لغة الأرقام التي يتجاهلها المنافقون وأشباههم
كانت حروب الجيوش (العربية) في
فلسطين حروباً غير مشرفة دبرت فيها مكايد ولم يلتزم فيها بعض القادة لا بأخلاق
العرب ولا بتعاليم الإسلام، بل كانت أيدي الخيانة فيها ظاهرة وآثار الغدر غير
خافية؛ فكانت النكبة، ثم كانت النكسة، مع أنه ما عرف في التاريخ قبلها أن العرب
بلوا بمثل ذلك من قبل اليهود على مر التاريخ، وقال ابن تيمية عن اليهود: «لم
يعرف أنها غلبت العرب، بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب، فيحالف كل
فريق فريقاً، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج، أما كون
اليهود ينتصرون على العرب، فهذا لا يعرف، بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر
بما يدل على ذلك، فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ
النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْـمَسْكَنَةُ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل
عمران: 112]،
فاليهود من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، لم
يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم
قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح عليه السلام فكذبوه»[1].
ومع ذلك كان أغلب وسائل الإعلام العربي مع
أولئك القادة، تمجّدهم، وتلتمس الأعذار لهم، حتى إن أحد القادة العرب لمّا أظهر
أنه استقال إبان حرب 67م المعروفة بنكسة حزيران أو حرب الأيام
الستة، خرجت المظاهرات الحاشدة في عدة مدن عربية تطالب بعودته، فعاد الرجل كالعادة - التي
كانت جديدة تلك الأيام - استجابة لرغبة الجماهير (زعموا)!
ومن الموافقات أنه في حرب 67 المذكورة
كانت حصيلة من قتل من العرب تراوح بين 15 و25 ألف
نسمة، بينما قُتِل من الصهاينة نحو من 800 نسمة فقط، بما يعادل
متوسط 25 عربياً مقابل صهيوني واحد؛ ودُمِّر من
العتاد الحربي في الدول العربية ما بين 70 و80 ٪،
بينما دمر من العتاد الحربي لدولة الصهاينة نحو من 2 و5 ٪
فقط، وهذا يعادل نسبة من قتل من الفلسطينيين فيما يسمى عملية «العصف
المأكول» أو «الجرف
الصامد»، وفقاً لإحصائيات الصهاينة المشكوك فيها،
مع فروق مهمة، وهي أن قتلى الفلسطينيين جلهم من غير المحاربين، أعني ليست لهم
أهلية للقتال، فإذا استثنيت من يسمون المدنيين، ونظرت إلى العسكريين؛ فاليهود
أنفسهم لا يعرفون كم قتلوا من الكتائب المجاهدة!
ومع نكاية المجاهدين في اليهود، إضافة إلى
الخسائر الأخرى المباشرة وغير المباشرة التي تزيد من نسبة الفرار من الأرض المقدسة
أو كما يسمونها في الإعلام «الهجرة العكسية لليهود من
فلسطين إلى الغرب أو الشرق»، إما من جراء الرعب
المتصل نتيجة عيشهم في الملاجئ تحت الأرض أيام الأزمات، أو توترهم في حياتهم
اليومية من جراء الاحتياطات الأمنية؛ يحسبون كل صيحة عليهم، وكل بادرة يظنونها
مقدمة لعملية فدائية! أو كان ذلك الفرار من جراء الضرائب العالية
التي تفرضها الزيادة في ميزانية الدفاع الصهيونية، ولك أن تقدر كم ستزيد مثل ما
سمي «الجرف الصامد» الذي
قدرت تكلفته بقرابة 2.5 مليار دولار، وقدر احتمال رفع ميزانية
الدفاع إلى 15.25 مليار دولار، وقدر من ذلك يقع على كاهل
الناتج القومي الصهيوني وضرائب العاملين في الكيان.
مع كل ذلك يتحدث المنافقون في بلداننا عن
حفلة ألعاب نارية! {قُلِ اسْتَهْزِءُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ
مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
وأعجب لحفلة ألعاب تسبّب هجرة عكسية! وشللاً
في الملاحة الجوية، وركوداً في الاقتصاد، وامتلاء الملاجئ ودوياً لصافرات الإنذار!
أما ما شوش عليه هؤلاء المنافقون الذين
دأبوا على الفت في عضد الأمة، وتخذيلها على مر التاريخ الإسلامي؛ فحسبهم أن يعلموا
أن الإحصائيات تفيد بتصاعد هجرة الصهاينة إلى فلسطين المحتلة بدءاً بعام 48م. والناظر
في أعداد هؤلاء الوافدين يرى أنها تزداد في حالات السكون وأوقات خمول المقاومة،
وتقل في حالات الحرب أو الانتفاضة، ومذ بدأت انتفاضة الأقصى (الانتفاضة
الثانية) عام 2000م،
حتى اليوم؛ تتناقص أعداد الصهاينة الوافدين إلى الأرض المحتلة تناقصاً ظاهراً،
فبينما كان عدد الوافدين عام 99م 76766 نسمة،
إذا به ينحدر انحداراً كبيراً ليبلغ إبان عملية «الرصاص
المصبوب» 13701 وافد، وذلك عام 2008م. وفي
مقابل انخفاض الوافدين أو كما يقال: المهاجرين إلى الكيان
المحتل، زادت نسبة الفارين عنه لتبلغ عام 2010 بعد
«الرصاص
المصبوب» 15600 نسمة، وكان قد بلغ قبلها
في بعض الأعوام 22400 نسمة كما في 2006م،
وقد قرأت في دراسة لبعض المراكز أن أكثر من 35 ٪
من يهود الكيان المحتل يفضلون العيش خارج فلسطين، وتقدر نسبة من يعيشون في الغرب
والشرق من إجمالي اليهود غير المنتمين للدولة العبرية المحتلة بـ 58 ٪.
ومع جرائم الحرب الصهيونية الممنهجة في
إبادة المدنيين في غزة، تأتي إحصاءات عام 2014 لتبيّن
لنا أن نسبة النمو السكاني فيما يسمى «إسرائيل» تبلغ 1.4،
لتمثل الدولة رقم 84 من حيث النمو السكاني، بينما بلغت نسبة
النمو في غزة 2.91، تتقدمها 12 دولة
فقط في معدلات النمو السكاني، مع أن النمو المذكور في الأرض المحتلة يشمل نمو
المسلمين ونمو اليهود والنصارى والدروز وغيرهم، ونسبة نمو المسلمين هي الأعلى. والدراسات
الأخيرة تشير إلى انخفاض نسبة اليهود في الأراضي المحتلة التي تعرف بدولة إسرائيل،
في مقابل زيادة نسبة المسلمين، حتى قال أحد أشهر رواد التحليل الديمغرافي المنتمين
لدولة الكيان الصهيوني، وهو البروفيسور سيرجيو ديلا بلقولا: «إن
إسرائيل لا يمكن أن تبقى دولة ديمقراطية ذات أغلبية يهودية تحكمها إلى أجل غير
مسمى في الأراضي الفلسطينية»، «فقط
حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمكن أن يمنع هذا الخطر من أن يصبح حقيقة
واقعة».
وهذه الأرقام التي لا يعلمها أو يتعامى عنها
المنافقون ومن في قلبه مرض، والطاعنون في المجاهدين؛ ينبغي أن تفقه المغترين بهم
إلى حقيقة المعركة، فهي حروب توقدها طوائف مجرمة لها أهداف تهجير وإبادة ممنهجة،
وتتابع جرائم أسلافهم المؤسسين عام 48 من البلماح والإرجون
والشتيرن وغيرهم من العصابات القتالية الصهيونية التي افتعلت المذابح وهجرت أهل
القرى ممهدة لإعلان دولة إسرائيل، وليست القضية ماذا صنعت حماس؟ أو ماذا صنع
الجهاد؟ فجميع المنصفين في الشرق والغرب يجزمون بأن رد الفعل لا يدل على طلب
انتصاف من ظلم - على تقدير أن للكياني الصهيوني حقاً أو أن
البادئ بالعدوان غيره -، وأن ما يصنعه المجاهدون ما هو إلا مقاومة
يؤيدها العقل ويمليها الشرع لعدوان كان يطمع أن تمتد دولته إلى أرض النيل، فتقلصت
طموحات ساسة الكيان الصهيوني بفضل الله ثم بجهود هؤلاء المقاومين، الذين قلبوا
المعركة إلى معركة صراع من أجل بقاء الكيان الدخيل بعيداً عن أحلام تمدّده إلى
النيل!
أما إن كُسرت يد المقاومة وتحقق ما يصبو
إليه المنافقون، فإن من البدهي أن تزداد هجرة اليهود إلى دولة الكيان الغاصب؛
لاستقرار الأوضاع، واستتباب الأمن لهم، وأن تزداد من جراء ذلك المستوطنات، ويزداد
طمع الدولة العبرية في التوسع، ولبقي افتعال الأسباب لإبادة المسلمين وتهجيرهم
استراتيجية من صميم عقيدة اليهود تسرّع تحقيق أهدافهم دون أن تلقى مقاومة تقلب
المعركة على أصحابها وتعكس النتائج. لكن من رحمة الله أن بقيت
المقاومة، وستبقى بإذن الله، غصة في حلوق اليهود شاء من شاء ورغم أنف من أبى: {كُلَّمَا
أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْـحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْـمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]،
وهكذا الواقع، كلما افتعلوا حرباً عادت عليهم وبالاً، وكلما أغراهم الخونة بقولهم
لإخوانهم الذين كفروا من اليهود: إن سنوات الحصار أنهكت
أهل غزة؛ يظهر الله لهم بجهاد المجاهدين ما لم يكونوا يحتسبون!
إن لغة الأرقام تؤيد الحقائق الشرعية
الداعية إلى التفاؤل والمستشرفة لتفريج الله عن الأمة، لكن المنافقين لا يعلمون،
ولا يفقهون، بل لا يعقلون، ولن يعقلوا ما داموا يظنون بالله ظن السوء، عليهم دائرة
السوء، وغضب الله عليهم.
أما أنت أخا الإسلام فلا تيأس من روح الله {إنَّهُ
لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]،
فالمهم أن يبذل المجاهدون ما عليهم، والله يتولى حسن التدبير لهم، بما يقذفه في
قلوب أعدائهم، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا
وُسْعَهَا} [البقرة: 286]،
{لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْرًا} [الطلاق: ٧]،
{فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]،
وعليك أن تبذل ما في وسعك، فإن خذلان الناس لإخوانك ليس عذراً لك، فكل نفس بما
كسبت رهينة، وبإمكانك أن تقدم الكثير لهم؛ بدءاً بالدعاء، وانتهاء بما شاء الله لك
من الدعم الذي أقدرك الله عليه، ولنتذكر بأننا غداً موقوفون بين يدي الله، مسؤولون
عن إخواننا هؤلاء، بل لنعلم أن من حكمة هذا البلاء ابتلاءنا: {فَإذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ
الْـحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ
وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ 4 سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: ٤
- ٥].
ومن أعظم ما تقدمه الأمة مجاهدةُ المنافقين المخذلين
القائلين بالتواء وخفاء كلمة أسلافهم: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]،
فجهاد هؤلاء بحجج القرآن وحقائق الواقع من أعظم الجهاد: {وَجَاهِدْهُم
بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]،
ونبينا صلى الله عليه وسلم قدم جهاد المشركين
باللسان فقال فيما صح عنه: (جاهدوا المشركين بألسنتكم)[2]. وخطر
المنافقين اليوم عظيم؛ فهم يدعون إلى أخطر شيء على القضية الفلسطينية، إلى أن تخنع
الأجيال للذل والاستسلام، تمهيداً لتهويدها بالكامل.. خسئوا
وخسروا.
ولنعلم أن من بشائر النصر تمحيص الصف وتمييز
الخبيث من الطيب، فهذه واحدة من أغراض الابتلاء، ليعلم الله علم ظهور من ينصره
ورسله بالغيب: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل
عمران: 179]،
{وَمَا
أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْـمُؤْمِنِينَ 166 وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ
لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ
نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلإيمَانِ} [آل عمران:166-167]،
فمن عدل الله أنه أناط الجزاء بوقوع ما علمه وظهوره، لتقوم حجته على خلقه، فإن
تحقق هذا فما أقرب زوال البلاء وما أسرع نصر الله.
ومن جملة التمحيص والتمييز في هذه الأحداث
أن الله تعالى بعدله وحكمته فضح المدّعين بأخص دعاواهم؛ ففضح الليبراليين مدّعي
الحرية بوقوفهم مع الطغاة، وفضح بعض مدّعي السلفية بهدمهم الولاء والبراء، ومما
يبشر هذه الآية المبشرة بأن من ثمار قتال العدو الظاهر الانتصار على العدو الباطن: {وَآخَرِينَ
مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]،
وأيضاً: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57].
وأخيراً: لو
لم يكن في هذه الأحداث إلا ثبات إخواننا في غزة، وما أنزله الله عليهم من السكينة
والرضا الذي رأينا، وما أحيته الأحداث في قلوب الموفقين من أبناء هذه الأمة من
صحيح العقيدة ولاءً وبراءً، ومن الإنابة والتوبة؛ لكفى به نصراً، والمؤمن المتفائل
حقاً هو من يجعل من أدلة المتشائمين دليلاً على تفاؤله: {الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل
عمران: 173].
فواصلوا نصرتكم لإخوانكم، واستمروا في
دعمكم لهم، لا سيما بعد هذه الأحداث، فثمة جولات بعدها وجولات، والله أسأل أن
يوفقنا وإياكم لنصرة كتابه، وسنة نبيه، وعباده الصالحين، والحمد لله أولاً
وأخيراً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.
[1] مجموع
الفتاوى 1/301.
[2]
أخرجه أحمد 3/153 وسنده جيد.