الحرب الصليبية الباردة

الحرب الصليبية الباردة

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمد الصادق الأمين، أما بعد:
فعلى الرغم من ارتباط الكنيسة الرومية الكاثوليكية الوثيق بالحروب الصليبية التي تُعد أُولى محاولات الغرب الرومي لاستعمار ديار المسلمين، إلا أن كثيراً ممن يكتب حول الحراك الكنسي في بلاد الإسلام يصور البابوية في صورة راهب يخفي في كُمِّه نسخة من إنجيله المحرَّف ليبلِّغها إلى البسطاء من الأطفال والعجائز، وينسى هؤلاء صورة ذلك الفارس الرومي الذي لبس لَأَمَتَه وشهر سيفه وقد خط على صدره صليباً؛ عِلماً بأن الباحثين في ميدان التنصير يكادون يُجمعون على أن التنصير في العالم العربي إنما لجأت إليه الكنيسة بعد فشل الحروب الصليبية في أن تحقق للبابوية ما كانت تصبو إليه من نفوذ.
إن الكنيسة الرومية الكاثوليكية تنهج سياسة فريدة يمكن تسميتها بـ: «الاستعمار الخفي» أو «الحرب الصليبية الباردة». تتلخص هذه السياسة في تغيير الخريطة السكانية عن طريق تشجيع أتباعها الكاثوليك على الهجرة إلى البلاد التي يراد زعزعة الولاء فيها، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما حدث في الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي بعد أن لجأ إليها البروتستانت المضطهدون في أوروبا؛ فكان هؤلاء البروتستانت يشكِّلون أغلبية ساحقة، لكن الأمر تغير بعد مشروع الاستعمار الخفي الذي خطط له الرهبان الكاثوليك في «بَفَلو» عام 1852م، والذي أعلنوا فيه:
«لقد عزمنا على الاستيلاء على الولايات المتحدة وحكمِها، لكننا لا نستطيع صنع ذلك دون العمل سراً وبكل حِكمة...وبسرية وصبر علينا أن نحشد أتباعنا من الروم الكاثوليك في المدن الكبرى بالولايات المتحدة... ولِندْعُ فقراءنا المؤمنين من الكاثوليك الإيرلنديين من كل أنحاء العالم»[1].
وفعلاً توالت على أمريكا أمواج من المهاجرين الإيرلنديين الكاثوليك حتى قال الرئيس الأمريكي «أبراهام لنكولن»: «إن القساوسة والراهبات والرهبان الذين يحُطُّون على شواطئنا كل يوم تحت ستار الدعوة إلى دينهم، ليسوا سوى رسلٍ للبابا ونابليون الثالث...»[2].
لقد تمكَّن الكاثوليك - تدريجياً عن طريق الهجرات المتتابعة من أوروبا وأمريكا اللاتينية - من قلب الخريطة الديمُغرافيَّة في أمريكا الشمالية بشكل مثير للقلق؛ ففي عام 1900م كانت نسبة البروتستانت في أمريكا الشمالية 46.1 % بينما كانت نسبة الكاثوليك لا تتجاوز 14.2 %، والآن تتباهى الكنيسة الرومية الكاثوليكية بأنها تفوق الكنائس البروتستانتية أتباعاً؛ فهم يشـكِّلون في أمريكا الشمالية 22.6 % بينما لا يتجاوز البروتستانت 19.0 %؛ بمعنى أن الولايات المتحدة التي تبلغ نسبة الكاثوليك فيها 19.6 % مقابل 18.6 % لصالح البروتستانت لم تَعُد بروتستانتية «إصلاحية» كما يُظَن، بل هي الآن دولة كاثوليكية بابويَّة[3].
وفي محاولة لتثبيت أقدام أتباع الكنيسة الكاثوليكية في العالم العربي أكد البابا – وَفْقاً لمقال نشره موقع «زينيت» الخاص بأخبار الكنيسة الكاثوليكية بعنوان: «البابا (يقول): النصارى ثروة للدول المسلمة» – على أن النصارى يُضفُون بُعداً خاصاً على الدول ذات الأقليات النصرانية في الشرق الأوسط، ويرجو أن يكون الشرق الأوسط «أرضاً للتعاون الأخوي والاحترام والسلام المتبادل بفضل إسهامات كل المؤمنين الذين يعيشون فيه».
لكن هذا الكلام المتزلِّف يناقض الوثيقة التي أصدرها «مجمع عقيدة الإيمان» الكنسي عام 2007م، والتي كُتب في ذيلها: «إنَّ الحَبر الأعظم «بندكت السادس عشر» قد أقرَّ هذه المذكِّرة العقائدية».
تقول هذه المذكرة: «إن الربَّ يسوع المسيح نفسَهُ الحاضرَ في كنيستِهِ، يسبِقُ عمل المُبشِّرين، يُرافقهُ ويتبعهُ؛ ليجعَلَ تَعبَهم يُثمِرُ؛ فما حدثَ في العصورِ الأولى يستمرُّ طيلةَ التاريخ... يُقالُ بأنه يكفي أن نساعدَ الناسَ على أن يكونوا أكثرَ إنسانيةً أو أكثرَ أمانةً لديانتهم، وأنه يكفي أن نبني جماعةً قادرةً على العملِ في سبيلِ العدلِ والحرية والسلام والتعاون... أمامَ هذه الإشكاليات، قد ارتأى مجمع عقيدة الإيمان ضرورةَ نشْرِ هذه المذكِّرة...»[4].
فالهدف من إقحام العنصر الكاثوليكي إذن ليس بناء «جماعة قادرة على العمل في سبيل العدل والحرية والسلام والتعاون». بل ما يصبو إليه البابا، هو أن يكون للكاثوليك ثقلٌ يسمح لهم بالمطالبة بكنائس ورهبانيات في بلاد الإسلام؛ علماً بأن سياسة الكنيسة الكاثوليكية إقصائية للمنافسين؛ حتى من النصارى؛ فهي لا تسمح برواج أي شكل من أشكال النصرانية يخالف ما عليه الكنيسة الأم إلا أن يكون ممهِّداً لها، والخلاف (الكاثوليكي - الأرثوذكسي) في مصر مثال حي على ذلك؛ فعندما بدأ الرهبان الكاثوليك يتوافدون إلى مصر لم يخضعوا لسلطان الطائفة الأرثوذكسية، بل حاولوا كسب نصارى الأقباط إلى الكاثوليكية وتمكنوا من إقامة «كنيسة الأقباط الكاثوليك».
إننا نجد تزايداً كاثوليكياً ملحوظاً ومقلقاً في الدول العربية على وجه الخصوص، يقابله - بالطبع - تراجع في نشاط الطوائف النصرانية الأخرى؛ فوَفْقاً لإحصاء عام 2005م يشكِّل النصارى الوافدون فــي قطـــر - مثــــلاً - 10 % من السكان، 6 % منهم يتبعون الطائفة الكاثوليكية. وفي الكويت تبلغ نسبتهم 13 %، 9 % منهم من الكاثوليك. أما في الإمــارات وعُمــان والبحرين فالكنـــائــس الكــاثـــوليكــية - على الإطلاق - أكثر الكنائس تابعاً. أما في السعودية (التي استعصت على المنصـرين) فيشـكــل النصـارى الوافـدون 3.5 %، 3 % منهم من الكاثوليك[5]!
وقد طالب البابا علناً بمنح ما يسميه حقوقاً لأتباع ملَّته من الكاثوليك في تلك البلاد. وفي مقابلة مع الأسقف بول هِندَر (المسؤول عن طائفة الكاثوليك في الجـزيرة العربية) صرح الأسـقف بأن «أهم ما نود الحصول عليه هو إمكانية الاجتماع في جوٍّ حرٍّ آمنين على شعائرنا وقُدَّاساتنا وأنشطتنا».[6]
وكما قال الكاتب الألماني المسلم «أحمد فون دِنفَر» في كتابه «التغلغل الصليبي في منطقة الخليج»: «ليس هناك أيُّ شك في أن هؤلاء العاملين أو المغتربين (في دول الخليج) يشكِّلون عدداً لا يستهان به من الطابور الخامس الذي يمكن استخدامه للتبشير النصراني بين المسلمين، وبشكل خاص في المناطق التي تكون مغلقة في وجه العمل التبشيري التقليدي المعروف عادة»[7].
إن الكنيسة الكاثوليكية تعيش مرحلة ذهبية من مشروع الحرب الصليبية الباردة في عهد «بندكت السادس عشر»؛ ففي مقالة نشرتها مجلة the Trumpet الأمريكية بعنوان: «الحملة التنصيرية الخاطفة لبندكت»[8] يبدأ الكاتب «رون فريزر» بقوله: «إن أي مراقب حاذق لـ «جوزيف راتسنجر» (بندكت السادس عشر) يدرك أجندته المتعمَدة والمحسوبة لإعادة عقارب الساعة أثناء فترته البابوية... (إنه) يريدها (أي: الكنيسة الكاثوليكية) أن تعود إلى مكانتها التي تمتعت بها يوم كانت في أوج قوَّتها»، ثم يقول: «لقد أنجز راتسنجر الكثير في أجندته بالتعاون مع البابا يوحنا بولس الثاني. إن حميمية العلاقة التي تمتع بها البابا البولندي والكاردينال البافاري تجلَّت في التزامهما المتدين بلقاءاتهما الأسبوعية السرية كل أسبوع، كما أن «راتسنجر» كان الكاردينال الوحيد الذي يُسمح له بمخاطبة البابا بلسانه الألماني. إن المنبر البابوي السياسي الذي بناه «راتسنجر» بالشراكة مع «فويتيوا» (يوحنا بولس الثاني) أسس قاعدة الانطلاق المثالية للأجندة البابوية الحالية من أجل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية التي تهدف إلى تنصير شرسٍ متسارع».
ثم يؤكد المقال على أن من دلائل استعجال البابا في تنفيذ أجندته الصليبية أنه أعلن حرباً ضد أربع جبهات في عامين فقط:
الجبهة الأولى: داخلية؛ فقد غيَّر عدداً من أعضاء فريقه؛ فهو يبني فريقاً في روما يعينه على أجندته.
الجبهة الثانية: - على حد تعبير «جورج فريدمان» (الرئيس التنفيذي لمؤسسة «ستراتفور») - «رميُه قنبلةً يدويةً» داخل الحلبة الإسلامية. ولكن كما يقول المقال؛ فإن «الجلبة التي حدثت من جراء كلمات البابا المنتقاة عمداً في هجومه على الإسلام أضحت تاريخاً غابراً؛ لقد كانت - كما أشار فريدمان - «نقلة رشيقة؛ لقد عزز قاعدته السياسية وربما مَنَح شرعية لردٍ أقوى على الجدل المعارض للكاثوليكية في العالم الإسلامي، وقد قام بهذا بتمويه بارع. إن خياراته مفتوحة». ا هـ.
يعلق «رون فريزر» بقوله: «هذه هي طريقة البابا؛ إنه يصل إلى حبل الوريد ولكن ببراعة تجعل خياراته قائمة؛ إنها سمةُ دِبلوماسيٍ محترف».
الجبهة الثالثة: العَلمانية الأوروبية؛ حيث استغل الذكرى الخمسين للاتحاد الأوروبي «ليهاجم قادة الاتحاد الأوروبي في عجزهم - عند إعلان المبادئ الأساسية - عن الاعتراف بالديانة التقليدية لأوروبا، والتي خرجت من روما»؛ فالبابا يدرك تماماً أن أوروبا التي كانت تزخر بأتباع البروتستانتية من اللوثريين والكالفنيين، أصبحت ذات أغلبية كاثوليكية بعد أن قامت الحربان العالميتان والحرب الباردة بدورها خير قيام.
إن تعداد أتباع الأديان الذي أُجري عام 2009م يشير إلى أن عدد البروتستانت في أوروبا أقل من 68 مليوناً،  بينما يربو عدد الكاثوليك على 275 مليوناً، وهو يفوق عدد الأرثوذكس في أوروبا بما في ذلك أوروبا الشرقية[9].
يستمر الكاتب قائلاً: «لقد خط البابا خطاً رابعاً على الرمل في حملته الصليبية العالمية أثناء رحلته الأخيرة إلى البرازيل». وهذه هي:
 الجبهة الرابعة: فقد حث أساقفة أمريكا اللاتينية على «التعبئة لحملة صليبية تنصيرية على مستوى القارة (أمريكا الجنوبية؛ «قارة الأمل» كما يدعوها)؛ لدحر الطوائف غير الكاثوليكية التي اخترقت أمريكا اللاتينية»؛ فالكنيسة الرومية الكاثوليكية لا تأذن للمنافس النصراني المخالف في بلد لها فيه مُكنةٌ؛ فضلاً عن أن تتعايش يوماً مَّا مع ألَدِّ أعدائها من المسلمين.
ثم يضيف الكاتب: «لكن أجندة البابا أوسع من أن تُحصَر في دعوة للمتخلفين من الكاثوليك أن يلحقوا بركابها: إنها ذات نبرة سياسية حتمية، وطبيعة عالمية... إن هذا البابا جدير بالمراقبة... إن هنا أحد البابوات العازمين على تنصير العالم مستخدماً الدين، والاقتصاد العالمي، والقضايا الاجتماعية، والسياسة الدولية، أو أي سلاح يختاره مهما كان؛ ما دام يلائم الزمان والمكان والرأي العام... إن «بندكت السادس عشر» لن يَقِرَّ له قرار حتى يحقق هدفه»[10].
إنها حرب صليبية باردة يوشك أن يحمى وطيسها بعد أن تَقلِب الكنيسةُ موازين القوى بتغيير الخريطة السكانية كما صنعت في «فيتنام» البوذية من قَبْل؛ إذ علق «فلِتشَر براوتي» على هذه الإستراتيجية الماكرة في «فيتنام» قائلاً: «لا شيء مما حدث أثناء الثلاثين عاماً من هذه الحرب 1945 - 1975م كان أكثر فتكاً من نقل الـ 1.100.000 كاثوليكي من الشمال إلى الجنوب في وقت لم تكن قد وُجدت فيه حكومة الجنوب تقريباً[11]».
أليس من حقنا إذن أن نقلق من تزايد الكاثوليك وكنائسهم في أراضي المسلمين باسم حرية الدين؟



[1] Chiniquy, Charles. Fifty Years in the Church of Rome, p. 668.
 
[2] Fifty Years in the Church of Rome, p. 699.
 
[3] Encyclopedia Britannica Almanac 2010, p. 467.
 
[4] http://198.62.75.1/www1/ofm/1god/documenti/dottrina-e-fede/nota-sul-evangelizzazione/index.htm
 
[5] Encyclopedia Britannica Almanac 2010.
 
[6] http://news.bbc.co.uk/2/hi/europe/7080327.stm
 
[7] أحمد فون دنفر. التغلغل الصليبي في منطقة الخليج. ترجمة: د. سالم المولى (سلسلة الدراسات الاستراتيجية، 1404هـ)، ص 13.
 
[8] http://www.thetrumpet.com/index.php?page=article&id=3215
 
[9]  Encyclopedia Britannica Almanac 2010, p. 508.
 
[10] http://www.thetrumpet.com/index.php?page=article&id=3215
 
[11]  Prouty, Fletcher. J.F.K.: The CIA, Vietnam, and the Plot to Assassinate John F. Kennedy (New York: Carol Publishing Group, 1992), pp. 66, 67.
 
 

أعلى