• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
«فــانــتــازيــا» المحكمة الجنائية الدولية!

بدأت فكرة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بتراء منذ ولادتها، بل قبل إنشائها بعقود؛ فالمحكمة ذاتها قد أمعنت الأمم المتحدة النظر في فكرة إنشائها كمحكمة دائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية


حتى كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لا يكاد يصدِّق في قرارة نفسه أنَّ ما قام به من تحقيقات أفضت إلى إصداره قرارًا بتوقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (والمفوّضة الرئاسية لحقوق الطفل في روسيا ماريا بيلوفا)؛ بتهمة ارتكابهما جريمة حرب، ستجد طريقها للتنفيذ.

خان وهو يرغي ويزبد، قال: «لا يمكننا السماح بمعاملة الأطفال كما لو كانوا غنائم حرب. الحوادث التي حددها مكتبي تشمل ترحيل مئات الأطفال على الأقل (تراوحت تقديراتهم فيما بعد ما بين 13 ألفًا إلى 300 ألف طفل أوكراني) من دور الأيتام ودور رعاية الأطفال. ونزعم أن العديد من هؤلاء الأطفال قد تم تبنّيهم منذ ذلك الحين في الاتحاد الروسي.. كان الأطفال الأوكرانيون -في الوقت الذي جرت فيه عمليات الترحيل هذه- أشخاصًا محميين بموجب اتفاقية جنيف الرابعة».. هو يدرك أنه مجرد وسيلة ضغط تقوم بها واشنطن وبروكسل لإرغام الرئيس الروسي للسير في مسار الاستراتيجية الغربية؛ إما بالقبول بسلام مُذِلّ أو التورط في المزيد من الاستنزاف للآلة الروسية العسكرية.

الجميع يعلم أن ما يقوله خان -وهو أولهم- من أن بوتين سيتوجب إيقافه «إذا وطأت قدماه أيًّا من الدول الأعضاء في المحكمة البالغ عددها 123 دولة»، هو محض خيال أو مجرد تلويث سمعة لروسيا ورئيسها أكثر من أي شيء آخر؛ فالزعيم الروسي لن يكون أسوأ حظًّا من الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي صدرت ضده مذكرة اعتقال من الجنائية الدولية، وجاب من بَعدها العديد من البلدان متحدِّيًا هذا القرار، وحتى بعد فقدانه السلطة عجزت المحكمة عن توقيفه.

على أن تلويث السمعة هذا ربما لن يستثني المحكمة الجنائية الدولية ذاتها؛ فقرارها قد صار موضع سخرية واستهجان حتى من داخل المعسكر الغربي الذي يتحكم بقرار المحكمة «الدولية»؛ فمثلًا يعلق موقع «إنسايد أوفر» الإيطالي على القرار بالقول: إن «جغرافية الأطراف المشاركة في التحقيق تجعل محاكمة روسيا، وإن كانت تجريها هيئة دولية، شأنًا غربيًّا حصريًّا تقريبًا؛ وذلك لأن 40 دولة غربية من أصل 43 دولة قامت خلال السنة الأولى من التحقيقات بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية».

ومفردات الاستهجان كثيرة؛ فمنها عجز المحكمة عن تنفيذ ما قررته، إلا في حال وقوع انقلاب في روسيا يقود إلى تسليم النظام الجديد لبوتين، أو في حالة اجتراء دولة أخرى على توقيف بوتين وتسليمه، والتعرض لتهديد روسيا بتدميرها؛ مثلما قال نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري ميدفيديف من أن ذلك «سيكون بمثابة إعلان حرب»، و«تخيله» لإجراءات تشمل تدمير البوندستاغ الألماني، ومكتب المستشار إذا ما اعتُقِلَ بوتين في ألمانيا، أو تدمير مبنى المحكمة نفسه بـ«صاروخ أونيكس فرط صوتي لا يمكن صدّه». وكلا السبيلين مستبعَد تمامًا.

ومنها، أن المحكمة لا يمكنها إجراء محاكمات غيابية، وبالتالي يتعين عليها أن تنتظر طويلًا ريثما يتم القبض على بوتين مصادفة! 

ومنها، أن قرار المحكمة «المندفع» نوعًا ما، سيؤدي إلى مزيد من فرض العزلة على المحكمة ذاتها عبر توسيع دائرة الرفض الدولي لها، لا سيما مِن قِبَل حلفاء روسيا الآخذين في الازدياد، وممن يخشون قراراتها «غير المسؤولة والمنحازة» في تقديرهم.

ومنها، فقدان المحكمة لمصداقيتها حتى في موضوع الاتهام نفسه؛ فبوتين بلا ريب هو مجرم حرب عتيد، تورَّط في جرائم لا تكاد تُعدّ في القوقاز وسوريا وليبيا وبريطانيا وروسيا ذاتها، وضحاياها قد صاروا بعشرات الآلاف إن لم يكون بمئات الآلاف؛ إلا أن المحكمة اختارت الطريق السهل، فلاحقته بتهمة نقل أطفال من ملجأ في مدينة أوكرانية تتعرض لحرب إلى أخرى روسية، وتغيير جنسياتهم مع توفير الرعاية لهم في ملجأ روسي «دعائي»، وهذا الطريق السهل قد سلكته لسببٍ واحدٍ يتعلق باعتراف الروس بتلك الجريمة «الأنيقة» إلى حدٍّ ما قياسًا بجرائم الرجل الكبرى!

هذا النزق الذي استدعته «العدالة الغربية» النافذة داخل أروقة المحكمة الجنائية إليها، يقرِّب العالم حثيثًا من جحود النظام العالمي الحالي بكل إفرازاته، من منظمات صار «أعْدَلُها» عبئًا على العدالة، ومعيارًا للازدواجية، وعلامة على التبعية لعواصم الغرب الرئيسة بأكثر من تبعيتها لدول عظمى أخرى لا تقل عنها ظلمًا كالصين وروسيا من دون مائتي دولة مُهمَّشة في عالم فقد نظامه العادل منذ أن تنحَّى المسلمون عن قيادة العالم قبل ثلاثة قرون.

قبل تلك القرون، كانت قيادة نظام ما بعد فتح القسطنطينية 1453م يأفل، لحساب نظام جديد أوروبي تشكَّل على وقع معاهدة صلح وستفاليا 1648م، إلى أن غادر الأول تمامًا في أعقاب الحرب العالمية الأولى 1918م، لترافقه العدالة راحلة، مع تشكُّل نظام دولي غَشُوم يقوم على مبدئي السيادة والقوة، ويتجاهل «العدالة» التي لا يتذكرها إلا في العام 2002م مع تشكيل نظام المحكمة الجنائية التي وُلِدَتْ مشوّهة عاجزة كالأمم المتحدة، عوراء كمجلس الأمن. 

المحكمة الجنائية الدولية.. عوار التأسيس والقوانين والإجراءات:

بدأت فكرة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بتراء منذ ولادتها، بل قبل إنشائها بعقود؛ فالمحكمة ذاتها قد أمعنت الأمم المتحدة النظر في فكرة إنشائها كمحكمة دائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم لم تبدأ في التفاوض حول إنشائها إلا العام 1994م، إلى أن أفضت إلى اعتمام النظام الأساسي للمحكمة (نظام روما الأساسي) في العام 1998م، فكان أول عوار للمحكمة هو بطء إنشائها بعد عقود طويلة من التفكير! ثم الإنشاء على توقيت غربي واضح تلا تحول النظام العالمي باتجاه القطب الواحد.

ثم كان ثاني عوار هو في صدورها عن منظمة دولية أُسِّست على مبدأين لا يَمُتّان للعدالة بصلة:

أولهما: مبدأ السيادة التي تناقض العدالة فيما يخص سلطة نُظُم على شعوب مهيضة، وتمنح مرتكبي جرائم (وفقًا للتعريف الدولي) أن ينعموا بحصانة دائمة متى كانت لهم السلطة التي تحظى بسيادة الدولة التي تحترمها الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة، ومنها لاحقًا «المحكمة الجنائية الدولية».

ثانيهما: مبدأ القوة الذي تأسست عليه المنظمة الدولية، والذي يغلّ يدها عن ممارسة أي سلطة دولية على نظم أو أفراد أو مجموعات تتورط في ارتكاب جرائم (وفقًا للتعريف الدولي) إلا من خلال مجلس الأمن، الذي هو بدَوْره كيان انتقائي يخضع لسلطة الأقوياء، الذين يتمتعون بحق النقض (الفيتو) المانع من تحقيق أي عدالة لا يرضى عنها أيُّ عضو من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.

ثم كان العوار الثالث، هو ما يتعلق بشروط عقد المحكمة الجنائية الدولية للنظر في قضية ما، وطريقة تنفيذ الأحكام.

بالعودة لنظام المحكمة، نجد ما نصه أنه «يجوز للمحكمة الجنائية الدولية أن تمارس اختصاصها بإحالة من المدعي العام أو من دولة طرف»، لكن كلا الطريقين لا يُفْضي إلى شيء إلا حالما ترضى الدول التي تفرض سلطتها على العالم أن تفعل؛ فأما الإحالة من المدعي فيلزمها إحالة قضية من مجلس الأمن، طبقًا لما ينظّمه الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبوسع مجلس الأمن أن يُعرقل عمل المدعي لمدة سنة قابلة للتجديد!

وأما «من دولة طرف»؛ فيجب أولًا أن تكون مُوقِّعة على «نظام روما الأساسي»؛ فإن لم تكن فعلت فلا سلطة للمحكمة عليها أو أيّ من مواطنيها. ومعنى «طرف» أن تكون هي الدولة المجرم نظامها نفسه! أو الدولة التي يكون «المجرم» أحد رعاياها، أو دولة ارتُكبت الجريمة على أرضها (ربما هي الثغرة الوحيدة التي يمكن أن يتحقق من خلالها شيء من العدالة رغم تقييدها أيضًا بشرط عدم توقيع نظام الدولة المتهمة على النظام الأساسي).

ولعل من مفارقات النظام الأساسي للمحكمة الدولية، أنه حين يفتح المجال فسيحًا نظريًّا لمُلاحَقة العديد من الجرائم الدولية إلى الحد الذي يُطمع المظلومين والمضطهدين في «عدالتها»؛ فإنه يعيد إغلاق الباب أمام غالبية المظالم؛ فباستعراض المساحة الشاسعة للجرائم التي يمكن ملاحقة مرتكبيها عليها (نظريًّا)، نجدها تضم ما يلي:

1- جرائم الحرب: (بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي)، وتشمل:

- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري، أو أي شكل من أشكال العنف الجنسي.

- استخدام الأطفال دون سن 15 للمشاركة في الأعمال العدائية، على وجه الخصوص، وغير ذلك مما لم ينص عليه لكنه مشمول بالنظام الأساسي، مثل: إطالة مدة الأَسْر، شنّ هجمات بأسلحة محظورة، وكل ما من شأنه إحداث إصابات مفرطة ومعاناة لا ضرورة لها.

2- جرائم الإبادة الجماعية: (بموجب المادة 6)، والتي هي: أي فعل من الأفعال التالية يُرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، إهلاكًا كليًّا أو جزئيًّا:

- قتل أفراد الجماعة.

- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.

- إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يُقصَد بها إهلاكها الفعلي كليًّا أو جزئيًّا.

- فرض تدابير تهدف إلى حرمان الجماعة من الإنجاب.

- نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى. (وهذه تحديدًا التي استخدمت في أوكرانيا).

 

3- الجرائم ضد الإنسانية: (بموجب المادة 7)، وتتضمن أي فعل من الأفعال التالية متى ارتُكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجَّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين:

- القتل العمد.

- الإبادة.

- الاسترقاق.

- إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان.

- السجن أو الحرمان الشديد على أيّ نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القانون الدولي.

- التعذيب.

- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري، أو أي شكل من أشكال العنف الجنسي.

- اضطهاد أي جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس أو غير ذلك مما يجرّمه القانون الدولي.

- الاختفاء القسري للأشخاص.

- جريمة الفصل العنصري.

- الأفعال اللاإنسانية الأخرى التي تتسبب عمدًا في معاناة شديدة أو في أذًى خطيرٍ يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.

4- جريمة العدوان: (بموجب المادة 8 مكرر (1)): وهي التخطيط أو الإعداد أو البدء في.. أو تنفيذ أي عمل من أعمال العدوان الذي يُشكِّل انتهاكًا واضحًا لميثاق الأمم المتحدة.

كما يُلحظ؛ فإن هذه المواد بشموليتها تلك، ستُفْضِي تلقائيًّا إلى توجيه الاتهام إلى أنظمة عدد كبير جدًّا من دول العالم، قد يبلغ ربعها أو نصفها لو طبقت تلك التعريفات حرفيًّا، لكن ذلك لا يحصل مطلقًا على أرض الواقع! فلماذا إذن يتوسع «نظام روما الأساسي» فيما لا يمكنه تحقيقه؟!

الأمر ببساطة يعود إلى أن المحكمة الجنائية الدولية قد وفَّرت مادة واسعة جدًّا للاتهامات بحيث يمكن تفصيلها على الضعفاء متى أراد الأقوياء ذلك. فإن من شأن تطبيق كل هذه البنود، وملاحقة كل مجرم أن تُحقِّق قدرًا كبيرًا من «العدالة الأرضية» لا يرغب المتحكمون في مجلس الأمن من الدول العظمى في حصوله بحكم سياستهم «الاستعمارية» التي يحكمون بها العالم، فتحقيق هذا القدر من «العدالة» لا يُحبّذه هؤلاء، وإلا تضررت مصالحهم الاقتصادية والسياسية بشكل مباشر، ولهذا كانت القوانين فسيحة، والإجراءات شديدة الضيق والتعقيد، ولم يكن هذا محض مصادفة، وإنما كان متعمدًا لجعل هذه المحكمة أداة يمكن توجيهها ناحية من يتفق الكبار على تجريمه؛ فإذا ما اتفقوا لم تعجزهم القوانين الفضفاضة الجاهزة حينئذ لكل سيناريو.

وشدة التعقيد هذه، هي التي جعلت المحكمة لا توجِّه اتهاماتها للحكام سوى البشير والقذافي وغباغبو (الرئيس الإيفواري الأسبق)، على مدى عشرين عامًا، فأما الأول فتحصَّن بمنصبه الذي جنَّبه المحاكمة، ثم رفضت بلاده تسليمه؛ فتجنَّبها مرة أخرى، وأما الثاني فوافته المنية قبل ملاحقته (التي لم تحصل أصلًا)، وأما الثالث فحاز البراءة! ولم تُحاكم غيرهم إلا أفرادًا قلائل أُدينوا بارتكاب جرائم دولية.

ولهذا لم يَعُدْ مُستغربًا أن تمرّ جرائم كثيرة حول العالم، سواء أكانت في دول استبدادية قتلت من شعوبها الملايين، واضطهدت جماعات من كل الألوان، دينية وعِرقية، واقترفت كل الجرائم المدونة في النظام الأساسي، ثم لم تتطرّق إليها مجرد إشارة من المحكمة الدولية؛ لأن نظام المحكمة نفسه إما أنه يريد من المجرم أن يقدِّم نفسه لـ«العدالة»، أو أن يقدمه شريكه أو شركاؤه إليها. والمتأمل في الوقائع التاريخية يجد أن المحكمة لم تقدم شيئًا يُذْكَر في حروب كثيرة استُبِيحَت فيها المحرمات، ولم تُوقف أيّ عدوان على كثيرٍ من المستضعفين.

إن تحريك الخليفة المعتصم العباسي أو هارون الرشيد لجيش من أجل امرأة أو أكثر تَستغيث وتقع عليها جرائم تحاكي ما ورد في «نظام روما الأساسي»، واحدة تلو الأخرى، هو مَحْض عدوان؛ لأن هذه المرأة قد انتُهِكَت حقوقُها داخل دولة لا تعترف بالمحكمة، أو لم تطالب دولة عضو بالنظام الأساسي بحقها، أو لم يتحرك كل العالم متضامنًا من أجلها! إنها عدالة الجنائية الدولية الجائرة التي تُبرِّئ المعتدي وتدين صاحب النخوة. وتلك عدالة الإسلام الناجزة التي لا تعترف بقوة أو سيادة في طريقها لإقامة الوزن بالقسط.

 


أعلى