{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}  شريعتنا هي كل ديننا

{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} شريعتنا هي كل ديننا


الشريعة هي عنوانُ المرحلة الراهنة والمقبلة، فتحكيمها وإقامتها سيظل موضوع حراك الإسلاميين، وموضع خصومة الكارهين من العَلمانيين، والمواقف منها سلباً أو إيجاباً، قبولاً أو رفضاً؛ هي التي ستقرر معالم الفرز الاعتقادي القسري الذي فرضته تداعيات الثورات العربية، وعندها لن يكون التقسيم الواقعي بين الشعوب قائماً على الأسس القومية ولا الوطنية، ولا معتمداً على الفروق الاجتماعية أو الثقافية؛ إنما سيكون مبنياً - قبل هذا أو ذاك - على المعايير الاعتقادية والفروق الفكرية والمذهبية، لتعود القسمة بين الناس ثلاثية كما قررها الوحي المنزل عندما قسمت سورة البقرة في بدايتها الناس إلى ثلاثة أقسام: (مؤمنون... كافرون... منافقون)، فبينما ينحاز المؤمنون إلى خيار العيش في ظلال الشريعة، سيقف الكفار الصرحاء داخل بلدان المسلمين وخارجها بصلابة في وجه الشريعة وحَمَلتها وحُماتها، وستفيء إلى الكافرين الظاهرين فئام المنافقين المتسمّين بأسماء المسلمين، والذين أصبحوا يصرحون علانية بمعارضتهم للاحتكام لها وكراهيتهم للنزول على أحكامها.

نزاع مفاهيم:

جزء كبير من الخصومة في قضية الشريعة يعود إلى خلط المفاهيم حولها، فمع أن مفهوم الشريعة والمعاني المحيطة بالحكم بها بعد التحاكم إليها، من الأمور التي حسمها الوحي كتاباً وسنة؛ فقد ظلت «النخب» الفكرية في لغط وجدال - ولا تزال - حول مرجعيتها وحاكميتها وتنفيذها وإقامتها، ومن يقوم بذلك ومن يُقام عليه ذلك.

بعض المفاهيم الخاطئة حول الشريعة أصبحت - بفعل التراكم - كأنها هي الأصل الواجب الرجوع إليه، ومن ذلك: الظن بأن الشريعة أمر مختص ومختصر في تنفيذ أحكام العقوبات وإقامة الحدود، والظن بأن ذلك التنفيذ واجب على الفور دونما تمهيد أو تأهيل للشعوب. وأيضاً يسود مفهوم خاطئ عن أن القيام بأمر الشريعة أمر خاص بالخاصة من الحكام والقضاة، مع أن ذلك ينصرف إلى جزء قليل منها وهو أحكام الحدود. ومن أخطر صور التلاعب بالمفاهيم في هذا الصدد الادعاء بأن الحكم بالشريعة غير مُلزِم، وأن المسلم يسعه أن يظل في دائرة الإيمان رغم عدم رضاه بحكم الله، أو أن الإيمان بوحدانية الله يكفي عن الخضوع لحاكميته.

ومن صور العبث بالمفاهيم كذلك، تقسيم الشريعة إلى (مبادئ) و(أحكام)، فالمبادئ يسوغ قبولها والتنصيص عليها في الدساتير، مثل: المناداة بالعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان؛ وأما الأحكام فعلى طريقة العَلمانيين لا يُعدُّ أكثرُها مناسباً للعصر أو قابلاً للتطبيق.

ومن ضمن الأسباب التي تساعد على اتساع دائرة الخلط في المفاهيم، استحداث مصطلحات غير مدققة ولا موثقة كي تحل محل المصطلحات الشرعية التي جاء بها الوحي في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك تعبير (تطبيق الشريعة) الذي أعطى ورسخ إيحاءات كثيرة عائمة مائعة توصل أو تؤصل لبعض المفاهيم الخاطئة السابق ذكرها، حيث يتبادر إلى أذهان الناس عند استعمال هذا التعبير أن المقصود من الشريعة هو فقط «تطبيق» الحدود وتنفيذ العقوبات وبعض المعاملات، وفي هذا تقزيم للمعنى العظيم الكامن وراء الدعوة لـ (إقامة) الشريعة بالمعنى الشامل، المتضمن قضايا اعتقادية وأحكاماً فقهية وأموراً تتعلق بأعمال القلوب وآثار السلوك، ونحو ذلك مما يصدق عليه بمجموعه وصف (العبودية لله)، وهو ما لا يكفي للوفاء به أيضاً الحديث عما يُسمى: «تقنين الشريعة».. فالعبودية لا تقنن في قوالب، ولا تنقط في فقرات.

لا شك أن المفاهيم السليمة فيما يتعلق بقضايا الشريعة إنما تُستمد من خطاب الوحي، فالقرآن والسنة الصحيحة بفهم السلف هما الأولى بالتصدير قبل غيرهما في تحديد تلك المفاهيم ووضع مصطلحاتها، وتعيين المراد بها.

في هذا الإطار يأتي الاستهداء بهدي القرآن في ذلك الشأن الشاغل، ولعل الآية المعنون بها لهذا المقال، وأقوال المفسرين فيها، تحسم الجدال في كثير من الأمور، وتؤصل للمفاهيم الصحيحة حول موقع الحكم بالشريعة من الدين.

يقول الله - عز وجل -: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْـمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13].

فالآية خطاب لهذه الأمة بأن تقيم وتستقيم على ما شرعه الله لها وللأمم قبلها على ألسنة الرسل العظام أصحاب الشرائع، ولا يتفرقوا في الطريق الموصل إليه، بل يجتمعوا عليه؛ وأن يعلموا أن رضى أعداء الرسل عنهم محال ما داموا داعين لشرع الله وعاملين به، فليكونوا هم أهل اصطفاء الله ورضاه بالاستمرار في الاهتداء بهداه، والعودة إليه.

ومن خلال ذلك المعنى العام للآية، تظهر لنا حقائق ومفاهيم مستمدة منها، ومما يماثلها من الآيات، وهذه أبرزها:

أولاً: الإقرار بالوحدانية يستلزم إقامة الشريعة:

ذلك أن الله الذي شرع لنا من الدين ما وصى به أولي العزم من الرسل، هو الإله الواحد الذي له مقاليد السماوات والأرض - كما بيَّنت الآية قبلها - والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وهو بكل شيء عليم، فهذا الإله العظيم أودع آثار صفاته العُلا في شرعه، فقد أنزله بعلمه وحكمته ولطفه وغناه عن خلقه، وقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. فالذي شرع هو الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى. قال القرطبي «{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} أي: الذي له مقاليد السماوات والأرض شرع لكم ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى». أما ما شرعه وأمرنا بإقامته، فهو - كما قال رحمه الله - «توحيده والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل به مسلماً».

ثانياً: نكون خير أمة بإقامة خير شريعة:

فالله - تعالى - وصانا بمثل ما وصى به أمم الأنبياء السابقين، قال ابن عاشور «والمماثلة: في أصول الدين مما يجب لله - تعالى - من صفات، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع، وأعظمها توحيد الله، ثم ما بعده من الكليات الخمس: الضروريات، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر دونها، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أودع مثله في الإسلام».

فإذا كان أولو العزم هم أفضل الرسل الذين أُرسلوا بأكبر الشرائع، فإن أفضلهم جميعاً محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن شريعته هي أكمل الشرائع، ولهذا كان ما شُرع للأنبياء السابقين (وصية) من الله لهم، أما ما شُرع لنبينا صلى الله عليه وسلم فهـو (وحي) من الله، والفرق أن الوحي يشير إلى الإعجاز التشريعي الذي اختص به القرآن عن سائر الكتب المنزلة، وعندما تقيم الأمة شريعة الإسلام الكاملـة فإنها تقيـم بها شـرائع كل الأنبياء، وتكون بذلك خير أمة، وأولى بكل نبي من قومه؛ عندما تحيي من شرعه ما أماته قومه.

ثالثاً: حقيقة إقامة الشريعة هي إقامة الدين كله:

فـ «إقامة الدين» ومن ثم: إقامة الشريعة؛ مصطلح قرآني لا يحل محله غيره كـ (التطبيق) أو (التنفيذ)، وهو أشمل أيضاً من (التحكيم)، فقد يكون التطبيق جزئياً فلا يسمى إقامة، وقد يحصل بعض التنفيذ دون تحكيم اعتقادي، وقد يحصل التحاكم الاعتقادي للشريعة دون إقامتها في الواقع. وقد تكرر في القرآن الأمر بإقامة الدين المستلزم لإقامة الشريعة، قال ابن العربي في تفسير {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} «أي اجعلوه قائماً، يعني دائماً مستمراً، محفوظاً مستقراً، من غير خلاف فيه واضطراب عليه»، وهو يشمل - كما قال - «الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والتزلف إليه بما يردُّ القلب والجارحة إليه والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكفر والقتل والزنا والإذاية للخلق، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات».

رابعاً: الشريعة بمعناها العام ترادف الدين كله:

قال - تعالى -: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18]، قال الشوكاني في تفسيرها: «المراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين»، فإذا أمرنا بإقامة الدين، فقد أمرنا بإقامة الشريعة. نقل الطبري عن قتادة في تفسير {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} أنه قال: «بُعث نوح حين بُعث بالشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام، وهو نفسه ما بُعث به إبراهيم وموسى وعيسى»، ولذلك قال الطبري في تفسير تلك الآية: «وعنى بقوله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} أي اعملوا به على ما شُرع لكم وفُرض». وإذا كان الدين يشمل المعتقدات والتشريعات والسلوكيات، فإن الشريعة بمعناها العام تشمل ذلك، وقال ابن عطية: «{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ}.. إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه، وذلك في المعتقدات أو في جملة أمرها، حيث إن كل نبوة مضمونها معتقدات وأحكام، فيجيء المعنى على هذا: شرع لكم شِرعة هي كشرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، في أنها ذات المعتقدات المشهورة التي هي في كل نبوة».

نخلص من هذا إلى معنى ينبغي تحديده، ومفهوم يجب إحياؤه، وهو أن الشريعة معنى أعظم بكثير مما يردده الإعلام، وما يفهمه الرأي العام، فهي كل الدين الواجب إقامته على كل الأمة، يقول ابن تيمية - رحمه الله - في فتاويه عند شرحه هذه الآية تحت عنوان (قاعدة في الفرقة والجماعة): «فالمشروع لنا هو الموصى والموحى، وهو {أَقِيمُوا الدِّينَ}، فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا الموصى به الرسل، والموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم».

خامساً: إقامة الشريعة.. لا تطبيق الشريعة:

المعنى المتبادر من التعبير المستحدث (تطبيق الشريعة) يكاد ينصرف عند عموم الناس - كما سبقت الإشارة - إلى تنفيذ باب من أبواب الفقه الإسلامي، وهو باب أحكام العقوبات والحدود وبعض المعاملات، ولذلك فالتعبير يوهم تجزئةً غير جائزة تؤدي إلى تبعيض الشريعة المنهي عنه في قول الله تعالى: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْـمُقْتَسِمِـــينَ 90 الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 90 - 91]، أي أعضاء وأجزاء يؤخذ ببعضها ويترك بعضها.. لا شك أن الذين وضعوا مصطلح (تطبيق الشريعة) لم يكونوا يقصدون هذا، لكن هذا ما آل إليه الأمر عندما تُرك التعبير القرآني (إقامة الدين) الذي يعني (إقامة الشريعة)، ولو رحنا نبحث عن المعنى اللغوي في مادة (ط. ب. ق) لكلمة (طبَّق) لوجدنا هذه المادة تدور حول معاني: التغطية والتسوية والتراتب الفوقي والموافقة والاتفاق.

فهل يكون (تطبيق الشريعة) مثلاً: هو تغطيتها، أو تسويتها بسواها، أو موافقتها لغيرها، أو وضعها في ترتيب بعضه فوق بعض؟!

إن معنى (إقامة) الدين ومن ثم (إقامة) الشريعة، أبلغ في الإيضاح والتحديد، ولهذا؛ فهو تعبير بليغ سديد، فالإقامة في اللغة تعني الإتمام والإدامة، ولذلك جاء التكليف بأعظم فروض الإسلام - وهي الصلاة - بلفظ الإقامة أيضاً بمعنى إتمامها وإدامتها، فقال الله تعالى في كثير من الآيات: (وأقيموا الصلاة)، وإقامتها تعني إتمامها - كما قال الزجاج في تفسيره -، فالصلاة تحتاج إلى أمور كثيرة وعظيمة الشأن حتى يصدق على فاعلها أنه (مقيم للصلاة)، قال الطبري في تفسير {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 3] «إقامتها: أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها على ما فرضت عليه، كما يقال: أقام القوم سوقهم، إذا لم يعطلوها من البيع والشراء»، ونقل - رحمه الله - عن ابن عباس قوله: «إقامة الصلاة: تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها». وقد جاء في الحديث: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)[1].

فإذا كان كل هذا مطلوباً في الصلاة كي يُعدَّ المرءُ مقيماً لها وهي واجب واحد، فما بال الواجب الشامل لكل الواجبات وهو (إقامة الشريعة).. ما المطلوب منا كي نكون مقيمين لها؟

 إن إقامة الشريعة تشمل أموراً أرحب وأعظم من الأمور التي يشير إليها تعبير (تطبيق الشريعة)؛ إنها أمور تتوزع على العقائد والعبادات والمعاملات والسلوكيات لتشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح، إلى جانب الأخلاقيات التي تدعو الشريعة إلى التزامها وعدم الخروج عنها، إضافة إلى الضوابط العامة في الأقوال والأعمال، والمعايير الخاصة في الحكم على الأشخاص والأفكار. وهذه كلها - كما ترى - مهمة الأمة بمجموعها، حيث إنها كلها مخاطبة بإقامة الشريعة وإقامة الدين.

 لذلك نقول إن من إقامة الشريعة: إجلال الموحِي بها - سبحانه - وتعظيم الموحَى إليه بها صلى الله عليه وسلم، وتعظيم نصوصها، والتحاكم القلبي إليها، والتحكيم الفعلي لها، والولاء والبراء لأجلها، والحب والبغض على أساسها، والجهاد لرفعة شأنها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقتضاها، وتحمّل الأذى في سبيلها، وتوقير علمائها، وطاعة الحاكمين بها، ونصرة الداعين إليها، والتزام منهج السلف في فهمها ونصرها ونشرها، وعدم التفرق والاختلاف في الطريق الموصل إليها كما أمر الله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.

وما أحسن تفسير الشيخ السعدي لمعنى هذه الآية حيث قال رحمه الله «{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}.. أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين، أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاوِنون على البر والتقوى ولا تعاوِنون على الإثم والعدوان.. {ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أي ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه واحرصوا على ألا تفرّقكم المسائل وتحزّبكم أحزاباً، وتكونوا شيعاً يعادي بعضكم بعضاً مع اتفاقكم على أصل دينكم».

:: مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.


[1] أخرجه البخاري في صحيحه برقم (723).

 

 

أعلى