• - الموافق2024/04/28م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
القرن التركي.. الواقع والخيال

إن أقرب ما يمكن تصوُّره في ظل المعطيات الدولية والمحلية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، أن ما يطمح إليه الرئيس وفريقه الوزاري ومؤسساته المساندة لا يعدو أن يكون تطويرًا لمراحل حُكمه السابقة.


«إيمانًا بمبدأ (الجُهْد منا، والتوفيق من الله)؛ ننطلق بسم الله لبناء قرن تركيا اعتبارًا من اليوم».

اختتم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطاب تنصيبه بتلك العبارة الواضحة/الغامضة التي لا جدال حول معانيها «الدينية»، التي تعني البداية باسم الله -عز وجل-؛ استعانةً وتبركًا وإذعانًا لأوامره، وتعني التوكل عليه اعترافًا بأنَّ الجُهد من العباد، والتوفيق من الله -عز وجل-، وإنما المُبهَم فيها هو في مقصود «قرن تركيا» أو «القرن التركي»؛ ذاك الذي ما انفكَّ يتحدث عنه الرئيس التركي وحزبه (العدالة والتنمية) في حملاتهما الانتخابية، بتكرار وإصرار يَشِي بأن ثمة مشروعًا عملاقًا يضع تركيا على الخارطة العالمية على صعيد أو أصعدة مختلفة.

ولازم المصطلح «القرن التركي» يقضي بأن الحكومة التي أسماها أردوغان بحكومة القرن التركي أيضًا ستنطلق في اتجاهات غير مألوفة على السياسة التركية، خصوصًا على الصعيد الخارجي، لتصوغ في النهاية القوة التركية العالمية القادمة. لكن تُرَى هل سيكون الأمر سهلًا في ظل تحديات هائلة أمام صانع الاستراتيجية التركية، أبرزها التراجع الاقتصادي الذي تمثَّل في زيادة معدلات التضخم والبطالة بمستويات كبيرة، ولسنوات لم تَستطع خلالها الحكومة التركية حلّ المشكلة من جذورها، واحتاجت إلى الإبطاء من مسعاها الطموح لخفض «فوائد البنوك»؛ تنفيذًا لخطةٍ تقود إلى فكّ رقبة الاقتصاد من الخضوع لنظام الصيرفة العالمي من جهةٍ، وتشجيع المستثمرين على التنمية الحقيقية، والحد من نفوذ الأموال الساخنة ومافياتها من جهة أخرى.

كذلك، الضغوط الداخلية الهائلة من المعارضة بإعلامها واقتصادها النافذين لكَبْح خطط «الأسلمة» التي يُعتقد على نطاقٍ واسعٍ أن الحكومة عازمة على المضي قدمًا فيها بسرعة متوسطة أو بطيئة. فنحو 70% من الإعلام سواء أكان التقليدي أو الجديد، في يد المعارضة التركية بكل ما يُفضي ذلك من تأثير على الرأي العام التركي، ومدى قبوله للتغييرات القادمة. كذلك؛ فإن مجموعة التوسياد الاقتصادية العلمانية التي تهيمن على أكثر من ثلثي القطاع الخاص التركي هي كذلك ليست على وئام مع الرئيس وحكومته، ومشروع «القرن التركي» بما يحمله من تغيير للهوية السائدة، والعلاقات مع الاقتصاد العالمي.

حدود «القرن التركي»:

قد يعطي مشروع «القرن التركي» انطباعًا لدى بعض الناس بأن أردوغان وحكومته ماضيان نحو جعل تركيا قوة عظمى مهيمنة عالميًّا من الناحية العسكرية، وقد يذهب بهم إلى تصوُّر تركيا القرن القادم وقد زاحمت الصين والولايات المتحدة على قيادة الاقتصاد العالمي، أو قد يعتقد أنها ماضية نحو إقامة نظام يحتكم إلى الشريعة الإسلامية، أو أنها ستُوسِّع حدودها لتلامس أطرافًا بَلَغتها إبَّان السلطنة العثمانية... في الحقيقة يُوحي هذا المصطلح بتصوُّرات مثل هذه، وقد لا يكون أيٌّ منها أو بعضها بعيدًا عن ذهن صانع القرار في أنقرة، غير أنه ليس محصورًا بتلك الأعوام القادمة التي ربما سيختم بها الرئيس التركي حياته السياسية، وإنما قد يكون ذلك مشروعًا طويل الأمد، أو بالأحرى أحلامًا قد تتهيأ الظروف الدولية والإقليمية والمحلية لبعضها؛ إذ إن الاستراتيجيات طويلة الأمد ليست قدرًا محتومًا ينقاد إليه العالم مهما كان واضعوها متمكنين أو قادرين على وضع برامجها المتدرّجة على مدرج الإقلاع.

ولهذا؛ فإن أقرب ما يمكن تصوُّره في ظل المعطيات الدولية والمحلية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، أن ما يطمح إليه الرئيس وفريقه الوزاري ومؤسساته المساندة لا يعدو أن يكون تطويرًا لمراحل حُكمه السابقة.

لكن، مستفيدًا من جملة من المعطيات التي قد توفِّر للحكم التركي الحالي مساحة أوسع للتحرك، وتربة أكثر ملائمة لبناء يختلف كثيرًا عن البرامج التي سعى إليها أردوغان خلال سني حُكمه العشرينية، لعل أبرزها:

القوة العسكرية البارزة التي باتت تتمتّع بها القوات المسلحة التركية بعد أن أنجزت مراكزها التطويرية العسكرية، ومصانعها الحربية، مشاريع لتطوير بنيتها العسكرية للحدّ الذي جعلها تشهد طفرة غير مسبوقة في العالم؛ من حيث تسارع عمليات التطوير، وتزويدها ترسانتها العسكرية بجُملة من الأسلحة النوعية عالية التقنية والجودة. 

هذه القوة التي تسارع الإعلان عن تعاظمها في الشهور القليلة قبل الانتخابات، أرسلت رسائل قوية لعدة دول وقوى: للولايات المتحدة التي أحجمت عن تزويد تركيا بطائرات F-16 ، وأخرجتها من برنامج تطوير F-35، وراوغتها في الشمال السوري، ومنعتها من إكمال خطتها لإقامة منطقتها العازلة شرق الفرات. وللحلف الأطلسي لاعتبارها قد أضحت رقمًا لا يُستهان به في الحلف على صعيد السلاح الجوي والصاروخي بعد أن فرضت نفسها في سلاحي المشاة والمدرعات، وفي منطقة الخليج باعتبارها قوة وازنة يمكن الاعتماد عليها في ظل تغوُّل القوة الإيرانية وتمدُّدها في أربع دول عربية، واستعداد طهران للإعلان عن دخولها النادي النووي، وفي إفريقيا التي تطارد فيها روسيا فرنسا في «مستعمراتها»، وتستعد أنقرة لمدّ نفوذها في العمق الفرانكفوني الإفريقي، وفي البلقان حيث كانت أُولى خطوات العسكرية التركية بعد انتخاب أردوغان هي إرسال قوات غير رمزية من قوات حفظ السلام الأممية إلى كوسوفا، وفي الفضاء التركي التقليدي الذي طوَّرت فيه أنقرة علاقات «الدول التركية» ومؤسساتها المتنوعة، وباشرت بتنفيذ تدخل ناجح في أذربيجان عسكريًّا، وقيرغيزستان استخباراتيًّا (بإحباط انقلاب عناصر غولن في البلد التركي الحليف لتركيا).

استقرار الحكم التركي ربما للمرة الأولى بعد ربع قرن، اجتاز بعدها أردوغان حواجز عالية، متمثلة في نفوذ الجيش الذي كسره دستوريًّا وقانونيًّا وإجرائيًّا، والدولة العميقة التي وقعت بمعظمها في يد تنظيم فتح الله غولن قبل أن يتم توجيه ضربة كبيرة لها في أعقاب محاولة انقلاب 2016م، وإضعاف تنظيم PKK بدرجة كبيرة عسكريًّا واستخباراتيًّا وسياسيًّا، وإنزال هزيمة مُركَّبة بالمُعارَضة التركية بما أفقدها توازنها وتماسكها وقدرتها، وشرعياتها الحزبية إلى حد كبير؛ بعد أن اضطرها إلى خوض معركة بلا مبادئ تنازلت فيها عن مبادئ كل حزب لتُؤلِّف تحالفًا متناقضًا جدًّا في قِيَمه القومية والدينية والفكرية. وإشعار الخارج، لا سيما أمريكا وأوروبا، أنّ رهانهم على تلك المعارضة لم يَعُد مجديًا على الأقل لفترة زمنية قد يُفلح المتحكمون بها في إعادة ترتيبها وتعويمها مجددًا.

المعركة الفكرية الأخلاقية التي سرّعت المعارضة بنزقها في استجلابها قسرًا إلى الميدان الاجتماعي التركي؛ حيث دفعت بقضايا مثل «ثنائية الشريعة والعلمانية»، وضرورة الاختيار بينهما، مثلما نصت أدبيات المعارضة في أكثر من محفل انتخابي، والأسرة (بما يحوي ذلك من ضرورة فتح ملف الشذوذ والتحول الجنسي والنشوز... إلخ)، والمرأة، والتعليم، والحجاب والجلباب.. إلى غير ذلك مما أظهرته المعارضة للسطح وجلبته لميادين التراشق الفكري من جهة، وما حفَّز في جانب آخر القطاعات المحافظة إلى التنادي إلى دعوات «أسلمة» المجتمع التركي؛ إذ اصطفت قوى «محافظة شكليًّا» إلى جانب المعارضة، فلجأت العدالة والتنمية في أكبر معاركها المصيرية إلى التحالف مع قوى محافظة كحزب «الرفاه» و«هدى بار»، وكلاهما قد وضعا شروطهما على طاولة أردوغان، وقد بدا أنه قد قَبِلَ نوعًا من المواءمة التي ستُسرِّع من وتيرة مناقشة الموادّ الصادمة لتلك القوى في الدستور، ومنح فرصة تطوير مناهج التعليم لكي تَحُدّ من غلواء الكمالية، ومراجعة قوانين الأسرة والمجتمع بما ترتضيه تلك الأحزاب التي فرضت طبيعة المعركة وجودها، وعجَّل تطرُّف المعارضة في وجودها، بل في ازدياد شعبيتها بوتيرة كبيرة نسبيًّا؛ للحدّ الذي جعلها تُزاحم قوى كردية عتيدة كالشعوب الديمقراطي، وتزلزل عرشه الكردي في الانتخابات، وفي الحملات والدعوات الدينية في المناطق الكردية التي رعاها حزب «هدى بار» الإسلامي الكردي، وتصنع بريقًا خاصًّا لزعيم الرفاه فاتح أربكان، وحزبه الذي بات موضع احترام من كوادر في حزب العدالة والتنمية نفسه، ومنهم من غادره للرفاه مؤخرًا.

ملامح المرحلة:

قد يكون من المُبكِّر جدًّا استشراف أحوال قرن قادم، أو رسم ملامحه، لكنْ من الممكن وضع تصوُّر عن مرحلة أولى من استراتيجية ما، والتي يمكن أن يكون فيها أردوغان وفريقه الوزاري بمثابة المؤسِّسين لهذا المشروع، الواضعين لأُسُسه الرئيسة، ولبناته الأولى.

في الخلفية يبدو المشهد لم يتغير كثيرًا من زاوية الإرادة السياسية التي تحكم قادة أنقرة منذ سنين؛ فـ«إذا كان المؤرخون قد خلصوا خلال دراستهم للدولة العثمانية العريقة إلى أسباب جوهرية أدَّت إلى زوالها قبل مئة عام؛ فإنَّ استراتيجيي الدولة التركية اليوم قد وضعوا كل تلك الأسباب على طاولتهم، ورسموا سياسة جديدة تسير بهم من خط النهاية إلى البداية (...)، وعمدوا إلى كل أسباب انهيار تلك الدولة الممتدة لنحو ستة قرون ساعين إلى إدارة عقرب الزمن عكسيًّا، وبنوا سياستهم على عكس كل عوامل وأسباب انهيار الدولة العثمانية التي كسرت ظهرها، مستفيدين في تجربتهم من إفلاس القوى العلمانية في إدارة شؤون البلاد، وإخفاقها على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية»[1].

فأزمة الدولة العثمانية في أواخرها كانت تتشابه في مجملها مع البداية هنا: اقتصاد مترهل غارق في الديون لصندوق النقد الدولي والمؤسسات العالمية المهيمنة على اقتصادات الدول، وسيطرة شبه كاملة لمجموعة التوسياد الاقتصادية الخاصة التي لم يزل بقايا الدونمة تُحرّكها، دولة عميقة عسكرية لا تُيَمِّم وجهتها شطر أنقرة، وإنما عواصم دولية أخرى، يتقاسم النفوذ فيها تنظيم غولن الموالي لواشنطن، وبقايا الكماليين، استخبارات (قبل هاكان فيدان) تَحكمها الـCIA مثلما يقول فؤاد دوجو رئيس جهاز الاستخبارات سابقًا: «لم أكن وكيلًا للاستخبارات التركية بل كنت رئيسًا لفرع الـCIA في تركيا، فلو جاء ضابط من CİA، وطلب مني أن أوصله لسينوب فسأفعل»[2].

وكما يقول وزير الخارجية الأسبق في حكومة دميرال: «إن جهاز MIT وجهاز CIA مربوطان ببعضهما سُرِّيًّا، بل إن جهاز CIA يملك جهازًا داخل جهاز الاستخبارات التركي ويدفع رواتبه أيضًا». وكما يقول الاستخباراتي السابق محمد إيمور: «كنا ندفع لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، والبريطانية، والفرنسية، أموالًا طائلة شهريًّا مقابل الحصول على بعض المعلومات التي جمعوها وتخص تركيا»[3].. فساد مُستشرٍ، ومؤسسات هزيلة، إعلام بكامله لا يخدم الأمة التركية بل أعداءها. كل ذلك تبدَّل، وكان تحوُّله تدريجيًّا، ومضت مرحلة تلو أخرى إلى أن جاءت تلك التي يقدمها الرئيس التركي على أنها تباشير «القرن التركي».

لا معلومات كافية عن تلك المرحلة أيضًا، لكن يُستشفّ من تصريحات قادة تركيا، لا سيما الرئيس أردوغان، وتشكيلة الحكومة الاستثنائية تلك، وبرنامج حزب العدالة والتنمية الذي قدَّمه قبل الانتخابات، أن ملامح تلك المرحلة ترتسم فيما يلي:

أولًا: دستور جديد، أو معدل على الأقل، يُدير ظهره لبنودٍ فرَضها دستور وضعه الانقلابيون أوائل الثمانينيات يُعزِّز من الحريات، وسيادة القانون، ويُقلِّص من المبادئ الكمالية، ويُفْسِح المجال لإحداث إصلاحات قانونية واجتماعية، لا سيما فيما يتعلق بالأسرة.

ثانيًا: إنضاج استراتيجية اقتصادية تقوم على التخطيط لبناء اقتصاد إنتاجي يربط بين الاستثمار والتوظيف والرعاية الاجتماعية، يقول أردوغان في خطاب التنصيب: «سنواصل سياسة الاستقرار، والتخطيط لبناء اقتصاد إنتاجيّ يقوم على أساس الاستثمار وخلق فرص العمل. وسنُصمِّم إدارة مالية تتمتع بسُمعة دولية واقتصاد إنتاج موجَّه نحو الاستثمار والعمالة»، ويرتكز خارجيًّا على الدبلوماسية الاقتصادية التي ستمتد من محيط العالم التركي الذي أبرم اتفاقًا لإنشاء صندوق استثماري (بنك الاستثمار التركي) للدول التركية كأول ثمرات التعاون فيما بعد الانتخابات، والذي سيضيف لمنظمة «الدول التركية» بُعدًا جغرافيًّا اقتصاديًّا، إلى العمق الإفريقي الذي يسعى للانعتاق من ربقة «الاستعمار» الطويل الأجل، علاوةً على مشاريع عملاقة وفَّرتها علاقة جيدة تسارعت وتيرة توثيقها مع دول الخليج، تتعلق بالصناعة والنفط والطرق والموانئ.. إلخ، ومرورًا بعلاقات اقتصادية تصالحية مع أوروبا التي توترت العلاقة معها ومع الولايات المتحدة في أعقاب محاولة انقلاب 2016م وحتى انتخابات 2023م التي ترى أنقرة أن لأوروبا سياسة سلبية تجاهها وضلوعًا في محاولات تغيير نظامها الذي بدت أوروبا مؤخرًا مضطرة إلى التعامل معه إلى حين؛ برغم انزعاجها من عدة ملفات تخص إدارة أردوغان، أبرزها: مناورات الرئيس السياسية داخل حلف الأطلسي (لا سيما عرقلة ملف انضمام السويد للحلف)، العلاقة الدافئة مع روسيا (وإحلال الضباط الأوراسيين مكان الأطلسيين في الجيش التركي تدريجيًّا)، والنزعة الدينية التي ترفضها أوروبا في سياسة أردوغان، لكن من جهتها، ستستمر أنقرة في اختراق الجدار الأوروبي المناهض لها تدريجيًّا بتعزيز علاقاتها مع دول مثل المجر وبولندا وبريطانيا وبعض دول البلقان.  

ثالثًا: إدارة منظومة العلاقات الخارجية بأسلوب أكثر شمولًا مع تولّي هاكان فيدان (مستشار جهاز الميت/الاستخبارات التركية) لوزارة الخارجية، والذي يتوقع أن يدير الشؤون الخارجية بأسلوب يختلف نوعًا ما مع أسلوب سلفه مولود جاويش أوغلو؛ حيث يُتصور أنَّ السياسة الخارجية ستُدار من خلال منظومة متكاملة يشرف عليها الرئيس شخصيًّا، تباشر دورها من خلال وزارة الخارجية والاستخبارات والدفاع والطاقة ومنظمات القوى الناعمة الخيرية والمراكز الاستراتيجية المتخصصة، لا سيما تيكا واليتبا، على غرار ما تمارسه الدول الكبرى في حِقَب «الاستعمار» الممتدة حتى الآن، وإذ ذاك، يرجّح أن يتوسّع دور وأفرع وزارة الخارجية لتصبح أكثر تعبيرًا عن دولة ناهضة لها مصالح حيوية حول العالم، لكنها تختلف عن النمط الأوروبي في السعي الجاد لتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية على قاعدة «الكل رابح»، والدبلوماسية الإنسانية لا سيما في الكوارث وغيرها، وحل النزاعات، والتي تمنح تركيا دورًا كبيرًا على غرار ما أفادت به العالم مع إبرامها اتفاقية الحبوب بين موسكو وكييف برعاية تركية.

رابعًا: ترتيب البيت الداخلي التركي؛ من خلال الاهتمام المكثف بحل المشكلة الكردية بما يسحب البساط من تحت أقدام «حزب الشعوب الديمقراطي»، وإصلاح النظامين التعليمي والإعلامي بما يهيئ الشعب التركي لقبول قرارات استراتيجية كبرى، ويُغيّر من معادلة الـ50% الشعبية الحاكمة والمقيدة لقرارات أردوغان ونظامه الرئاسي، والعمل على إعادة المدن الكبرى لهيمنة الحزب في إدارة بلدياتها، وتعزيز الصبغة الدينية والعثمانية قانونيًّا وتربويًّا عبر المؤسسات التعليمية والدينية الرسمية التي يُتوقع أن يتوسّع نشاطها أكثر وتُمنح هامشًا أوسع للتحرُّك وسط الجماهير التركية.

خامسًا: ستحاول «حكومة القرن التركي» الإفادة من الضعف المتزايد لموسكو عسكريًّا، وبالتالي انكماش ظلالها تدريجيًّا على دول آسيا الوسطى، للمضي قدمًا في تأسيس «القرن التركي» على قواعد آسيا الوسطى؛ فتعزيز علاقة «الدول التركية» واستحالتها اتحادًا كالاتحاد الأوروبي، وقوة كالأطلسي، هو أول ملامح استراتيجية القرن التركي أو بالأحرى مرحلته الأولى؛ فهذا الفراغ الرخو سياسيًّا وديموغرافيًّا سيمنح أنقرة زخمًا تبني عليه في مسعاها لكسب أرض جديدة في رحلة الوصول لحَيِّز الدول الكبرى. بالكاد سيحقق لها أساسًا للانطلاق، لكنَّه كافٍ للانتقال إلى مرحلة أخرى هندية وعربية وإفريقية.

سادسًا: ستركز الحكومة التركية على فكّ بعض القيود المفروضة عليها، والتي يمتدّ بعضها لنحو قرن مضى، فهزيمة «السلطنة العثمانية» في الحرب العالمية الأولى، وتفكيك جيشها العثماني، واحتلال قلب دولتها لا سيما إسطنبول، واختراق جيشها وسلطتها مِن قِبَل أعدائها، قد أفضى إلى توقيع العثمانيين ثم الكماليين على اتفاقات إذعان كـ«سيفر» عام1920م، ثم تعديلها لـ«لوزان» عام 1923م اللتين قلَّصتا مساحة الدولة العثمانية لمعشار مساحتها، وأبقت مناطق حيوية للأتراك كولايتي الموصل وحلب اللتين تمثلان اقتصاديًّا واستراتيجيًّا ركني المثلث الذي يجمع العاصمة إسطنبول (آنذاك) معهما في وضع قانوني ملتبس نوعًا ما، وخصوصًا الموصل التي ظلت تمنح تركيا جزءًا من عوائدها النفطية حتى خمسينيات القرن الماضي كترضية عراقية/بريطانية!

بدا الأمر مستقرًّا حتى أعوام مضت حين كثر الحديث عن مرور مائة عام على اتفاقية «لوزان» المجحفة لتركيا، وتناولتها أقلام كثيرة خاضت في انتهاء الاتفاقية التي قيل: إنها تحوي بنودًا سرية تُقيّد التنقيب عن النفط، وتُقيِّد حركة القوات المسلحة التركية فيما تعتبره أنقرة وطنها، البري أو الأزرق مثلما تطلق على مجالها البحري الحيوي، وقيل إذ ذاك: إن تركيا ستشهد انطلاقة كبرى بعد انتهاء أمد الاتفاقية؛ إلا أنه بالاطلاع على المعلن من هذه الاتفاقية، ووفقًا لتصريحات رئيس البرلمان التركي السابق مصطفى شنطوب في يناير الماضي بأن «القول بأن مدة الاتفاقية تنتهي في 2023م، وبوجود مواد سرية فيها لا أساس له من الصحة». لكن مع ذلك؛ فإن أركان الحكم الحالي قد قلّلوا من قيمة الاتفاقية في الوقت الراهن وفي أبدية استمرارها، وبالعكس قد أزالوا الغبار عن «الميثاق الملي» (الوطني) الذي أعلنه مصطفى كمال قبل لوزان، والذي يضع خريطة لتركيا تضم مناطق واسعة من العراق وسوريا والبلقان[4]، ولقد كان أردوغان أقل «راديكالية» من مسؤولين في إدارته حين قال بعد شهور من إحباط الانقلاب ضده: «إخواننا في القرم والقوقاز وحلب والموصل، يمكن أن يكونوا خارج حدودنا الطبيعية، لكنهم ضمن حدودنا العاطفية»؛ إذ تحدث ياسين أقطاي نائب رئيس حزب العدالة والتنمية عن ضرورة إشراف تركيا على حلب، وصرّح وزير الداخلية التركي سليمان صويلو مرارًا أن «62% من اللاجئين السوريين في تركيا قد جاؤوا من أراضي حدود الميثاق الملّي»، وفي أول قرارات وزير الخارجية التركي الجديد هاكان فيدان، كانت مضاعفة رسوم المرور من المضائق التركية البحرية بما يَشِي بأن معاهدة مونترو الحاكمة للمضائق عام 1936م ربما وضعت هي الأخرى على طاولة البحث.

لا يُدْرَى على وجه الدقة ما إذا كان الحديث عن «الميثاق الملّي» مجرد مناورة، وعن إلغاء «لوزان» كذلك، لكن ما يُتصوَّر أن العالم كله مُقبل على متغيرات كبيرة قد لا تجعل ثوابت النظام الدولي دستورًا حاكمًا، ولا الحدود الدولية موضع تقديس حين تعترضها القوة، وربما الفوضى الدولية المتوقعة.

أخيرًا، يُتوقع أن يزداد دور تركيا في تبنّي قضايا العالم الإسلامي والأقليات، وسيكون لها دور معارض لتوجُّه لا أخلاقي عالميًّا لا سيما فيما يخص موضوع الشذوذ، وربما حاولت الخروج مع دول العالم الإسلامي بمواقف مُوحَّدة حيال مسائل تتعلق بالأسرة والقيم الاجتماعية الراسخة في المجتمعات المسلمة بتنسيق مع دول إسلامية لها حضورها الدولي.

خلاصة القول: إن الحديث عن «قرن تركي» ربما كان مُبكِّرًا، وقد تُصادمه العديد من العراقيل كمثل التي واجهت الانطلاقة الاقتصادية التركية خلال الأعوام الماضية للحد الذي كاد أن يفقد الرئيس التركي منصبه وبرنامجه الطموح، لكنْ في المقابل لا يمكن اعتبار المرحلة القادمة مجرد تطوُّر طبيعي للمراحل السابقة؛ لأنها بالفعل مدفوعة بجملة من المُحفِّزات والآليات والأدوات التي تعين صُنّاع القرار في أنقرة على أكثر من الطموح في وضع تركيا على الخارطة الدولية في مركز أكثر تقدمًا وتأثيرًا.

«أيديولوجيًّا»، لم يصادم أردوغان الكمالية مباشرةً، ويحرص على إبداء الاحترام لمصطفى كمال، وقد زار ضريحه في مراسم تنصيبه مؤخرًا، لكن ما قد يقود إليه الاعتقاد أن «القرن التركي» سيتجاوز الكمالية تدريجيًّا؛ فإذا كان مصطفى كمال رمزًا لـ«الحداثة» لدى كثير من الأتراك؛ فإن الحداثة بعد قرن لا يمكن أن تبقى كذلك، والمنطق يقود إلى أن الكمالية هي تجسيد للماضوية بعد مرور مائة عام؛ فلا بد من نسخة جديدة لـ«الحداثة» تستقبل بها تركيا قرنها القادم.. لربما ظل مصطفى كمال شخصية مُقدَّسة لدى كثير من الأتراك، لكنَّ إرثه حتى لدى أنصاره لا يصلح لأن يبقى قرنًا آخر من الزمان في عالم يتغير كل دقيقة!


 


[1] تركيا وفتح ثغرات المحيط الإقليمي والعالم/أمير سعيد - مجلة البيان العدد  332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.

[2] فؤاد خرّج أهم عناصر وضباط الاستخبارات التركية مثل: حرم عباس، امره تانر، نوري غوندوس، شينكال اتاسغون، بل إن بعض هذه الأسماء تولت لاحقًا رئاسة جهاز الاستخبارات، مثلما جاء في تلخيصات الباحثة إسلام كنجبلي على موقع تويتر.

[3] المصدر السابق.

[4] ينص أحد بنوده على أن «المناطق التي تسكنها غالبية تركية مسلمة في الموصل وحلب هي مناطق تركية الأم».


أعلى