البابا فرنسيس.. هل سيكــون أوباما الفاتيكان؟

البابا فرنسيس.. هل سيكــون أوباما الفاتيكان؟


في خطوة غير مألوفة فاجأ كبير النصارى، بندكت السادس عشر، العالم أجمع برغبته في أن يقوم عن كرسي القديس بطرس بعد أن بلغ من الكبر مبلغاً لا يستطيع معه رعاية أمته. أثارت الحادثة فضول الكثيرين حتى صارت حديث المجالس عند بعضهم، لكن أحداً لم يرتب أن الأمر ليس مجرد استقالة فحسب، وأن وراء الأكمة ما وراءها، لكن حقيقة هذا الوراء لم تتجلَ بعد، ولعلها فقدت شِرتها عند الكثير بعد أن غلبت أصوات الأبواق التي تحتفي بالبابا الجديد.

لا تعد استقالة البابا بندكت السادس عشر سابقة في تاريخ الكنيسة الرومية، فقد سبقتها أخريات كان أولها توثيقاً تلك التي قدّمها البابا بونتيان عام 235م. بل إن تاريخ الكنيسة يحدثنا عن استقالة «بندكتين» اثنين، أحدهما البابا بندكت الخامس الذي استقال عام 964م، والآخر هو البابا بندكت التاسع عام 1045م.. لكنَّ أول من مَنح الجالسَ على كرسي القديس بطرس حقَّ القيامِ عنه هو البابا سِلِستين الخامس عام 1294م.

لم تكن استقالة البابا بندكت السادس عشر هي ما أثار فضول المراقبين، إنما الباعثُ عليها. وقد كثر الحديث حول دوافعها دون أدلة يُعوَّل على مثلها. وكان من أبرز الأسباب التي عزيت إليها الاستقالة: ما شاع «مؤخراً» من فساد أخلاقي بين رجال الدين الكاثوليك أوقع البلاط الرومي في حرج أمام العالم؛ وكأن روما لم تعرف الفساد إلا في القرن الحادي والعشرين! أليس الفساد الأخلاقي مما ورثته عن الإمبراطورية الرومية وتاريخها الفاجر. وأين نجد التماثيل التي تخدش الحياء إلا في أروقة الفاتيكان؟ ألم يُعرف كهنة الروم الكاثوليك منذ العصور الوسطى بممارسة الفجور داخل الأديرة؟ ألم تُكتشف أنفاق تحت الأرض تصل بين أديرة الرهبان والراهبات؟ ألم يكن يؤتى بالرضيع الذي ولد من ذلك السِفاح فيُلقى في خندقٍ من الجِير حتى يتحلل جسده الغض قبل أن يُعلم أمره[1]؟

إن الباعث على استقالة البابا بندكت السادس عشر، أو بالأحرى إقالته، لم يكن أخلاقياً – في تقديري –، بل هو سياسيٌّ يعود إلى عوامل من أهمها: عدم كفاءة البابا بندكت السادس عشر في إدارة المرحلة، حيث لم ينجح في تطبيق الازدواجية التي درجت عليها الكنيسة الرومية ردحاً من الزمان. هذه الحقيقة صرحت بها مجلة التايم الأمريكية في مقال بعنوان «وجهة نظر: هل تَواصُل البابا فرنسيس مع غير الكاثوليك مؤشرٌ على إصلاح أعمق؟».. يقول الكاتب: «فيما يتعلق بعلاقات الكنيسة الرومية الكاثوليكية بالأديان الأخرى، كان البابا المستقيل بندكت السادس عشر أشبه ما يكون بالعم المسن الذي يريد الخير، لكنه غالباً ما يقول الشيء غير المناسب على مائدة الطعام. فثمة خطابه عام 2006م الذي بدا فيه – سواء أصاب أم أخطأ – وكأنه يعرِّض بأن الإكراه على اعتناق الإسلام كان أحد عقائده الجوهرية؛ وكذا إحياؤه عملية إضفاء القديسية على بيوس الثاني عشر – بابا الحرب العالمية الثانية الذي انتُقد بشكل واسع بسبب صمته الملحوظ أثناء مذبحة الهولوكوست –، وهو ما زاد بدوره من إقصاء اليهود. فمن بين الفوضى التي ترك بندكتُ إزالتَها من الفاتيكان لخلَفه كانت هذه الأخيرة أكثرها ركاماً، لا سيما في عصر العولمة، حيث تزداد أهمية حوار الأديان أكثر من أي وقت مضى»[2].

فدور البابا الجديد إذن أن يحاول إصلاح ما أفسد سلفُه، وأن يعيد بناء الثقة بين المسلمين واليهود من جانب وبين البلاط الرومي من جانب آخر، وأن يدفع عجلة حوار الأديان التي يُعَد الباباوات صُنّاعاً لها. وقد عبرت مجلة التايم عن هذا الدور بقولها: (لحسن الحظ أن البابا المنتخب حديثاً «فرنسيس» يبدو مستعداً لأن يحسِر كُمي ثوبه الكهنوتي ويبدأ التنظيف.. وقال بشكل مفاجئ ولكن بنبرة توكيدية: «إنني أفكر في الحوار مع الإسلام على وجه الخصوص»).

فمن هو هذا البابا الذي جعل الحوار مع الإسلام على قائمة أولوياته؟

إنه الأرجنتيني «جورج (أو خورخي) برجوليو» الذي اتخذ اسمه البابوي الفريد «فرَنسيس» تيمناً بفرنسيس الأسيزي مؤسس التنظيم الفرنسيسكاني والمنصِّر الشهير الذي صحب الغزاة الصليبيين إلى مصر عام 1219م.. هذا هو المشهور؛ وثمة من يرى أن اسمه البابوي مستعار من اسم «فرنسيس بورجا» رفيق إغناطيوس لويولا والجنرالُ الثالث للتنظيم اليسوعي. وعلى كلا الحالين فإن اسمه لا ينفك عن رمزية صليبية، بيد أن وعده بالحوار مع المسلمين يجعله أقرب إلى سيرة فرنسيس الأسيزي الذي اشتهر بحماسه التنصيري بين المسلمين على وجه الخصوص؛ وهو مظهر بارز في شخصية البابا الجديد، كما يظهر من تصريحاته.

وثمة مظهر آخر يحاول البابا الحالي أن يظهر به، وهو قربه من العامة وإحسانه إلى الفقراء والمساكين والعجزة، وقد بدا ذلك جلياً في ظهوره يوم تنصيبه في عربة مكشوفة على غير المعتاد، وإيقافه العربة أثناء الموكب ليُسلم على أحد المعاقين؛ وهذا وإن كان من النفاق الإعلامي، إلا أنه يؤكد الوجهة التي يتخذها هذا البابا في سبيل إزالة الكُناسة التي خلفها بندكت؛ وهو أيضاً من مظاهر الماركسية النصرانية المعروفة باسم «لاهوت التحرر» والتي تدعمها الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية.

كل هذه الأمور تسير وفق خطة مرسومة بدقة لئلا ينكشف أمر البابا بندكت وأنه أُقيل ولم يستقل، إذ لم يكن أهلاً للقيام بدوره، فقد كان أشبه ببوش الابن وتعاطيه الأخرق للسياسة؛ وكما حاولت الولايات المتحدة تلميع صورتها بعد بوش بأوباما الإفريقي لأول مرة، ها هي الكنيسة تلمع صورتها بهذا «الحمل الوديع» الذي انتخب من خارج أوروبا لأول مرة كذلك. وحتى لا يرتاب أحد في استقالة سلفه بندكت مُنح الأخير لقب «البابا الفخري».

إن انتخاب البابا من إحدى دول أمريكا اللاتينية يشكّل رد اعتبار للقارة الأمل بالنسبة للفاتيكان؛ فهي تضم 70 % من الروم الكاثوليك الموالين للبابوية، وتغطي مساحة شاسعة تبلغ 14 % من اليابسة، كما أنها تشكل قوة ضغطٍ سبق أن استعملتها الفاتيكان في أثناء الحرب العالمية الثانية ضد الرئيس الأمريكي روزفلت. وهذا الاختيار غير المتوقع للبابا الأرجنتيني سيعزز بلا شك مكانة البابوية في عيون الكاثوليك اللاتين ويقوي الولاء لدى أتباع الكنيسة في تلك «القارة الأمل».

تجدر الإشارة إلى أن البابا الحالي عضو في الرهبنة اليسوعية منذ عام 1958م، بل كان القائد الأعلى الإقليمي للتنظيم في الأرجنتين، ما يعني أنه بلغ الدرجة الرابعة في سلم الرهبنة اليسوعية، وأدى القسم المغلظ[3] الذي جاء فيه: «أُعلن وأُقسِم أن قداسة البابا هو خليفة المسيح، وأن لديه السلطة – بفضل مفاتيح العقد والحل التي مُنحت لقداسته من قبل مخلصنا يسوع المسيح – لعزل الهراطقة من ملوك وزعماء ودول وحكومات، فكلها دون اعترافه المقدس غيرُ شرعية وحقيقةٌ بالتدمير. وعليه؛ فإنني، وبكل وسعي، سأنافح جزماً عن هذه العقيدة وعن حق قداسته وعُرفِه ضد كل مغتصب ذي سلطة.. كما أنني أتعهد وأعلن أنني – متى ما سنحت الفرصة – سأصنع وأشنّ حرباً لا هوادة فيها، سراً وعلانيةً، ضد كل الهراطقة.. لاستئصالهم ومحو آثارهم من وجه الأرض قاطبة. وإنني لن أغادر [منهم أحداً مهما كان] سنه أو جنسه أو منزلته؛ وإنني سأشنق وأحرق وأقتل وأغلي وأسلخ وأخنق وأئد هؤلاء الهراطقة المشينين، وسأبقر أمعاء وأرحام نسائهم، وأحطم رؤوس أطفالهم على الجدران، حتى أبيد سلالتهم اللعينة إلى الأبد.. فإذا ما استعصى الأمر علانية لجأت سراً إلى الكأس المسمومة أو حبل الشنق أو حد الخنجر أو طلقة الرصاص، دون اعتبار لشرفِ أو مكانةِ أو جلالةِ أو سلطةِ ذلك الشخص...»[4].

ولعل قائلاً يقول: إن منصب البابوية قد يفرض عليه سياسة أخرى غير التي تتخذها الرهبنة اليسوعية.

أقول: إن هذا ممكن جداً، بل هو المرجح، لكنه سيَبقى السياسةَ الظاهرة للفاتيكان خلاف ما يدور في أروقتها؛ فتاريخ هذا البابا في الوقوف مع الدكتاتورية في الأرجنتين إبان «الحرب القذرة» معلوم، وهو ديدن الفاتيكان التي وقفت إلى جانب هتلر وموسوليني وفرانكو في أثناء الحرب العالمية الثانية.. ولذا فإن السياسة الباطنة لهذا البابا ستظل سياسة التنظيم اليسوعي الذي نذر حياته لخدمته. ولعل ما دَوَّنه سيده البابا الأسود «أدولفو نيكولاس» من انطباعاتٍ حول زيارته له في 17 مارس 2013م، يزيد الأمر جلاء.. يقول زعيم اليسوعية: «بناء على دعوة شخصية من البابا فرنسيس، توجهت عند الساعة 5.30 مساءً إلى دار القديسة مَرثا، الدار التي استعملت لخدمة الكرادلة الحاضرين في الخلوة. كان واقفاً عند المدخل، تلقاني بالمعانقة على الطريقة اليسوعية المعتادة. وبطلب منه التقطْنا بعض الصور. ولما اعتذرت عن عدم التزام البروتوكول ألح علي بأن أعامله كأي يسوعي آخر، فأخاطبه بـ «أنت»؛ فلم يكن علي أن آبه بألقاب «قداسة» أو «الأب الأقدس».

قدمت له كل مواردنا اليسوعية لأنه سيكون بحاجة إلى المشورة والنصح في منصبه الجديد.. كان ثمة شعور متبادل تماماً حول عديد من القضايا التي ناقشناها، ما ترك لدي قناعة بأننا سنعمل بانسجام لخدمة الكنيسة باسم الإنجيل. كان ثمة هدوء ودُعابة وتفاهم مُشترك حول الماضي والحاضر والمستقبل. غادرت المكان وأنا أحمل قناعة بأنه حقيق أن يُتعاون معه بشكل تام في كرْم الرب. وفي الختام حمل لي المعطف وصحبني إلى الباب؛ مما أضاف لي التحايا من قبل الحرس السويسري. مجدداً، معانقة يسوعية، خير ما تَستقبل به صديقاً أو تودعه»[5].

ولا أظن كلمات البابا الأسود، الجنرال الأعلى للتنظيم اليسوعي، بحاجة إلى تعليق؛ لأنها صريحة في خضوع البابا فرنسيس للتنظيم اليسوعي، وأنه سيتخذ من أعضاء هذا التنظيم بطانة يشاورهم، وأنه يتفق تمام الاتفاق مع البابا الأسود في وجهات النظر؛ مما يدعو المسلمين إلى اليقظة وعدم الاغترار بظاهر مواقف الفاتيكان ذات الازدواجية المعهودة، فضلاً عن المسارعة إلى تهنئة كبير النصارى بمنصب يحارب من خلاله الإسلام وأهله.

خلاصة الأمر أن البابا بندكت أُقيل ولم يستقل، وأن خليفته اليسوعي سيتبع سياسة الحمل الوديع تجاه المسلمين واليهود في محاولة لإعادة الاعتبار للكنيسة الأم، وقد يكون سبباً في التمهيد لتسوية بشأن القدس إن طالت ولايته، لكن هذا كله قناع كاذب يُخفي وراءه وجهاً قبيحاً لواحد من أشد الباباوات عداء للإسلام الذين يصدق عليهم قول الحق تبارك وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].

 :: مجلة البيان العدد 310 جمادى الآخرة 1434هـ، إبريل - مايو 2013م.


 [1]  لمزيد من هذه الفظائع انظر على سبيل المثال:

-    Maria Monk, Awful Disclosures of Maria Monk.

-    Rebecca Theresa Reed, Thrilling Mysteries of a Convent Revealed.

[2] http://world.time.com/2013/03/23/viewpoint-does-pope-francis-outreach-to-non-catholics-signal-deeper-reform/#ixzz2OgYcJMfa.

 

 [3] هذا القسم ثابت، وقد أشار إليه البابا الهالك «يوحنا بولس الثاني»؛ راجع كتاب: اليسوعية والفاتيكان والنظام العالمي الجديد.

 [4] Sherman, Edwin. The Engineer Corps of Hell; Or Romes Sappers and Miners (San Francisco, California: Private subscription, 1883), pp. 118-124.

[5] http://americamagazine.org/content/all-things/father-general-his-visit-pope.

أعلى