الـفـتـن والـمـوقـف مـنـهـا

الـفـتـن والـمـوقـف مـنـهـا


إن من سنن الله تعالى في خلقه ابتلاءهم وتعريضهم للفتنة، فالاختبار والتمحيص محك صدق الإيمان؛ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ 2 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: ٢، ٣]، «فالله سبحانه لا بد أن يبتلي المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان»[1].

قال الألوسي: «المراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين بمجرد أن يقولوا آمنا، وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق... وفنون المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيه فيعامل كل بما يقتضيه ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم... والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، لكن الابتلاء يكشف في الواقع ما هو مغيب عن البشر فيحاسب الناس على أعمالهم»[2].

وأما الطاهر بن عاشور فقد حمل الآية على ما هو أعمق من هذا، فقال: «أحسب الذين قالوا آمنا أن يتركهم أعداء الدين دون أن يفتنوهم، وهذه الفتنة مراتب أعظمها التعذيب كما فعل ببلال، وعمار بن ياسر وأبويه»[3]. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال عز وجل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].

وهذا البلاء مع خطورته إلا أنه كذلك كلما اشتد كان علامة خير! فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم  وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: ما أشدها عليك؟ قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر، قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، قلت: ثم من؟ قال: الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء[4].

وعن خباب رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له حفرة في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون[5].

فالبلاء دليل خير وليس نذير شر، وفي حديث أنس مرفوعاً: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»[6].

ومن الفتن: تمكن أهل الباطل، وإيذاؤهم لأهل الحق وتطاولهم عليهم، ثم لا يجد المؤمن نصيراً يساعده ويدفع عنه، وهو مع ذلك يرى كيف يقبل بعض إخوانه على الدنيا ويترك ما كان عليه.

 ومنها: الغربة حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيار الضلالة وهو وحده موحش غريب.

ومنها: فتن الشهوات، حين يرى استشراء سعارها يتفشى.

والناس أمام الفتن إما ناكص: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ الْـمُبِينُ} [الحج: ١١]، وأما ثابت صابر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200]، {وَلَـمَّا رَأَى الْـمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: ٢٢]، وهذا سبيل المؤمنين وقد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ في قِصَّةُ هِرَقْلَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، لَـمَّا سَأَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  وَهُوَ يَعْرِفُ صِفَاتَهُ. فلما أجابه عن أسئلته، قال له هرقل: إني سألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه، بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً، ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة، فإن يك ما تقول فيه حقًّا، فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولو أنى أعلم أنى أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي[7].

 فَاسْتَدَلَّ بوجود البلاء مع بقية ما سأل عنه عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ نَبِيِّ اللهِ عِيسَى عليهما السلام. {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } [الأنعام: 34].

وعندما تعرض الفتن للمؤمن، فإنه يواجهها بالاعتصام بالله وبحبله المتين، يقول ابن القيم: «هذان نَوْعَانِ: اعْتِصَامٌ بِاللَّهِ، وَاعْتِصَامٌ بِحَبْلِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْـمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].

وَالِاعْتِصَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعِصْمَةِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِمَا يَعْصِمُكَ، وَيَمْنَعُكَ مِن المحذور والمخوف، فالعصمة: الحمية، والاعتصام: الاحتماء.

ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.

فأما الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة، فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية الطريق، والسلامة فيه، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاته.

ولذا قيل: الاعتصام بحبل الله هو المحافظة على طاعته، مراقباً لأمره. والمراد بمراقبة الأمر القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأحبها، لا لمجرد العادة، أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل، والله أعلم.

وأما الاعتصام به فهو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه، ويعصمه ويدفع عنه، فإن ثمرة الاعتصام به هي الدفع عن العبد، والله يدافع عن الذين آمنوا، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب، ويحميه منه، فيدفع عنه الشبهات والشهوات، وكيد عدوه الظاهر والباطن، وشر نفسه، ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها، بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه، فتفقد في حقه أسباب العطب، فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها، ويدفع عنه قدره بقدره، وإرادته بإرادته، ويعيذه به منه»[8].

ومما يتأكد عند وقوع الفتن موالاة المؤمنين، فينصر المؤمن أخاه، ويحبه ويدعو له. وأحق الناس بذلك العلماء؛ لأنهم أنصار شرعة الله والمبينون للحلال والحرام والحق من الباطل.

ومن قواعد الدين أن المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، فلا يجوز لمسلم أن يستهين بهذه الحرمة، ولا أن يخالف مقتضي العصمة، قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

ولما وقع صلح الحديبية ورجع النبي صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة دون أن يدخل مكة امتن الله على نبيه بذلك؛ لأنه لو دخل المسلمون مكة لربما قتل بعض المؤمنين والمؤمنات المستضعفين ممن يكتم إيمانه ويخفيه ولولا ذلك لسلط المؤمنين، قال تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي بعد أن عدّد شيئاً من الأمور الداعية لقتال المشركين: «لكن ثمّ مانع وهو وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن ألا ينالهم أذى، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون، والنساء المؤمنات، الذين لا يعلمهم المسلمون. أن تطؤوهم، أي: خشية أن تطؤوهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ والمعرة: ما يدخل تحت قتالهم، من نيلهم بالأذى والمكروه، لو زالوا من بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] بأن نبيح لكم قتالهم، ونأذن فيه، وننصركم عليهم»[9].

ونهى الله تعالى حين القتال عن قتل من أظهر شيئاً من علامات الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِـمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94].

ولعلّ في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما شاهداً كبيراً لتقرير هذه العصمة وإبطال كل تأويل، يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى الحرقات من جهينة، فكان رجل لا يقصد لأحدٍ من المسلمين إلا قتله فأدركته فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إني مسلم. فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم  فقال: أقال، وقتلته؟ قلت: إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: ألا شققت عن صدره؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ[10].

 وذلك لأن في إعمال هذه القاعدة نشراً للأمن والاطمئنان وحفظاً للمسلمين عن الفتن الحاصلة بوقوع القتل كما قال صلى الله عليه وسلم : «إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَّا يَوْمَ القِيَامَةِ»[11].

وهذا راجع لقاعدة أعظم وهي أن الشرع جاء بتحصيل المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد فإنه لا يُعمل بمصلحة تؤدي لمفسدة أعظم؛ كما نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين لكي لا يقابلها المشركون بسب إله المؤمنين.  


 

 


[1] تفسير ابن كثير (6/263).

[2] روح المعاني (10/340).

[3] التحرير والتنوير (20/203).

[4] سنن الترمذي (2398)، وقال: حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه (4023). وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.

[5] صحيح البخاري (3612).

[6] سنن الترمذي (2396)، وسنن ابن ماجه (4031)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2110).

[7] صحيح البخاري في كتاب بدء الوحي باب بدء الوحي (7)، وصحيح مسلم في كتاب الجهاد باب كتاب النبي صلى الله وعليه وسلم إلى هرقل (1773).

[8] مدارج السالكين (1/ 457).

[9] تيسير الكريم الرحمن (ص794).

[10] صحيح البخاري (4269، 6872)، صحيح مسلم (96).

[11] سنن الترمذي (2202)، وابن ماجه (3952)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (828).

أعلى