أشواق الروح في ديوان (رياحين الجنة)

أشواق الروح في ديوان (رياحين الجنة)


يعدُّ شاعر «الإنسانيَّة المؤمنة» عمر بهاء الدين الأميريِّ رحمه الله من أعظم شعرائنا الإسلاميِّين غزارة، وقدرة على مناجاة الروح، والغوص إلى أشواق وهموم الإنسان المسلم خاصة، ورغم أن هذا الشاعر الموغل في الذاكرة الإسلامية بكل عمقها، لم يحظ بتلك الدراسات النقديَّة الجادَّة باستثناء دراسة الأديب السعودي الدكتور خالد بن سعود الحليبي الأخيرة؛ إلا أن شاعرنا الأميري كان أصفانا وأجملنا صوتاً في التغريد بين حدائق عدَّة في وطننا الإسلامي الكبير.

وقد نُشر له أكثر من عشرين ديواناً شعرياً، ولديه ما يزيد على ذلك، من الشعر المخطوط. أما ديوانه «رياحين الجنة» المطبوع في دار البشير في عمان سنة 1990م، والذي قدَّم له المفكر العلَّامة الأديب أبو الحسن الندوي، فقد توجَّه الأميري في هذا الديوان للطفولة الغضَّة، يعانق أفراحها ويعبِّر عن آمالها وأوجاعها، وإن كان في هذا الديوان ملامح جلية للتفاؤل والسرور، فإن فيه مواجع مضنية من غربة وقلق وأحزان، بل هي غربة الروح التي تفضي إلى مزيد من وهج العطاء، والجد والصبر في ظروف قاهرة من المعاناة الجماعية.

وتظل أشواق الروح وأحزانها وأفراحها عند الأميري، تبدأ أساساً من الذات الرهيفة الطموح الصابرة، فتجد تلك الذات المؤمنة الصادقة لذة في عذاباتها وحلاوة في عنائها، لأنها تحلِّق في سماء من الهمم العالية والرؤى الشامخة، يقول في قصيدته (براء) مخاطباً ابنه البكر:

 لصفاء عينيكَ العِذابْ

يحلو العذابُ فلا عذابْ

ولثغركَ الزاهي الرقيقِ

وقد تفتَّح عن حبابْ

تتهنَّأُ النَّفسُ العنا

ويَلذُّها خوضُ الصعابْ

 هكذا تأوي الروح إلى صفاء أشواقها؛ فرغم هذه المجاهَدة، وثقل الأعباء إلا أنَّ طموحه يظل سامياً وجهاده جليلاً، وعزمه متقداً، فيتجلَّى حبُّه في قصيدة أخرى:

 يا برائي (وأنت خفقُ فؤادي)

وأنا مثقلٌ بعبء جهادي

ومُرادي وما أجلَّ مُرادي

أن أرى فيك ما يحقق ظنِّي

وتمتزج أشواق الأميري بالحنين إلى الماضي العذب، عبر ترانيمَ نديَّةٍ هادئة يقطفها من كل آفاقه وذكرياته الخاصة، فيسلمنا إلى أحزانه المضيئة حين يودع أبناءه في قصيدة (أب) التي أرى أنها من أجمل قصائد الديوان في حميميَّتها وإيقاعها وتواصلها مع النفس المغتربة والأبوَّة الموجوعة الشاعرة:

بالأمس كانوا ملءَ منزلنا

واليومَ، ويحَ اليومِ، قد ذهبوا

ذهبوا! أجل ذهبوا! ومسكنهم

في القلب ما شطُّوا  وما قرُبوا

إنِّي أراهم أينما التفتتْ

نفسي، وقد سكنوا، و قد وثبوا

في كل ركنٍ منهمُ أثرٌ

وبكل زاوية لهم صَخَبُ

في النافذاتِ زجاجَها حَطَموا

في الحائطِ المدهونِ قد ثقبوا

في البابِ قدْ كسروا مزالِجَه

وعليه قد رسموا وقد كتبوا

في الصحن فيه بعضُ ما أكلوا

في علبة الحلوى التي نهبوا

 لكن هذا الحنين المشتعل، وهذا الأسى الموجع بين الحنايا يفيض دمعاً (كالغيث ينسكب)، كما يصور لنا شاعرنا الأميري. أما قلبه الرقيق الحزين فقد نُزع من أضلعه حين ابتعد بنوه عنه، وفي ظل هذه العاطفة الجياشة ينقلنا الشاعر إلى قطوف موفقة من الحكمة الناصعة لتتآلف أبياته عبر وحدة نفسية عضوية:

 دمعي الذي كتَّمتُه جَلَداً          

لمَّا تباكَوا عندما ركبوا

حتى إذا ساروا وقد نزعوا

من أضلعي قلباً بهم يَجِبُ

ألفيتني كالطفل عاطفةً

فإذا به كالغيث ينسكبُ

قد يَعجب العُذَّال من رجلٍ

يبكي ولو لم أبكِ فالعجبُ

هيهات ما كُلُّ البكا خَوَرٌ

إني - وبي عزمُ الرجال - أبُ

 ولا شك أن الفضاء اللغوي عند شاعرنا يتكئ على المعجم القرآني، وينهل من معينه، ويستضيء بهديه في كثير من قصائده. ولا غرو؛ فالأميري صاحب رسالة، فلا تزيده المواجع وأحزان الروح إلا يقيناً بنصر الله، والتسليم بقضائه وقدره، والاعتراف بفضله وحفظه ورحمته، فدعونا نقرأ  نصائحه من خلال هذه الأرجوزة الدافئة لابنه (سعد الدين مجاهد):

 أنبته الله نباتاً

حسناً في نشأته

وصانَه... وزانه

وحَفَّه برحمتِه

حتى يُرى بفضله

قرَّةَ عين أسرتِه

يمضي بعزمٍ ثابتٍ

على صراطِ غايته

معزَّزاً في قومه

مبارَكاً لأمته

مُجنَّداً لربه

مجتهداً في طاعته

منتصراً لدينه

مناضلاً في دعوته

في صف أشبال الحمى

من صحبه وإخوته

ومما نلمحه لدى شاعرنا الأميري، عفويَّة التعبير في  شعره عموماً، وإن كان في هذه العفوية الصدق الذي يعبِّر عن مكنونات نفسه الشفيفة، إلا أن هذه العفويَّة تضعف بناء القصيدة لديه أحياناً، ولعل في ذلك أسباباً، منها ارتجال الشعر حين يقحم الشاعر في مواقف ومناسبات لم يكن قد تهيأ لها، فنقرأ له قصيدة (حذيفة) نموذجاً لهذه التلقائية الأقرب إلى الحديث العادي منه إلى الشعر:

 بارك الله في البراء وبشرى

زفَّها عن (حذيفة بن اليمان)

وحبا الأسرة العزيزة منه

طالِعَ الخير والرضا وحباني

(لليمان) الغالي وكندةَ من قلبي

وحبي أحلى المنى والتهاني

 ويمضي الشاعر إلى أشواقه الروحية، وهو يهفو دائماً إلى نفحات آسرة خافقة من حب الله والتضرُّع إليه، يزفُّها إلى أحفاده وأسباطه، ونرى في شعر الأميري قدرة فائقة متميزة في صياغة الخاتمة في قصائده التي تغدو شموساً ساطعة من الدعاء، أو أزهاراً مورقة متفتحة من الحكمة  القابضة على تجارب وارفة من الحياة بكل مفارقاتها، وتستوقفنا هذه التعويذة لبكر ابنته (وفاء) وهو (الحسين زين العابدين) معبِّرة عن تلك الضراعة إلى الله في عذوبة مشرقة من البيان:

 «حسيني وزيني» والرؤى كلها منِّي

وفي النَّفس ما فيها من الحمد والحُرَق

رسومك في عينيَّ يا ابن حبيبتي

 (وفاء) قد انسابت وجاوزت الوَرَق

فقبَّلت فيها نفحة نبويَّة

وعزم جهاد في ملامحك ائتلق

وفاضت من الدمع الأبيِّ ضراعة

إلى الله ما بين السكينة والقلق

يحفُّك من سوَّاك بالصون والرِّضا

ويرعاك في مسراك في كلِّ منطلق

لتعليَ مجدَ الله ما عشت ماضياً

مُعاذاً بربِّ الخلق من شرِّ ما خلق

ومما يؤخذ على الأميري في هذا الديوان ورود بعض الألفاظ العامية  في عدد من  قصائده، على أن شاعرنا من المنافحين عن لغتنا العربية الفصحى، إلا أننا قد نجد للأميري عذراً في ذلك، وهو أنَّ ديوانه يعبق بهموم الطفولة والأطفال، فجاءت الكلمات العامية قريبة من أذهانهم:  (نني - جدو - ماما - نناه - أبو بريص - تاجو - ببّثو - بابا...).

أخيراً: ليست هذه العجالة غير وقفات نقدية، تمثل جزءاً يسيراً من إشراقات الفكر، وأشواق الروح لدى شاعرنا الإسلامي عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، آملين أن نظل نشدو بعضاً من نبضات شعره، ومناجاته العذبة لرياحين الجنة:

فهم العذابُ له عذوبتُه

وهم النظام جماله الخللُ

وهمُ الهمومُ تُقضُّ مضجعَنا

وهم الغدُ المرموقُ والأملُ

وهم الهناءة والعناء معاً

فمقامُهم وفراقُهم جللُ

عبءٌ وتحمله الكواهل في

حبٍّ فلا بَرَمٌ ولا مَلَلُ

ريحانةُ الله التي نبتتْ

من غرسنا والأمر يتَّصلُ

حُكْم الإلهِ وكلُّه حِكَم ٌ

ولكل خَلْقٍ عندَه أجلُ


أعلى