تربية الطاقات

تربية الطاقات


الإنسان الصالح هو الأمل المنشود من التربية الإسلامية على اختلاف عملياتها ومساراتها. والقوة تعد مظهراً من مظاهر الصلاح في الإنسان، أعني القوة التي ذكرها الله تعالى في كتابه على لسان أخت مدين: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]، وهي هنا تمثل جانب القدرات والإمكانات الجسدية والعقلية والمهارات العملية، الذي يجعل الإنسان قادراً على إتقان عمله وتجويده وتحسينه، بينما تمثل الأمانة جانب القيم والضمير والوجدان الذي يوجِّه هذه القوة في الاتجاه الصحيح ويجعل منها شيئاً مرضياً مقبولاً في السماء وفي الأرض.

 قال الزمخشري: «قولها إنَّ خير من استأجرت القوي الأمين كلامٌ حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان - أعنى الكفاية والأمانة - في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك»[1].

كما أولت التربية الإسلامية عنايتها الفائقة بغرس الأمانة؛ فإنها كذلك أولت عنايتها لتنمية القوة بمعناها الذي أسلفت، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»[2]، وإنَّ على محاضن التربية أنْ تبذل جهدها في تكميل جانب القوة لدى مستفيديها كما تبذل جهدها في تكميل جانب الأمانة لديهم، لأنهما جانبان مكملان لبعضهما، ولذا قال السعدي: «هذان الوصفان ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملاً بإجارة أو غيرها. فإنَّ الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد أحدهما، وأما باجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل»[3].

وإنَّ إهمال جانب القوة في التربية مسلك مُحْدث، لم يعرفه جيل الصحابة رضي الله عنهم ولا فقهاء التربية الإسلامية، وإنما نشأ نتيجة لتغلغل الفكر الصوفي الذي يؤسس بناء الإنسان على السلبية والضعف، متأثراً بمقالة الجبرية، ومن هنا دبَّ الضعف في الأمة حيث أصبح الفرد مجرد ريشة في مهب الريح تقلبه يمنة ويسرة. وفي ذلك عبرة للمربين والمربيات: أنَّ قوة الأمة هي قوة أفرادها الذين يتربون في محاضنهم، وأنَّ عليهم يبنوا أجيالاً قوية تملك المهارات وتستثمر المواهب والقدرات في نفع المجتمع وعمارة الأرض وعبادة الله.

تحديد الاتجاه يسبق المسير:

أول مسألة في تربية الطاقات هي اكتشاف الذات ومعرفة الإنسان بجوانب شخصيته، أي إنَّ على المربي والمربية إذ يقومون بمهمة تربية الطاقات أن يكتشفوا كُنْهَ طلابهم وطالباتهم، وأن يستطيعوا تحديد قدرات كل فرد وميوله واتجاهه، وفق أسسٍ موضوعية علمية، وليست انطباعية فحسب، وهذا التحديد والاكتشاف يمثل في عصرنا تحدياً جديداً لدى العمل التربوي، فلقد ثبتت فاعليته العالية في صناعة القوة والإيجابية لدى الأفراد بينما لا تزال المؤسسات التربوية لا توليه عنايتها بالقدر الكافي.

في وقفة رائعة من فقيه التربية الإسلامية العلامة ابن القيم رحمه الله يلفت فيها عناية المربين والمربيات إلى هذه المسألة، فيقول رحمه الله:

«ومما ينبغي أن يعتمد: حال الصبي، وما هو مستعدٌ له من الأعمال ومهيأٌ له منها؛ فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمِله على غيره؛ ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إنْ حملَه على غير ما هو مستعدٌ له لم يفلح فيه، وفاتَهُ ما هو مهيأٌ له.

فإذا رآه حسَنَ الفهم صحيحَ الإدراك جيدَ الحفظ واعياً، فهذه من علامات قبوله وتهيُّئِهِ للعلم لينقشه في لوحِ قلبِه ما دام خالياً، فإنه يتمكنُ فيه ويستقر ويزكو معه.

وإن رآه بخلاف ذلك مِن كل وجهٍ، وهو مستعدٌ للفروسيةِ وأسبابِها، من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذَ له في العلم ولم يُخلَق له مكَّنَهُ من أسباب الفروسية والتمرُّن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين.

وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يُخلَق لذلك، ورأى عينَه مفتوحةً إلى صنْعةٍ من الصنائع مستعداً لها قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليُمكِّنه منها.

هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه، فإنَّ ذلك ميسَّرٌ على كل أحد لتقوم حجة الله على العبد، فإنَّ له على عباده الحجةُ البالغة، كما له عليهم النعمة السابغة، والله أعلم»[4].

إنَّ هذا النقل يعني باختصار: إن جهودنا التربوية ستنتهي بالإخفاق إنْ كانت في طريقٍ خاطئ.

إنَّ اكتشاف الذات - بوصفه مهمة تربوية - ليس مسألة جديدة في التربية الإسلامية، بل مسألة أصيلة قديمة قِدم النبوة المحمدية، فهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه أُتي به النبي صلى الله عليه وسلم  مقدمه المدينة، فقالوا: يا رسول الله! هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أُنزل عليك سبع عشرة سورة. قال: فقرأتُ على رسول الله فأعجبه ذلك، وقال: «يا زيد! تعلَّمْ لي كتابَ يهود؛ فإني والله لا آمنهم على كتابي». قال: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتبُ لرسول الله إذا كَتَبَ إليهم[5].

فتأمل قدرة المربي الكبير صلى الله عليه وسلم  على اكتشاف قدرات زيد بن ثابت على تعلُّم اللغات، وهو جزء مما يسمى اليوم «الذكاء اللغوي»، ثم وجَّهه إلى استثماره فكان أن أتقنَ لغةً بأكملها في نصف شهر. لم يقف هذا الذكاء اللغوي عند هذا الحدِّ، فقد تعلم رضي الله عنه الفارسيةَ من رسول كسرى في ثمانية عشر يوماً، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خُدَّام رسول الله صلى الله عليه وسلم [6].

يحسن بمحاضن التربية أنْ تكتشف كُنْهَ مستفيديها وأنْ تساعدهم على الإجابة عن هذه الأسئلة المهمة: من أنا؟ ما هي طبيعة شخصيتي؟ ما هي قدراتي وذكاءاتي؟ ما نوع ميولي المهنية؟

وتقوم بذلك عبر عدد من المقاييس العلمية والإجراءات التربوية. إننا سنساعد هؤلاء الطلاب وهؤلاء الطالبات على الاستقرار النفسي بإجابتنا عن سؤال: من أنا؟ وسنساعدهم على شق طريقهم في أمان وبإيجابية، وبهذا سيكونون ناساً صالحين، وذلك هدف التربية الإسلامية؛ حيث امتلكوا القوة وغرسنا فيهم قيم الأمانة.

نحن أمام أمرين: اكتشاف الذات، وتوجيه الذات. وعلى المحاضن التربوية أن تقوم بنزع الحصة المعتادة للتوجيه وإعطائها للاكتشاف، كما عليها أن تعطي حصة الاكتشاف المعتادة للتوجيه.. هذا هو الميزان الصحيح في تربية الطاقات.

المناخ التربوي لتربية الطاقات:

لنستطيع أن نبني القوة في طلابنا وطالباتنا يجب أن يتوفر شرطان إضافة إلى تحفيزنا، هما: الأمن، والحرية[7].

الأمن مبتغى الطلاب والطالبات، حيث لا خوف من اللوم ولا قلق من العقاب، حين يمثل المحضن التربوي بيئة آمنة للانطلاق والإبداع والابتكار وتنمية موهبة؛ سيكون ذلك فرصة للفرد لشق طريقه الخاص الذي ينفع به أمته ويعمر به الأرض ويحقق به معنى العبادة. إننا حين نستعيض عن اللوم بالحوار وعن العقاب بالتوجيه ستتحول محاضننا التربوية إلى مصانع للأفذاذ.

والحرية مبتغى الطلاب والطالبات أيضاً، أعني حرية تجريب قدراتهم وذكاءاتهم وإبداعاتهم، إذ تعمل القيود والتنبيهات الكثيرة على القلق وتفضيل خيارات السلبية والجمود والتبعية، وهذا خلاف هدف التربية الإسلامية.

ترك مساحة كافية للطلاب والطالبات يولد الإبداع، فالمهمة الكبرى تكمن في الاكتشاف وغرس قيم الأمانة، وما عدا ذلك فمتابعة يسيرة لحركة الإبداع المتولدة. حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم  زيداً بتعلم لغة اليهود تركَ له التفاصيل، فكان أنْ تعلَّمَ زيد هذه اللغة في مدارس اليهود (ماسكة)[8]، وكان حينها طفلاً في الحادية عشرة من عمره تقريباً! ثم هو تعلم الفارسية من رسول فارس، وباقي اللغات من خدام النبي صلى الله عليه وسلم .

نحن مخطئون حين نظن - بوصفنا مربين - أنَّ علينا أن نرسم لطلابنا وطالباتنا طرائق إبداعهم وسُبل مواهبهم؛ فإنهم يعرفون ما لا نعرف، ويعلمون ما لا نعلم، ويدركون ما لا ندرك، ولذا فإن علينا أن نعطيهم حرية الرسم ونقوم نحن بتوجيه منظم معقول.

يحكي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم  وأبي بكر حين كان يرعى الغنم لعقبة بن أبي معيط، وفيها أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : علِّمني من هذا القول. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنك غلام معلَّم»، قال: فأخذت من فِيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد[9]. لاحظ أثر حرية تجريب الذات بعد اكتشافها!

د. عبد الكريم بكار حفظه الله سجل ملاحظة مهمة في هذا الإطار، يقول: «إنَّ بعضنا يتخوف في بعض الأحيان من أشياء لا تدعو إلى الخوف، ويحيل بعض المسائل الظنية المختلف فيها أو بعض الأمور ذات الدلالة الرمزية إلى مسائل قطعية لا يصح الاقتراب منها. وبعض الخيِّرين الذين يديرون مؤسسات تربوية يبالغون في الأخذ بمبدأ سد الذرائع، فيمنعون بعض المباحات، ويضبطون الأمور إلى حد التنفير. وكثيراً ما تعاني مجتمعاتنا من الغموض؛ حيث تنطمس الحدود الفاصلة بين الجائز والممنوع والنافع والضار؛ مما يجعل الناس خائفين من أشياء عديدة لا تخيف ولا ينبغي أن تخيف أحداً»[10].

هذه الملاحظة جديرة بالمدارسة، لا لفتح الباب على مصراعيه، وإنما لتوفير مناخ مناسب لتربية الطاقات، والأمور تقدر بقدرها.

توجيه الطاقات:

لا شك أنَّ توجيه الإبداع والابتكار والقدرات والإمكانات من أهم واجبات المربي والمربية؛ ولكن ما هو مضمون هذا التوجيه؟

إنه التوجيه الذي يحافظ على بوصلة الأهداف التربوية، وليس التوجيه الذي يحافظ على الخطوات والإجراءات، لأن الأخير إنما هو تحكُّم وليس توجيهاً، وبه يتخَّرج العبيد لا القادة، أما الأول فهو الذي يحافظ على بقاء الطالب والطالبة في مربع التجريب الحر، دون أنْ يمس الأهداف التربوية بما يخدشها. وهذا يعني أن الطالب والطالبة هما من يقوم بإعداد خطة إبداعهما، ويقترح طريقة مسيرهما في تربية الطاقة، وإنما يقوم المربي والمربية بمراقبة الأطر العامة التي تضمن صحة المسير، دون التدخل والتحكم في التفاصيل، ويساعدانهما فيما يحتاجان إليه في إبداعهما.

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حريصاً على طلب العلم، ولقد تفقه وتعلم حتى صار من فقهاء الصحابة وعلمائهم، فكان من اجتهاده وإبداعه في الطلب أن ابتكر طريقة يوفق فيها بين طلبه للعلم وسعيه لطلب الرزق، يقول: «كنت أنا وجارٍ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزلَ فَعلَ مثل ذلك»[11]. لاحظ هنا أنَّ طريقة تعلمه تناسبه، وباختياره هو، لأنه أعلم بما يناسبه، لقد كان هذا الأمر متاحاً، ولم يكن ذلك محل ذم وعيب. ولكن في الجانب الآخر وحين أتى رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  بكتابٍ من عند أهل الكتاب، فقال: «يا رسول الله! إني أصبت كتاباً حسناً من بعض أهل الكتاب»، حينها غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وقال: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيحدثونكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني»[12]. حين يكون الخطأ منهجياً ويمس الأطر العامة فإنَّ ذلك يستدعي وقفة تصحيحية من المربي والمربية.

وهو أيضاً التوجيه الذي يثوِّر المشاريع والمبادرات، ويجعل من الأفكار الإبداعية التي يسمعها الطالب والطالبة في ماجريات واقعهم التربوي مادةً ملهِمة ومحفزة للعمل المنتج النافع.

انظر إلى أثر الأستاذ حين يطلق تلاميذه في فضاء العمل المنتج، وحين يغرس فيهم الثقة، وحين يثور المشاريع الابتكارية؛ يقول البخاري رحمه الله: «كنا عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح»[13]. لقد كانت نتيجة هذا الإلهام والتحفيز - بعد توفيق الله تعالى - أنْ سُخرت الجهود في جمع صحيح الأحاديث، حتى أصبح لوناً من ألوان علم الحديث انبرى له عددٌ من الأئمة. وإنْ تفاوتت نتائج تلك الجهود في جمع الصحيح فإنَّ ذلك حظُّ كل واحد منهم ونتاج علمه وفكره ورأيه وطريقته، ويبقى أنَّ الانصراف إلى هذا اللون من علم الحديث كان سببه التحفيز والإلهام، لا الكبت والخوف من الأخطاء.

ويتجلى هذا النوع من التوجيه في قول النبي صلى الله عليه وسلم  لزيد بن ثابت رضي الله عنه في الحديث المتقدم: «تعلَّم لي كتاب يهود، فإني لا آمنهم على كتابي»، حيث لم يقتصر على التحفيز والإلهام، بل تعدى ذلك إلى مرحلة الإفادة الحقيقية من طالب لا يزال في بدايات طريقه، إنها مسألة وإن كانت تعدُّ في وقتنا هذا محل إشكال ونظر وتأمل، إلا أنها في حقيقة الأمر بدهية من بدهيات التربية النبوية.

إنَّ الطلاب والطالبات لهم أشد حاجة إلى هذا التحفيز والتثوير والإلهام، وأشد حاجة إلى أن نطلق لهم عنان المبادرات والابتكارات، ليتحقق هدف التربية الإسلامية فيهم وليكونوا أقوياء إيجابيين نافعين.

 


 


[1] الكشاف 3/403.

[2] أخرجه مسلم 4/2052 كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، ح2664.

[3] تفسير السعدي ص614.

[4] تحفة المودود ص244.

[5] سير أعلام النبلاء 2/428.

[6] البداية والنهاية 8/28.

[7] انظر: بناء الأجيال ص81-82.

[8] الطبقات الكبرى 5/308.

[9] الطبقات الكبرى 3/139.

[10] بناء الأجيال ص82.

[11] أخرجه البخاري 1/29 كتاب العلم، باب التناوب في العلم، ح89.

[12] جامع بيان العلم وفضله 2/805.

[13] فتح الباري، المقدمة ص7.

 

  

أعلى