الهروب عن النص... إليه!

الهروب عن النص... إليه!

  إن أردتَ الظفر بالمعنى والحجَّة الأكثر حضوراً لدى خصوم النص الشرعي في كافة قضاياهم التي يصادمون بها النصــوص والأحكـــام الشرعية، فهــي - بجدارة - الحجة والبيان القائل: (هي مخالفة لفهم معيَّن للنص الشرعي وليست مخالفة لذات النص الشرعي). وقد تصاغ بأشكال فنية مختلفة، لكن مفعولها إنما يتحرك حين يستشعـــر أن ثمة تخطيــاً أو تعدياً لنص شرعي ما.
 
1 - لو كان الأمر متعلقاً بالأحكام الشرعية الاجتهــادية أو الخلافية أو حتى ما يحتمل وجهاً أو تأويلاً، لكان هذا أمراً مقبولاً ومستساغاً؛ فما زال العلماء والمجتهدون يختلفون في أحكام الشريعة ويتنازعون وجوه الدلالة وأوجه الترجيح بين الأحكام، وكُتُبُ الشريعة حافلة – من ذلك - بتراث معرفيٍّ ضخم، بل هذا المجال هو المجال الأوسع والأرحب في الشريعة الإسلامية؛ فمدارك الظنون ومساحة الاجتهاد هي أوسع دائرةً وأرحب مجالاً في الشريعة من القطعيات والأحكام الظاهرة.
غير أن الأمر قد تجاوز هذا كله، وأصبح كثير من خصوم النص ينطلق في أحكامه من واقع عصره، ودَافِع هواه وعقله، من غير أن يلتفت للنص الشرعي أو ينظر في دلالته، ثم إذا خَلَص إلى الرأي الذي شاء وشعر بأنه مصادم للنص الشرعي استلَّ تلك المحفوظة المألوفة ورفعها في وجه كل محتسب أو ناصح: (لا أخالف النص وإنما أخالف فهماً معيَّناًَ للنص).
2 - إن اختلاف العلماء فــي المسائــل الاجتهــاديــة، بل حتى ما هو خارج عنها، كان ثمرة لنظرهم في النصوص الشرعية وتباينهم في تحديد مراد الله ومراد رسوله # منها، مع إيمانهم القاطع بأن النص هو الحاكم والقائد والدليل الذي يمضي الجميع تحت لوائه، وهو متقرِّر بالضرورة لدى كل فقهاء الإسلام، ومن ثَمَّ فخلافهم كان من النص يبدأ وإليه يعود، ولم يكن حالهم، هو البحث والقراءة من خارج النص ثم يأتي النص بعد ذلك ليكون تابعاً لما قرَّروه وسائراً في الخط الذي رسموه!
3 - حين يأتي النظر في النص الشرعي بعد الاعتقاد وتحديد الخيارات، فليس هو في الحقيقة إلا شكل من أشكال التمرير أو التبرُّك – إن أحسنَّا الظن - إذ النص الشرعي حينها ليس إلا تابعاً منقاداً لدى أصحاب هذا الخطاب؛ فسواء وُجِد النص أو عُدِم، فلن يتغير في النتيجة شيء يُذكَر.
4 - وهذه الحالة في التعامل مع النصـوص، لا تبــرز إلا مع النص الشرعي؛ فهو النص الوحيد الذي يمارَس عليه هذه الطريقة العبثية في تحميله كل ما لا يمكن أن يحتمل من التفسيرات والتأويلات؛ وإلا فلا يمكن لعاقل أن يفسر النص القانوني - مثلاً - بأنه نص يحتمل أكثر من تفسير وأن لكل أحد تفسيره الخاص به لذلك النص؛ لأن هذا تفكير عبثي تمجُّه العقول لإدراكها بفداحة ضرره الدنيوي.
5 - إن هذه الطريقة في تأويل النصوص، تعني أن النص الشرعي ليس قائداً للمسيرة ولا هادياً للناس، بل هو عَقَبة كؤود في طريق بعض الناس؛ لذلك يسعون للتخلص منه بأي طريقة ممكنة: من التأويل والتحريف، فينتقل النص بهذا من كونه مصدر هداية وحَلٍّ إلى جَعْلِه مشكلة يُسعى للتخلص منها.
وكثيراً ما يشار في سياق هذه العبارة إلى أن النصوص حمَّالة أوجُه ومحتملة لأكثر من تفسير من غير توضيح لكيفية كون هذا النص - تحديداً - محتملاً لأكثر من معنى؟ وكيف يكون التفسير الذي يُذكََر متوافقاً مع النص؛ فحين يقرر أحدهم - مثلاً - أن العلاقة بين الجنسين تقوم على الاحترام والثقة ولا اعتبار فيها لمعنى الشهوة، يُذكَّرون دوماً بقول النبي #: «ما خلا رجل بامرأة؛ إلا كان الشيطان ثالثهما»؛ فيكتفي حينئذٍ بمقطوعة (النص المحتمِل) من دون أن يبين للناس: ما هو المعنى الذي يحتمله الحديث غير النهي عن الخلوة؟ وكيف يكون الحديث دالاً على أن الشهوة غير معتبَرة في العلاقة بين الرجل والمرأة؟
 إن الخلاف في تفسير النص وحُكْمه وعِلَّته مما لا يخفى على أحد، لكنَّ هذا يجب أن لا يقود إلى إذابة النص ليكون سائباً مهملاً يحتمل كل شيء ويقبل أي تفسير؛ فهذا شأن النصوص التي لا طائل من ورائها وهي إلى التلبيس والإرباك أقرب من أن تكون نوراً وهداية وبياناً ورحمة للعالمين.
 

أعلى