• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
اوروبا بين عقدتين

اوروبا بين عقدتين

   الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وبعد:
فإن الخوف من الإسلام ظاهرة قديمة في أوروبا، كانت بارزة عند بعض المنظمات والأحزاب اليمينية المتطرفة خصوصاً، ومع صعود هذه الأحزاب والمنظمات وتناميها تحوَّل الخوف (أو التخويف) من الإسلام إلى شعارٍ انتخابيٍّ، ثم ازداد انعكاس هذه الظاهرة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م على الخطاب الإعلامي؛ فقد شنَّ الإعلام حملةً محمومةً للتخويف من الإسلام والمسلمين، والهجوم على النبي # والقرآن الكريم، مستثمراً المناخ العالمي لـ (الحرب على الإرهاب).
ثم تنامت هذه الظاهرة حتى برزت في تصريحات بعض الساسة وقادة الرأي والفكر؛ فقد ذكر المستشار الألماني السابق: أنه لن يُسمَحَ للإسلام بتهديد الحضارة الأوروبية، واتهم بيرلسكوني (رئيس الوزراء الإيطالي السابق) دين الإسلام بأنه دين متخلِّف، وأخيراً وليس آخراً يأتي الرئيس الفرنسي ساركوزي ويشن هجوماً على الحجاب ثم النقاب، ويصفه بالظلامية وانتهاك حقوق المرأة، وعدَّه علامةَ استعبادٍ لها... ونظائر هذه التصريحات تتصاعد يوماً بعد يوم.
 وانتقل تسويق الخوف من الإسلام إلى رجل الشارع الأوروبي حين زَجَّ به السياسيون والإعلاميون ليشارك في التصويت حول بعض الظواهر الإسلامية؛ ليتشكل رأيٌ عامٌّ أوروبي متشنج يبذر الكراهية والعداء إزاء كلِّ ما هو إسلامي، حتى أصبحت المحجبة - كما تقول الكاتبة الألمانية (باربرا جون) -: (هي الهدف الأساسي للهجوم، لقد خُلِقَت منها صورة تقليدية للعدو؛ فالرسالة السياسية المنتشرة تقول بأن غطاء الرأس يعد إعلاناً عسكرياً للحرب على المجتمع)[1].
ثم بلغ الهجوم على الإسلام ذروته عند تحوُّله من الحملات الإعلامية والتصريحات السياسية إلى سَنِّ الأنظمة والتشريعات التي تستهدف المسلمين وتصادر حرياتهم.
إنها ليست حرباً على النقاب أو المآذن أو اللحم الحلال وحسب، بل هي حرب فكرية شاملة (أو كما تسميها صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية: حرباً ثقافية) تستهدف الوجود الحضاري والفكري للمسلمين في أوروبا؛ فالحرب على الحجاب هي المدخل الأوروبي للحرب على الهوية الإسلامية بكل مكوناتها العقدية والأخلاقية والثقافية، وصدق المولى - جل وعلا - إذ يقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: ٩٨].
إن هذه الحرب تدل دلالة جلية على غطرسة أوروبا، وعقليتها الاستعمارية، وعنصريتها المتأصلة من جهة، كما تدل على ضعفها وتهاوي بنيانها من جهة أخرى؛ وإلا فأيُّ تهديد ستحدثه مآذن سويسرا؟ وأيُّ خطر سينتج عن النقاب؟
لقد أدركت صحيفة الهيرالد تربيون أن مشكلة أوروبا في الحقيقة ليست في الحجاب؛ إذ ترى أن (الدافع الحقيقي وراء الاعتراض على ارتداء الحجاب، هو الاستياء من عدد المسلمين المتزايد في أوروبا).
لقد عاشت أوروبا بين عقدتين أصبحتا تشكلان العقلية الأوروبية في موقفها من الحجاب:
العقدة الأولى: عقدة الكبت الكَنَسي الصارم المخالف للفطرة السوية، التي انفجرت على هيئة فضائح أخلاقية، وشذوذٍ جنسي، واعتداءٍ مهين من بعض رجال الكنيسة على الأطفال، واغتصابٍ متوحش داخل ما يسمى بـ (دور العبادة).
والعقدة الأخرى: عقدة فرويد، التي أسقطت أوروبا في أسوأ مراحل العري والدعارة والشذوذ الجنسي، وتحطيم شتى قيم الأسرة والفضيلة؛ فاتسعت لكل رذيلة، وأعادت فتح سوق النخاسة الجنسي الذي تُعرَض فيه الفتيات كما تُعرَض الجواري والسلع الرخيصة، ثم ضاقت ذرعاً بقطعة قماش تعتز بها المسلمة؛ لأنها تعدُّها رمزاً لهويتها وعفافها!
ونحسب أن الواقع الأوروبي ينطبق عليه قول الحق - سبحانه وتعالى -: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: ٦٥].
إنَّ أوروبا اليوم تعيش فوق مستنقعٍ آسنٍ من الفساد الأخلاقي والتفكك الاجتماعي، وهو ما قد يؤدي إلى تزلزلها وانهيار أركانها؛ وإن مراجعةً يسيرةً لمعدلات الاغتصاب، والعنف الجنسي، وزنا المحارم، والحمل خارج إطار الزوجية، وزيادة عدد دُورِ البغاء وقنوات الدعارة والمواقع الإباحية... لَتَكشِف حقيقة الوجه الكالح للقارة العجوز. إن على عقلائها أن يتحدثوا عن استنقاذها وإعادة استصلاحها، بدلاً من تشدُّق ساستها بالحديث عن القيم[2].
لقـد أصبـح الوجـود الإسـلامي في أوروبا حقيقـة متجذرة لا يمكن تجاهلها، وهي تزداد عاماً بعد عام، وفَرْضُ الثقافة والقيم الأوروبية على المسلمين في حياتهم الشخصية مخالِف للأسس النظرية التي قامت عليها العَلمانية الأوروبية، كما أن محاصرة المسلمين وإقصاءهم ليس هو الخيار الصحيح لأوروبا؛ لأن هذا سيزيد من الاحتقان الفكري والجدل الاجتماعي.
وأخيراً:
إن من الملحوظات التي يَحسُن بنا الوقوف عندها ما يلي:
أولاً: إن اللافت للنظر أن بعض أهل الأهواء والشهوات من بني جلدتنا في عدد من بلداننا العربية والإسلامية راحوا يلهثون في الدفاع عن العَلمانية الإقصائية في أوروبا؛ بل يسوِّقون لقيمها وثقافتها، ويمارسون حرباً أشد ضراوة وشراسة على الحجاب والنقـاب في ديار الإسلام نفسـها، وفي أمثـال هـؤلاء قال الله - عز وجل -: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: ٧٤]، ونكتفي ها هنا بذكر مثالين اثنين على ذلك الغثاء؛ حيث نشرت إحداهن مقالة بعنوان: (في نقد النقاب)، قالت في مقدمته: (شكراً لساركوزي على مَنْعِه النقاب ووَصْفِه المعبِّر للنساء اللواتي يرتدين البرقع بأنهن سجينات خلف سياج، وشكراً للبرلمان الفرنسي في قرب تصديقه على قرارٍ بإدانة ارتداء البرقع والنقاب الإسلامي، ووَصْفِ أغطية الوجه هذه بأنها إساءة لقيم الأمة واحترامها، ولمبدأ المساواة، والشكر موصول للبرلمان البلجيكي الذي كان له السبق في المصادقة على قانون يحظر النقاب في الأماكن العامة...)[3].
بل أشد من هذا تصريح وزير الشؤون الدينية الجزائري الذي انتقد النقاب، ووصفه بأنه: (سلوك متطرف تماماً مثل سلوك النساء اللواتي يخرجن عاريات إلى الشارع)[4].
ثانياً: من المفيد الإشارة في هذه الافتتاحية إلى أن غير واحد من الفضلاء تحدث عن الخلاف الفقهي في مسألة النقاب والحجاب، وانتقد بحدَّة التشدد أو التنطع الذي يقع فيه بعض المسلمين في أوروبا، وحمَّلهم جزءاً كبيراً من المسؤولية!
ونحن نرى أن هذه مسألة اجتهادية يسع فيها الخلاف، واتسعت لها صدور أئمة الفقه قديماً وحديثاً، وليس من المصلحة أن تحوَّل القضية إلى معركة جانبية ننشغل فيها ببعضنا، كما أن معيار التشدد أو التساهل يجب أن يبنى على الدليل الشرعي، وليس على الذوق الاجتماعي أو الانطباع الشخصي.
ونؤكد هاهنا ثانية على أن الحرب على الحجاب في التعليم عام 2003م، ثم الحرب على النقاب في عام 2010م ليست إلا عناوين للحرب على الهوية الإسلامية.
ثالثاً: نرى أن هذه النازلة ربما تكون مَفْرَقَ طريق في علاقة أوروبا بالعالم الإسلامي، ومن المقترحات العملية التي نرى أن يتصدى لها بعض المبادرين السباقين إلى فعل الخيرات: تأسيس (هيئة عالمية للاعتزاز بالحجاب)، تكون مظلة مؤسَّسِية لترسيخ الهوية الإسلامية، ومنبراً للذبِّ عن المرأة المسلمة وقيمها العقدية والأخلاقية، وحقوقها القانونية.
إن الحجاب ليس عادة اجتماعية تقبل المساومة، كما أنه ليس تراثاً شعبياً يمكن التنازل عنه أو المزايدة عليه؛ بل هو عبادة يستسلم لها المسلمون بكل اعتزاز وافتخار. قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب: ٦٣].


[1] من مقال لها نشرته صحيفة «تاغستسايتونغ» بتاريخ: 27/ 2/ 2004م، ترجمة أحمد فاروق.
 
[2] من المفيد الرجوع إلى كتاب: (موت الغرب) تأليف: بات بوكانون، وكتاب: (السقوط من الداخل) تأليف: د. محمد بن سعود البشر.
 
[3]  صحيفة الاتحاد الإماراتية: 16/5/2010م.
 
[4]  صحيفة القدس العربي: 18/ 5/2010م.
 
 

 

أعلى