشتركة من ضريبة القيمة المضافة.

وتُوجد تداعيات أخرى لتلك الحرب أبعد من أسعار الطاقة وموجة التضخم وتغيُّر السياسات الدفاعية، يُجسِّدها صعود أحزاب اليمين الأوروبي المتطرّف بخطابه الانعزالي المعادي للخطاب الوحدوي للاتحاد الأوروبي، إلى حدٍّ يدفع للاعتقاد بأن أوروبا على أبواب مرحلة يُعاد فيها تشكيل هُويّتها.
ويَعتبر كثير من الباحثين أن الحرب هي الشرارة التي أكَّدت المسار التراكمي من الأحداث والتحولات والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، والتي شكّلت فرصة للخطاب اليميني المتطرف لنشر معتقداته، وهو الأمر الذي أوصله لمقاعد الحكم في خمس دول أوروبية؛ هي: إيطاليا والسويد وبولندا والمجر وإسبانيا.

ويشير صامويل هنتنجتون إلى أن المؤسسة السياسية الأوروبية تخلَّفت عن مواكبة المتغيرات الاجتماعية؛ الأمر الذي استفادت منه الأحزاب الشعبوية اليمينية حتى أصبحت شريكًا مؤثرًا في صُنع السياسات الأوروبية، وهذا ما يُشكِّل امتحانًا أساسيًّا لهذه الأحزاب، ومدى قدرتها على تقديم حلول حقيقية للمواطن الأوروبي، وبالتالي هل يساهم خطابها القومي في حماية الاتحاد الأوروبي أم تهديد وجوده؟

وتبقى المشكلة الكبرى أنَّ اليمين المتطرف يتقاسم مع سيد الكرملين الأفكار نفسها تقريبًا، فأنصار هذا التيار يرفضون توصيف بوتين بـ«مجرم حرب»، كما يعارضون بشدة دعم أوكرانيا عسكريًّا وماليًّا؛ لأن ذلك سيؤدّي إلى موت المزيد من الأوكرانيين بسبب قرارات القادة الأوروبيين وأمريكا، أما هذه الحرب فهي من افتعال الغرب بهدف الإطاحة بنظام موسكو، وذلك ما يدفع إلى القول بأن صعود اليمين المتطرف لا يُشكِّل خطرًا على الوحدة الأوروبية فحسب، بل هو إنذار بعودة الفاشية التي تُهدِّد وجود الاتحاد الأوروبي ككلّ؛ الأمر الذي يضع القارة العجوز أمام تحديات كبيرة للغاية، ربما ستبدأ فعليًّا مع انتهاء الحرب.

 


أعلى