مواقف من السيرة النبوية في التعامل مع المخالفين

مواقف من السيرة النبوية في التعامل مع المخالفين

 

ثبتت في السيرة النبوية مواقف وحوارات مع المخالفين حول المحكمات، وكانت الدعوة الإسلامية تقيم الحجة وتوضح قواعد الإسلام وتلتزم الأخلاق في التعامل مع المخالفين، وعلى ذلك استمرت دعوة أهل السنة والجماعة وقام على ذلك عمل المجددين من علماء الإسلام. ولذا فإن من الواجب اعتماد طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تأسيس قواعد الإسلام والدعوة إليه، في التعامل مع المخالفين، والتي تشتمل على أمور منها:

- بيان الحق لهم كما أنزله الله حرصاً على هدايتهم.

- أن يكون البيان واضحاً لا لبس فيه، وهذا هو القول السديد والبليغ والمعروف.

- أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا هو القول اللين والميسور والحسن.

وذلك كله لا ينافي البراءة من مناهجهم الفاسدة، والحذر منهم، وتحذير المسلمين منهم، ولا ينافي كذلك تحميلهم المسؤولية عما يقع منهم من فساد لأنفسهم أو للخلق، كما لا ينافيه محاسبتهم بالطرق الشرعية المنضبطة بمقاصد الشرع، كما لا تضاد بين التعامل مع المخالفين بالحسنى في حالة السلم، فالواجب إقامة حقوقهم وحفظها في حالات السلم والحرب قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: ٨].

لقد مرت الدعوة الإسلامية في الجيل القدوة بحالات مماثلة كالتي تمر بالمسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، وتعامل الصحابة رضوان الله عليهم مع المخالفين من الكفار والمنافقين، وأهل الأهواء بفقه وعلم استفادوه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتلأت السنة العملية بالحوارات معهم رجاء هدايتهم ولتخفيف شرهم، ودرء فتنتهم.

ولتحفيز القارئ فإنني أشير هنا إلى ما ثبت في السيرة من استفادة تلك الطوائف من تلك الحوارات وسنورد نماذج لذلك على سبيل التفصيل فيما يأتي من المقالات ونذكر بعضها هنا إجمالاً.

ومن ذلك نجاح حواره صلى الله عليه وسلم مع كثير من زعماء المشركين في مكة والمدينة ونجاح حواره مع وفد النصارى الذين قدموا إلى المدينة، وميزة هذه الحوارات أنها مبنية على بيان المحكمات كما ورد ذلك في سبب نزول الآية في سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: ٧]، وأمّ الكتاب: أي معظمه وأصله وأساسه ومرجعه، وبه إقامة الحجة على المخالفين وقد نجح هذا الحوار مع النصارى كما ورد في سبب نزول هذه الآيات عند أهل التفسير والسير، كما ذكر ابن كثير في تفسيره[1]، ولما رجع النصارى إلى نجران أخذوا في الدخول في الإسلام مقتنعين به، معظمين الله سبحانه بالوحدانية وترك الإشراك به، ومعظمين أمره، ومتبعين رسوله، ومتحاكمين إلى شرعه وقد كانوا منحرفين في معنى التعظيم وإن زعموا أنهم من أهله، فقد قال وفد النصارى أسلمنا، وقالت قريش نحن على ملة إبراهيم ويزعمون أنهم يعظمون الله ويعظمون بيته، وهم يشركون معه غيره ولا يتبعون رسوله، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يبين التعظيم الصحيح الذي هو الأساس والحق المبين، وهو قوام الدين الصحيح وبه تقيم البشرية محكماته إذا أسلمت وآمنت، ولهذا لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى كما في سبب نزول هذه الآية قَالَ رَسُولُ الله للحبريْنِ: أسْلِمَا. قَالَا قَدْ أَسْلَمْنَا. قَالَ: إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فأسْلِما. قَالَا بَلَى، قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ. قَالَ: كَذَبْتُمَا، يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ دُعَاؤكُما لِلَّهِ وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ.

ونلاحظ هنا أهمية البيان الصحيح فإنه يُعدّل المسار من أول الطريق، ويحدد الموقف الصحيح، فبيان حقيقة الإسلام من حيث النظر إلى حقيقة التعظيم الصحيح هو الذي صحح المسار وحفظ محكمات الدين، ووجه وفد النصارى إلى الدين الصحيح، بدل أن يرددوا قولهم «أسلمنا»، ثم رددوا ذلك فقالوا «أسلمنا قبلك»، فكذبهم رسول الله وبين الحقيقة، وتعامل معهم تعاملاً صحيحاً وهو الذي نفعهم وحقق الدين الصحيح.

وكذلك الحوار مع أهل الأهواء وقد ثبتت محاورة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس مع الخوارج أصحاب الغلو في الفكر والتكفير والقتال، وذلك بأسلوب مقنع كشف به الشبه ونصح لهم بطريقة حوارية عن طريق السؤال والجواب، وهي طريقة تعليمية سهلة ومحببة للنفس اعتمدها كثير من أئمة الإسلام، منهم الإمام الشافعي في كتاب الرسالة، وهذه الإشارة إلى هذه الحوارات إنما هي على سبيل المثال، وإلا فإن الحوارات في كتب علماء المسلمين كثيرة قديمة وحديثة.

واقتداءً بهذا الأسلوب فإنني أورد هذه الحوارات على طريقة السؤال والجواب بأسلوب معاصر يناسب جميع المستويات في التعلم.

سأل سائل: كيف أتعلم السنة في الموقف من المخالفين وأنا لا أحيط بالنصوص الشرعية ولا أستطيع أن أتعلمها جميعاً وأشعر بنقص في المعلومات؟!

قلت: هذا سؤال جيد وبداية حسنة في طلبك العلم وشعورك بالحاجة الشديدة إليه والرغبة فيه فأقول لك:

نرجع معاً يا أخي إلى السنة العملية التطبيقية فإنها رسالة واضحة، وتعلمها سهل وميسور وهي تكشف عن تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين وأهل الأهواء.

قال لي صاحبي: اذكر لي مثالاً عملياً على ذلك.

قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الله على خلقه لم يعامل الكفار معاملة واحدة، بل عامل كلاً منهم بحسب حاله، فهناك المحارب، وهناك المسالم، وهناك المستأمن، وهناك الذمي، وحتى المحارب إذا زال عنه وصف المحاربة لم يقاتله.

قال: اعرض علي مثالاً يبين كيف تتغير صفة المحاربة.

قلت: كفار قريش كانوا محاربين، ثم وقع بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية، فوضع الرسول الحرب والقتال فأمَّنهم تلك المدة، فلما نقضوا العهد رجعت لهم صفة المحاربة.

قال لي صاحبي: هذه سنة تطبيقية سهل إدراكها، ولكن هل استفاد المسلمون منها؟

قلت: نعم.

أمِنَ في هذه الفترة المسلم والكافر، وفي حال الأمن انتشر الإسلام انتشاراً كبيراً، ودخل في الإسلام خلق كثير، وظهرت حجج الإسلام وبيناته، واستفاد المسلمون فائدة كبيرة في تقوية شوكتهم.

قال: هذه بركة من بركات السلم في الإسلام، ولكن لماذا عارضه بعض المسلمين؟

قلت: غلبت عاطفتهم على العلم، وحماسهم على الفقه، ولكنهم رجعوا إلى السنة بعدما علموها.

قال: إذن استفاد أهل الكفر من الأمن كما استفاد المسلمون؟

قلت: لا حرج، ومقصود الإسلام أن نستفيد نحن وهم وجميع المخالفين من الأمن الذي يعزز السلم والطمأنينة وحفظ الحقوق، وتبادل الحوار في مثل هذه الحالات، وهي فرصة لنا لبيان الحق للمخالفين غاية البيان من غير خوف من ظلم أو استبداد.

قال: الحمد لله حوارات الإسلام واضحة وسهلة لا تعقيد فيها، وهذا العرض للسيرة يناسب قدراتي وأنا لست طالب علم ولا مثقفاً، وأحتاج أن تصل لي المعلومة بأسهل الطرق، فأكثر لي من الأمثلة في السنة العملية ولا تمل من كثرة سؤالي رحمك الله.

قال: أرأيت لو استفاد الكفار من السلم بطريقة تضر بالمسلمين وتضيق عليهم، وتمنعهم من تحديد مصيرهم، والحفاظ على دينهم وبلادهم ومقدساتهم وأموالهم وأعراضهم؟

قلت: ينتقض عهدهم ويكونون هم السبب في نقضه والخروج عنه، لأن مقتضى السلم السلامة للفريقين، وهؤلاء لم يلتزموا به، لأنهم أهل غدر أما المسلمون فقد التزموا العهد ولم ينقضوه.

قال: أرأيت لو أمَّنَ الكفارُ المسلمين، ولم يتحقق للمسلمين الأمان على دينهم وبلادهم وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم؟

قلت: كالذي قبله سواءٌ بسواء.

قال: هذا فيه توازن تشريعي بديع.

قلت: نعم، يقوي أهل الإسلام ويكثر أنصاره وهذه مصالح عظيمة ويحقق لهم السلامة.

قال: ماذا لو كان السلم مدته أبدية أو مع اشتراط ما يسمى بالتطبيع في لغة العصر؟

قلت: هذا لا واقع له، لأن أهل الكفر قوم غدر، فينقطع السلم بسبب تعنتهم وإيذائهم للمسلمين، وإذا انتقض السلم بذلك، صارت الحجة عليهم، وأما «التطبيع» فمعناه أن تكون يد الكفار مطلقةً، وهذا يناقض مقاصد السلم ابتداءً.

قال: فإذا بقي منهم أحد على السلم ولم يدخل في إيذاء المسلمين ولا في صد المهتدين وخرج من جريمة الغدر والخيانة وصدق مع المسلمين ألا يجب الوفاء بعهده؟

قلت: بلى.

قال: من تعلم سنة رسول الله في التعامل مع المخالفين حصل له العلم والفقه ووضحت له الحجة فإن السنة بركة وعلم وهدى.

قلت: نعم.

قال: لماذا فرق الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المخالفين بين الكفار والمنافقين؟

قلت: هكذا أمره ربه عز وجل، حتى الكفار فرق بينهم فإنما قاتل صنفاً واحداً كما بيّنا وهم المعتدون المحاربون أما المسالمون فلم يقاتلهم.

قال: ولكن الله أمر بجهاد المنافقين في كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ...} [التوبة: 73]  الآية.

قلت: نعم وفقك الله، لكن هناك فروقاً بين جهاد الكفار وجهاد المنافقين.

قال: اذكر لي بعض الفروق.

قلت: الفرق الأول: أن الكفار صرحاء معلنون بالكفر وأما المنافقون متسترون بالإسلام مع أنهم سواء في الكفر، بل المنافقون في الدرك الأسفل من النار.

الفرق الثاني: أن الكفار في العادة محاربون خارج بلاد المسلمين، إلا إذا استولوا على بلاد المسلمين، وأما المنافقون فإنهم يعملون ضد الدين داخل بلاد المسلمين، وجملة ذلك: أن الكفار تتغير صفتهم من المحاربة والمسالمة بناءً على الحرب أو السلم، بخلاف المنافقين فإنه لا تتغير صفتهم إلا بالتوبة، ولهذا من فقه علمائنا أن جعلوا للكافر أوصافاً عدة منها كونه محارباً، أو مسالماً، أو معاهداً، أو مستأمناً، أو ذمياً.

في حين أنّ المنافق نفاقاً أكبر لا يدخل تحت هذا التقسيم، لأن الصفة الملازمة له أنه يحارب المسلمين في دينهم وشريعتهم ومحكماتهم، ولذلك قال الله عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: ٤]، ولا تزول عنهم هذه الصفة إلا بالتوبة والإسلام والصدق واتباع أهل الحق كما قال الله عنهم: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْـمُؤْمِنِينَ...} [النساء: 146].

قال: ولذلك؛ فإن المنافقين إذا لم يتوبوا كانوا أشد عذاباً من الكفار في الآخرة، لقوله تعالى: {إنَّ الْـمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].

قلت: تعليق مناسب، وإنما فرق الشارع الحكيم بين أحكام الدنيا والآخرة بالنسبة للمنافقين لأنهم أظهروا الإسلام فعاملناهم به، وأبطنوا الفساد والكفر والصد عن سبيل الله واستغلوا تسترهم بالإسلام وتلاعبوا بأهله فعاقبهم الله في الآخرة بعقوبة أشد من عقوبة الكفار، وأمر المسلمين بجهادهم في الدنيا بالكلمة سعياً في هدايتهم، ولكشف شبههم وتحذير المسلمين منهم، وكذلك السعي في درء فتنتهم وكشف مخططاتهم.

قال لي صاحبي: سؤال يراودني دائماً واصبر على تعليمي وإفهامي رحمك الله.. لماذا لم يكفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقاتلهم، مع شدة خطرهم على المسلمين فقد قال الله عز وجل عن المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: ٤]، وكانوا فعلاً يخططون ضد الإسلام ومحكماته؟

قلت: نعم يرحمك الله هكذا السنة يا ابن أخي.

قال: أنا أحب السنة وأحب أن أتعلمها، ابسط لي في البيان وفقك الله.

قلت: من فقه السياسة الشرعية في السنة النبوية أن المخالف يُعامَل بظاهره وبالحالة التي يعلنها.

قال: لو بينت لي بالمثال!

قلت: نعم، الكافر المحارب إذا أسلم قبِلنا إسلامه ولا نقول إنه يريد أن يتقي القتل كما قال أسامة رضي الله عنه في الحديث الصحيح[2].

وكذلك المنافق إذا حلف على الإسلام والعمل به واعتذر عن تصرفاته الكفرية قبلنا قوله وظاهره وإن لم يكن صادقاً في حقيقة الأمر، قال الله عنهم: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [التوبة: 74]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ظاهرهم وأيمانهم مع أنهم في الحقيقة كاذبون.

والمسلم كذلك الأصل فيه السلامة وحفظ حقوقه وحماية عرضه عملاً بالظاهر، ولا يجوز أن يُعامَل بضد ذلك إلا بموجب شرعي.

قال: وما الحكمة في ذلك؟

قلت: استقرار الأحكام، وإقامة العدل، وحفظ الحقوق للمسلم وغيره من المخالفين في الدين، وذلك باعتماد الظاهر، وترك اتباع الظنون، وتتبع النوايا، فلا يجوز أن نشق عن قلوب الناس، كما لا يجوز أن نؤاخذهم بما لم يثبت ظاهراً[3].

قال: كيف إذن ندرأ خطرهم ونحن نتركهم يعيثون في الأرض فساداً ونمنحهم حقوق الإسلام الظاهر؟

قلت: نتعامل معهم كما تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نكفرهم ولا نقاتلهم، ونكشف شبههم ونسعى لهدايتهم وفي الوقت نفسه ندرأ خطرهم ونحول بين المسلمين وشرهم ونبذل الوسع في إبطال مخططاتهم وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم.

قال: نِعمتُ السياسة الشرعية هذه، تبرأنا من أفعالهم، وأبطلنا مخططاتهم وجاهدناهم بالكلمة والبيان، ولم ننخدع بهم، وصبرنا عليهم وعاملناهم بالظاهر ما داموا مع المسلمين، وهذه السنة خالفها من جهلها، ولم يدرك مقاصد الشريعة في تحديد المنطلق الأول في دعوة المخالفين والتعامل معهم.

قلت: نعم، ولهذا وجب نشر العلم، وتعليم الناس أن الذي شرع السنة يعلم ما في خلافها، وهذه هي الدعوة الصحيحة التي تحدد معالم الطريق، وتنضبط بالعلم.

قال لي صاحبي: إذنْ حرَّم الله قتال المنافقين وتكفيرهم، ألا يُحّرم قتال المسلم وتكفيره، ويوجب التعامل معه بالظاهر، والله يتولى السرائر؟

قلت: بلى، وفقك الله وفتح الله عليك وزادك بصيرة وهدى.

قال: سبحان الله! كم كنا لا نعتبر ظاهر المسلم، ونكفره بأدنى شبهة، وآخرون يجمعون مع ذلك استحلال الدماء بالشبه!

قلت: هذا منكر، وهو مذهب أهل الغلو ومن لف لفهم وسلك طريقهم إلى يوم الدين.

قال: قد كنا نرى في المرء ظاهر الإسلام، ولم يأت بمكفر عندنا فيه من الله برهان ومع ذلك لا نتورع عن تكفيره!

قلت: هذا من الظلم والاعتداء في التكفير، وهو مخالفٌ لضوابط منهج أهل السنة والجماعة في التكفير.

قال: كنا نسمع من أهل الغلو الاستدلالات العامة من القرآن والسنة ونتأثر بها.

قلت: مثل ماذا؟

قال: مثل قوله تعالى: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 31قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32].

قلت: هذه الآية في ذكر التولي عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وترك التوحيد، أي إن تولوا عن التوحيد وليس في المخالفات السلوكية التي تدخل في المعاصي التي دون الكفر.

قال: ومثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 41].

قلت: كالتي قبلها، أي يعصي الله في التوحيد، ويقيم على الشرك، ويغير حدود الله سبحانه في تشريعه، وأما المعاصي دون الشرك، فالواجب العمل بقول الله تعالى: {إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِـمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].

قال: إذن المسلم قد يشابه الكافر في بعض فعله ولا يكفر!

قلت: نعم.

قال: اذكر لي دليلاً على ذلك!

قلت: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156]، ومع ذلك لم يكفرهم الشرع ما داموا لم يكذِّبوا صراحةً بالقَدَر.

قال: هذا ينقلنا إلى سؤال مشابه.

قلت: ما هو؟

قال: أهل الأهواء من القدرية عارضوا مذهب أهل السنة في القدر، فهل يكفرون؟

قلت: لا؛ لأنهم متأولون، ووقعوا في الشبه فلا تكفير إلا بإنكار القدر صراحة.

قال: وهل تجب البراءة من عقائدهم الفاسدة، وكشفها والتحذير منها؟

قلت: نعم هذا الواجب وإن كانوا متأولين وقد قام أهل السنة بهذا الواجب خير قيام.

قال: كم نحتاج إلى الحوار لإيصال المعلومة الصحيحة، ورفع الجهل والشبه؟

قلت: هذا هو الواجب على أهل السنة والعلم.

قال: أحسن الله إليك، من الاستدلالات العامة عندهم استدلالهم بحديث: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخمرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ...»[4]، فكيف نجيب عن ذلك؟

قلت: الجواب جواب أهل السنة والعلم.

قال: ما هو؟

قلت: لا يكون معه والحالة تلك؛ إيمان يردعه عن هذه الموبقات، وإن كان بقي معه إيمان لكنه ضعيف وأقله ولو ذرة من إيمان لكنها لا تقوى على مقاومة المعصية، وفي هذا الحديث إشارة إلى فضل الإيمان وأثره في دفع هذه المعاصي، ولهذا فإن العاصي الذي ضعف إيمانه واتبع شهواته لا يزال معه إيمان وإن قَلَّ يسلكه في عِداد المسلمين، وهذا ليس من شأن الكافر أو المنافق، وتكفيره ظلم وعدوان عليه وعلى الضوابط الشرعية في التكفير.

قال: هل هذا يشمل كل مسلم من حاكم ومحكوم؟

قلت: نعم.

قال: وَلِمَاذا لا تكون هذه الانحرافات والكبائر علامة على نفاق من وقع فيها؟

قلت: ليس هذا من عمل المنافقين.

قال: اذكر لي الفرق بينه وبين عمل المنافقين.

قلت: هذا يطول.

قال: ولكن لا تنجلي الشبهة إلا بذلك، فاذكر ذلك ولو طال، فإن البيان واجب.

قلت: نعم، وردت صفات القرآن للمنافقين مفصلة ليس منها ما ذكرنا من مجرد المعصية، بل هي زيادة على ذلك.

قال: اذكر لي صفات المنافقين النفاق الأكبر.

قلت: نعم ذكر القرآن للمنافقين صفات كبرى:

 ادعاء الإيمان كذباً وخداعاً لأهل الإسلام، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٨].

 التحاكم إلى غير شريعة الإسلام، اتباعاً لأهوائهم، وتحقيقاً لرغباتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا صلى الله عليه وسلم٠٦^صلى الله عليه وسلم) وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا 61 فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا 62 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا 63 وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُـمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا 64 فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 60 - 65]، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ 47 وَإذَا دُعُوا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ 48 وَإن يَكُن لَّهُمُ الْـحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ 49 أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [النور: 47 - 50].

 التشكيك في الوحي والسخرية من القرآن، قال تعالى: {وَإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ 124 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125].

 الطعن في حملة الوحي من الصحابة رضي الله عنهم والسخرية منهم، قال تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْـمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} [التوبة: 65]، وهذا مشترك بين المنافقين وأهل الأهواء.

 بغض المؤمنين ومعاداتهم وموالاة الكافرين وتقوية عزائمهم، قال تعالى: {بَشِّرِ الْـمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 138 الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا 139 وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللهَ جَامِعُ الْـمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 138- 140]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: ١١].

 يحاربون الإسلام عن طريق التسمي به والدخول فيه نفاقاً، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وسلم!٨!صلى الله عليه وسلم) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: ٨، ٩]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]، والمسارعة في الكفر هي ما يقوم به المنافقون من نصرة الكافرين على المسلمين.

 الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، قال تعالى: {الْـمُنَافِقُونَ وَالْـمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ الْـمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].

 محبة نشر الفاحشة بين المؤمنين، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النور: 19]، وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور: ١١].

 محاربة المؤمنين اقتصادياً، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْـمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: ٧].

 ليس لهم مبادئ، ولا يُهمهم إلا مصالحهم الدنيوية، ولا يتورعون عن إلحاق الضرر بغيرهم مهما كان الضرر، ويظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْـحَقِّ ظَنَّ الْـجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُـمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].

قال: هذه الصفات لا تنطبق على من اتبع الشهوات من المسلمين، وارتكب الكبائر، ونافق النفاق الأصغر، وإنما هي خاصة بالنفاق الأكبر.

قلت: نعم، وهذه هي أهم الفروق التي سألت عنها.

قال: فإذا انطبقت عليهم صفات المنافقين؟

قلت: يعاملون معاملة المنافقين، الذين لم يعملوا بالمحكمات وسعوا في تبديلها.

قال: اذكر بعض المحكمات التي حاول المنافقون إضعافها وتفريق المسلمين عنها؟

قلت: مِن هذه المحكمات: الإيمان بالوحي والنبوة، وتعظيم النصوص الشرعية، ومنها الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، ومنها محبة الصحابة ومعرفة حقهم، ومنها تعظيم الفضيلة والعفاف وما يتعلق بهما من أحكام، ومنها وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة.

قال: هذه المحكمات يقوم عليها المجتمع الإسلامي وهي تمثل منهج المسلمين ووحدتهم وقوتهم، والمنافقون في كل عصر يسعون إلى إضعافها من أجل إضعاف المسلمين وتفريقهم عن دينهم.

قلت: نعم.

قال: هل تستطيع أن تذكر لي تطبيقات من السيرة على ذلك؟

قلت: اشتملت السيرة على أحداث تكشف عن أفعال المنافقين ومخططاتهم وتدل على ما قلنا، ولكن عرضها هنا لا يتناسب مع حجم هذا المقال لأنه يحتاج إلى عشرات الصفحات، وراجع إن شئت بحثاً مفصلاً في بيان ذلك[5].

قال: اذكر لي كيف عامل الرسول صلى الله عليه وسلم المنافقين، وبيِّن؟

قلت:

أولاً: عاملهم بظاهرهم وسعى في هدايتهم.

 ثانياً: صبر عليهم، وكشف شبههم وحذر منهم ومن أفعالهم.

 ثالثاً: كشف خططهم، وأبطل مشاريعهم بحسب الإمكان.

 رابعاً: وجه جهود المجتمع ضدهم، وعزز قدرات المسلمين العلمية والعملية باعتبار أنه ولي أمرهم، ويسعى في مصلحتهم الدينية والدنيوية.

قال: إذن التعامل مع أصحاب الكبائر من المسلمين على أنهم يحبون الله ورسوله سواء أخطأوا أو تعمدوا وفسوقهم إنما هو بالعمل لا بالاعتقاد وتقام عليهم الحدود لأنها كفارات لهم وتطهير، بخلاف المنافقين فلا كفارة لهم ولا تطهير إلا  بالتوبة من النفاق وإخلاص الدين لله واتباع سبيل المؤمنين ونصرتهم.

قلت: نعم هكذا السنة يا ابن أخي.

قال: إذن يجب علينا أن ندرك الفرق بين عصاة المسلمين والمنافقين نفاقاً أكبر، ونتعامل مع المنافقين أيضاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون غلو ولا شطط.

قلت: هذا منهج الإسلام في الوسطية والاعتدال.

قال: السنة علم وهدى، والحوار طريقة تعليمية مهمة، وبناؤه على السنن العملية التطبيقية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بناءٌ على أساس ثابت مكين، وهذه طريقة سهلة أيضاً، تناسب جميع المستويات في التعليم.

قلت: أسأل الله لي ولك التوفيق والسداد.

قال: بقي أن تبين لي طريقة التعامل مع أهل الأهواء والبدع، وخاصة أنني سمعت كلامك في إحدى محاضراتك تقول: إن العناية بـ«المحكمات» من خصائص أهل السنة، فما الدليل على ذلك؟ وكيف نستفيد منها في الدعوة والتعليم ورفع الجهل وتحذير الناس من المتشابهات التي أضلت كثيراً منهم؟

قلت: نعم إن شاء الله تعالى نبينه في مقال حول موقف أهل الأهواء من المحكمات، وكذلك نبين خطر الدين المبدل، وآثاره، ونستمد العون من الله تعالى.


 


[1] تفسير ابن كثير، ت سلامة (2/ 49 -52).

وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي وفد نجران، أن النصارى حين قَدِمُوا فَجَعَلُوا يُحَاجّون فِي عِيسَى، وَيَزْعُمُونَ فِيهِ مَا يَزْعُمُونَ مِنَ الْبُنُوَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ رَدا عَلَيْهِمْ، كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار وَغَيْرُهُ.

فَلَمَّا كَلَّمَهُ الحَبْران قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أسْلِمَا» قَالَا قَدْ أَسْلَمْنَا. قَالَ: «إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فأسْلِما» قَالَا بَلَى، قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ. قَالَ: «كَذَبْتُمَا، يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ دُعَاؤكُما لله وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ». قَالَا فَمَنْ أَبَوْهُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمَا فَلَمْ يُجِبْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَاخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ، صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا.

ثُمَّ تَكَلَّم ابْنُ إِسْحَاقَ عَلَى التَّفْسِيرِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ مِنَ اللهِ، والفَصْلُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأُمِرَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَاعَنَتِهِمْ إنْ رَدّوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ؛ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، دَعْنَا نَنْظُرْ فِي أَمْرِنَا، ثُمَّ نَأْتِيكَ بِمَا نُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَ فِيمَا دَعَوْتَنَا إِلَيْهِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، ثُمَّ خَلَوْا بِالْعَاقِبِ، وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عبدَ الْمَسِيحِ، مَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ: وَاللهِ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عرَفْتم أَنَّ مُحَمَّدًا لنبيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بالفَصْل مِنْ خَبَر صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا لاعَن قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلَا نَبَتَ صَغيرهم، وَإِنَّهُ لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ، فوادعُوا الرجلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ.

فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَدْ رَأَيْنَا أَلَّا نُلَاعِنَكَ، وَنَتْرُكَكَ عَلَى دِينِكَ، ونرجعَ عَلَى دِينِنَا، وَلَكِنِ ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا، يَحْكُمُ بَيْنَنَا فِي أَشْيَاءَ اخْتَلَفْنَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِنَا، فَإِنَّكُمْ عِنْدَنَا رِضًا.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ائْتُونِي الْعَشِيَّة أَبْعَثُ مَعَكُمُ الْقَوِيَّ الْأَمِينَ»، فَكان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَطّ حُبّي إِيَّاهَا يَوْمَئِذٍ، رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ صَاحِبَهَا، فَرُحْتُ إِلَى الظُّهْرِ مُهَجِّراً، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظهرَ سلَّم، ثُمَّ نَظَر عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلْتُ أَتَطَاوَلُ لَهُ لِيَرَانِي، فَلَمْ يَزَلْ يَلْتَمِسُ بِبَصَرِهِ حَتَّى رَأَى أَبَا عُبَيدة بْنَ الجَرَّاح، فَدَعَاهُ: «اخْرُجْ مَعَهُمْ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ». قَالَ عُمَرُ: فَذَهَبَ بِهَا أَبُو عُبَيْدَةَ.

[2]  صحيح البخاري، بَابُ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ إِلَى الحُرُقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ ، حديث رقم 4269، قال حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو ظَبْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَى الحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ، فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ» قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ. وأخرجه مسلم، حديث رقم 159- بَابُ تَحْرِيمِ قَتْلِ الْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

[3] صحيح البخاري، بَاب: {فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} حديث رقم 25 - قال حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ المُسْنَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»، وأخرجه مسلم في صحيحه بَاب الْأَمْرِ بِقِتَالِ النَّاسِ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ حديث رقم 32.

[4] أخرجه البخاري في صحيحه باب النُهبة بغير إذن صاحبها وباب السارق حين يسرق وباب إثم الزناة، وأخرجه مسلم في صحيحه باب نقصان الإيمان بالمعاصي.

[5] موقف المنافقين من المحكمات وكيفية التعامل معهم في العهد النبوي، للكاتب، ط دار ابن الجوزي.

أعلى