نظام الأسباب في القرآن الكريم

نظام الأسباب في القرآن الكريم


معنى السبب في اللغة:

السبب: الحبل. والسبب: كل شيء يتوصل به إلى غيره. والسبب: القرابة والمودة. والسبب: الطريق، يقال: مالي إليكم سبب: أي طريق. والسبب في الشرع: ما يوصّل إلى شيء ولا يؤثر فيه، كالوقت للصلاة. وأسباب السماء: مراقيها أو نواحيها. ويقال: تقطعت بهم الأسباب: أعيتهم الحيل. وأسباب الحكم في القضاء: ما تسوقه المحكمة من أدلة واقعية وحجج قانونية لحكمها[1].

معاني السبب ومشتقاته في القرآن الكريم:

المعنــى الأول: العلـــم:

في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، أي: علماً[2].

المعنــى الثاني: الطريــق:

في قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]، أي: طريقاً ما بين المشرق والمغرب[3].

المعنــى الثالث: الحبـــل:

في قوله تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15]، أي: من يظن أن لن ينصر الله نبيّه ولا دينه ولا كتابه، فليمدد بحبل إلى سماء البيت وهو سقفه، فليختنق به، ثم لينظر هل يذهبن ذلك ما يجد في صدره من الغيظ على دين الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم  وكتابه العزيز[4].

المعنــى الرابع: أبواب السماء وطرقها:

في قوله تعالى: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص: 10]، أي: فليصعدوا في أبواب السماء وطرقها[5].

المعنــى الخامس: انقطاع حبال المودة بين الكافرين يوم القيامة:

في قوله تعالى: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، أي: لم يعد بينهم مودة يوم القيامة وتقطعت حبالها بينهم، وكانوا يتواصلون بها في الدنيا[6].

السنن الربانية قائمة على نظام الأسباب:

السبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة[7]. وكون الشيء سبباً هو كونه موصلاً إلى غيره، سواء كان هذا الشيء مادياً كالآلة، أو كان معنوياً كالعلم والقدرة.

وقد دل القرآن الكريم على أن كل شيء يحدث بسبب، سواء كان هذا الحدث يتعلق بالجماد أو بالنبات أو بالحيوان أو بالإنسان أو بالأجرام السماوية أو بالظواهر الكونية المختلفة. فقانون السببية، أي ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها قانون عام شامل لكل ما يحدث في الكون[8].

وفي هذا السياق قال ابن تيمية: «فليس في الدنيا والآخرة شيء بلا سبب. والله تعالى خالق الأسباب والمسببات»[9].

ومثال الأسباب المادية قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة: ٢٢]، فالفاء هاهنا سببية. ومثال الأسباب المعنوية قوله عز من قائل: {إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].

والقرآن الكريم كما يقول ابن قيم الجوزية مملوء بترتيب الأحكام الكونية والشرعية على الأسباب بطرق متنوعة؛ فيأتي بباء السببية تارة، كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْـخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، فالأعمال الصالحة هي سبب دخول الجنة، ويأتي بذكر الوصف المقتضي للحكم كقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢]، فالله تعالى اقتضت حكمته ربط الأسباب بالمسببات[10].

وفي قصة ذي القرنين يبرز السياق القرآني قيمة توظيف الأسباب للتمكين في الأرض، وقيمة استخدام العلم الصناعي في مصلحة البشرية على يد الخبير المسلم.

وقد اتصف ذو القرنين ببعض الصفات هيأته للنجاح والتفوق في عالم الأسباب، منها: الصبر، حيث أمضى ردحاً من الزمن متنقلاً بين مشرق الأرض ومغربها وشمالها لنشر التوحيد وإخضاع المشركين. والعدل: حيث بذل المعروف للمظلومين، مستخدماً علمه الذي علمه الله إياه وتمكينه في الأرض لمساعدة الناس ومواساتهم ومنع العدوان عنهم، بالضرب على أيدي المفسدين يأجوج ومأجوج، ومن على شاكلتهم من أمم الكفر. كما استخدم العلم والحكمة، فكان من المصلحين المؤهلين لإعمار الأرض وتنمية مواردها واستغلال طاقاتها المخبوءة كالحديد والنحاس والرصاص لمصلحة البشرية.

وهكذا مكّن الله لذي القرنين بصفات وأخلاق تميّز بها، فهيأ له سبحانه وتعالى أسباب النصر والنجاح. واعترف هو بأن ما يملكه من أسباب القوة والنصر والتأييد إنما هو بفضل الله تعالى، فقال للقوم الذين وجدهم في رحلته إلى الشمال بين السدين: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: ٥٩].

على أن الله جل ذكره لم يستثنِ المؤمنين من الأخذ بالأسباب، إذ شاء وفق حكمته العليا أن يكون التمكين وفق نظام سنني قائم على الأسباب. فقد أشار القرآن الكريم إلى تمكين الله تعالى لذي القرنين، وعرض مصدر هذا التمكين بعبارة موجزة جامعة فقال: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84].

والسبب هو الوسيلة التي يتحقق بها التمكين، والطريق الذي يوصل إليه هو الوسائل المادية سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو صناعية أو حربية أو حضارية عموماً[11].

وقد أعطى الله جل ثناؤه ذا القرنين أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع إلخ. وفسر ابن عباس رضي الله عنهما هذا السبب بأنه العلم[12].

ومن التنبيه بمكان أن القرآن الكريم أخبر بأن ذا القرنين استفاد مما منحه الله من وسائل وطرق وأسباب، وأنه أحسن استغلالها وإدارتها وتوظيفها والتعامل معها في قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]، أي: أخذ بالأسباب والوسائل لبلوغ غايته، مما دلّ على فطنته وذكائه، وأنه تعامل مع نظام الأسباب بنجاح.

وفي هذا دعوة صريحة للمسلمين كي يتأسوا بذي القرنين، ويكتشفوا نظام الأسباب وسنن الله تعالى في الحياة، ويحسنوا التعامل معها بإدراك آليات عملها والتعرف على مفاتيح أسرارها، ويوظفوها من ثم في بناء المعرفة والقوة، لجعل صرح الإسلام شامخاً، ونشر دعوته في الآفاق، بدل أن يتكلوا ويتركوا الأخذ بالأسباب، ويناطحوا السنن، ويهدروا جهدهم وطاقتهم ووقتهم، فأنّى يُمَكَّنُ لهم! كما قال الشاعر العربي:

كناطح صخرة يوماً ليفلقها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل[13].

 


 


[1] الرازي: مختار الصحاح، ص247. والزاوي: مختار القاموس، ص286. وإبراهيم مصطفى وآخرون: المعجم الوسيط، ص411-412.

[2] الطبري: جامع البيان، 7/5408.

[3] المصدر السابق، 7/5410.

[4] المصدر السابق، 7/5805.

[5] المصدر السابق، 8/6970.

[6] المصدر السابق، 1/820 (بتصرف).

[7] انظر تفسير الزمخشري، 2/497.

[8] عبد الكريم زيدان: السنن الإلهية، ص22-23.

[9] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 8/70.

[10] ابن القيم: مدارج السالكين، 3/477، 496، 501.

[11] صلاح الخالدي: مع قصص السابقين، 2/323.

[12] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 5/190.

[13] ديوان الأعشى، ص152.

أعلى