"رؤيا إبراهيم" عليه السلام (2-2)

"رؤيا إبراهيم" عليه السلام (2-2)


هنا أوان الحديث عن «الفَرَج» الذي كان ينتظره إبراهيم عليه السلام وفقاً لنص الرؤيا:

«قال الرب لإبراهيم: والآن احسب وافهم وانظر في الصورة ثانية!

[يقول إبراهيم:] فنظرت ورأيت رجلاً يخرج من الشِّمال ناحية الأمميين. وخرج رجال ونساء وأطفال من ناحية الأمميين، جموع غفيرة، وعبدته [أو بجلته]».

إنه هذا النص بحاجة إلى تأمل. فقد ذهب الكثرة الكاثرة من علماء أهل الكتاب إلى أنه وما بعده من إقحام النصارى وليس من أصل الرؤيا. يقول «روبرت هول» في دراسة له بعنوان: «الإقحامات النصرانية في رؤيا إبراهيم»: «منذ اكتشاف رؤيا إبراهيم ودارسوها يُخرِجون كل الفقرات 29: 3-11 باعتبارها تعليقاً نصرانياً» [1].

والسبب الداعي إلى فرضية الإقحام هذه ما ورد في وصف الرجل المخلِّص في الفقرة من أنه سيعبد من قبل كثير، وأنه سيؤذَى من قبل اليهود (الذين من ناحية اليمين). لكن المحك الذي يحيد عنه شراح الرؤيا هو أن الرجل المخلص يخرج من غير اليهود، من ناحية الشِّمال كما يصرح النص. لهذا علق «بوكس» على الفقرة بقوله: «واضح أن الرجل يراد به يسوع [عيسى عليه السلام]. لكن ظهوره (عن شمال الأمميين) مثير للاستغراب!»[2].

وأقول لـ«بوكس» ومن ذهب مذهبه: القول بأن المقصود من هذه الفقرة «يسوع المسيح» باطل، لأن عيسى عليه السلام لم يكن من الأمميين بل كان من بني إسرائيل باتفاق الملل. ولو أنكم حين استنكرتم خروجه من بين الأمميين بحثتم في غير بني إسرائيل لوجدتم، ولكان أقرب للإنصاف. وهأنذا أقول لكم من هو هذا الرجل الذي لم يمنعكم من ذكر اسمه إلا كتمان الحق، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْـحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]: إن هذا المخلص هو خاتم النبيين، وإمام المتقين، ورحمةُ الله للعالمين، محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهاكم الأدلة على ذلك:

أولاً: لما سأل إبراهيم ربه عن مدة ساعات البلاء وزمن الفجور، أجابه الرب: «اثنتي عشرة ساعة كتبت لزمن الفجور الحاضر أن يتسلط على الأمميين وعلى ذريتك»، وزمن الفجور كما بينا يبدأ من تسلط البابليين على بني إسرائيل وإحراق المسجد الأقصى (الهيكل الأول) عام 586 ق.م. والساعة في هذه الرؤيا تعبر عن 100 عام كما تفسره الرؤيا نفسها. فإن أردنا أن نعلم زمن ظهور هذا الرجل المخلص فما علينا إلا أن نحسب ألفاً ومئتي عام (1200 = اثنتا عشرة ساعة) من تاريخ بدء زمن الفجور؛ حينها سنجد أنفسنا تماماً عند عام 614م! والدنيا كلها تعلم أن بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم  كانت عام 610م أو 611م بعد أربعين عاماً من مولده المبارك (570م أو 571م)، وهذا الفرق اليسير جداً بين التاريخين مرده إلى أن الرؤيا توظف الساعات (القرون) لحساب الزمن مما تتعذر معه الدقة، ولا أحسب أحداً يماري في هذا إلا أن يكون مكابراً. وأين هذا من بعثة عيسى عليه السلام التي كانت قبل ذلك بستمئة عام!

ثانياً: يظهر من الأحداث التي تستعرضها الرؤيا التركيز على النكبات التي أصابت بني إسرائيل في أثناء زمن الفجور؛ فكان من المنطق أن يكون المخلص لهم قادراً على نصرتهم وإلا لم يكن «فَرَجاً» كما تصفه الرؤيا. وعيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الله آمنت به طائفة وكفرت طائفة، لكنه ما كان يملك من الشوكة ما يتصدى به لطغيان الروم وأعوانهم من اليهود الكفرة الذين حاولوا قتله فأنجاه الله منهم. وأما محمد صلى الله عليه وسلم  فزعزع الله به عروش الأكاسرة والقياصرة كما شهد بذلك أعداؤه قبل أتباعه. قال ابن كثير في تفسير قول تعالى: {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} [الصف: 14]: «أي: لما بلَّغ عيسى ابن مريم عليه السلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته، ورموه وأُمَّه بالعظائم، وهم اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وغلت فيه طائفة ممن اتبعه، حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فِرَقاً وشِيَعاً، فمن قائل منهم: إنه ابن الله؛ وقائل: إنه ثالث ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس؛ ومن قائل: إنه الله... وقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} [الصف: 14]  أي: نصرناهم على من عاداهم من فِرَق النصارى، {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] أي: عليهم، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم »[3].

فمحمد صلى الله عليه وسلم  هو الذي أنقذ الله به أهل الأرض من كفر الكافرين وبطش الجبارين حتى صار أهل الإيمان فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.

ثالثاً: عيسى عليه السلام - بزعم النصارى - لم يخلص البشر إلا باعتباره إلهاً أو ابناً لله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - فلا يناسب وصفه بالرجل كما في هذه الرؤيا.

رابعاً: لم يكن المسيح عليه السلام من «الأمميين» بل من بني إسرائيل. والرؤيا تصرح بخروج هذا الرجل من بين الأمميين بل تؤكده أكثر من مرة. فتقول في أوله: «يخرج عن شِمال الأمميين»، ثم تؤكده بوصفها له بـ«الفَرَج الذي يهبه الأمميون للشعب الذي يكون من نسلك»، فتحديد مخرج المخلِّص من الأمميين ليس من سهو الكاتب، بل هو مما يعضد ما ذهبنا إليه من تحديد زمانه، وهنا تحديد جهته.

أخيراً: لفظ «عبدوه» في النص لا يعني العبادة الحقيقية وإنما التبجيل وتعلق القلب. يدل على ذلك ترجمة «كوليك» النقدية التي نقلت النص هكذا: «ومن رأيتهم يخرجون من ناحية الشمال من الصورة وأولئك الذين يعبدونه، معناه: أن كثيراً من الأمميين سيعلقون به آمالهم»، فلا حجة فيه إذن على أن المراد عيسى عليه السلام.

بقي أمر مهم وهو أن عدداً من علماء أهل الكتاب أنكر أن يكون النص مقحماً من قبل النصارى. يقول أحد مترجمي الرؤيا إلى الإنجليزية «ريزارد روبنكيفيتس» في المقال الذي كتبه لـ«قاموس آنكور الكتابي» بعنوان «رؤيا إبراهيم»:

«إن رؤيا إبراهيم 29: 4-13 تبرز مشكلة من نوع خاص. فالمرء عادة يفترض أن الرجل (الذي يخرج من الشمال، ناحية الأمميين...) يمثل شخصية يسوع. لذا زعم بعض النقاد أن هذه الفقرة من إقحام النصارى، أو لعلها (نظرة يهودية ليسوع باعتباره رسولاً إلى الأمميين)» (EncJud 1:125-27). لكن التحليل الدقيق للرؤيا يدلل على أصالتها وأنها «لا تتعلق بنظرة النصارى ليسوع، بل تستدعي (الوحش) في رؤيا يوحنا 13: 1-4» (Hall 1988). الرجل الأممي يمكن أن يمثل الإمبراطور الرومي»[4].

وكلام «روبنكيفيتس» هذا تَعرف منه وتُنكر. فزعمه أن الرجل الأممي يُذكِّرنا بالوحش في رؤيا يوحنا أو أنه الإمبراطور الرومي بعيد كل البعد لأن الرؤيا صريحة في أن هذا الرجل سيكون مبعثه فرجاً لأهل الأرض لا مصدراً لاضطهادهم وقمعهم.

أما قوله بأصالة النص، فإن كان المقصود منه أن ينفي كون النص مقحماً بأكمله من قبل النصارى فهو كلام يؤيده فيه غيره من العلماء من أمثال «روبرت هول» وغيره، وهو كلام منطقي، إذ لا حجة لمن زعموا أنه مقحم إلا عجزهم عن تفسير النص بشكل يستقيم مع السياق. وما ذكرته أعلاه من مناسبته لحال محمد صلى الله عليه وسلم  ينفي هذا الزعم الذي لا يقوم على دليل. وأما التحريف الجزئي للنص فممكنٌ كما سأبينه بعد قليل.

«وبينما كنت أنظر إذ جاء كثرة من ناحية اليمين، فمنهم من شتمه، ومنهم من ضربه، لكن آخرين بجلوه».

هذا موقف اليهود من المبشر به في الرؤيا: فإن منهم من عاداه وهم الكثرة الكاثرة، ومنهم من بجله وأطاعه وهم قلة جداً.

من أمثلة الفريق الأول ما جاء في قصة صفية بنت حيي بن أخطب - رضي الله عنها - أنها قالت: كنتُ أَحَب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر؛ لم أَلقَهُما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلمَّا قدم رسول الله المدينة، ونزل قباءَ في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أَبي حييُّ ابن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلِّسين. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالَّين كسلانَين ساقطَين يمشيان الهُوَينى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم! قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته واللهِ ما بقيتُ[5].

بل تجاوز الأمر مجرد العداء إلى محاولة قتل المصطفى صلى الله عليه وسلم  كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ! فَجُمِعُوا لَهُ... ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمّاً؟ قَالُوا نَعَمْ. قَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ قَالُوا أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِباً نَسْتَرِيحُ وَإِنْ كُنْتَ نَبِيّاً لَمْ يَضُرَّكَ»[6].

وقد بقي أثر هذا السم إلى أن مات صلوات الله وسلامه عليه كما في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ»[7].

كما حاول بنو النضير من اليهود اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم  فأعلمه جبريل عليه السلام وكان ذلك سبباً في جلائهم.

أما شتمهم أياه صلى الله عليه وسلم  فمعلوم؛ من ذلك ما ذكره ابن إسحاق من أنه لما سار علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة ودنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم  بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث؛ قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً[8].

وقد كانوا يشتمونه في أشعارهم كما صنع كعب بن الأشرف، وكانوا إذا سلموا عليه قالوا: «السام عليكم»[9] والسام هو الموت، وإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا! ورَّوا فقالوا: «راعنا» من الرعونة،[10] وغيره كثير.

أما الفريق الثاني - أعني من صدّق برسالته صلى الله عليه وسلم  واتبعه - فخير مثال عليه قصة الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما رواها البخاري في صحيحه من حديث أنسٍ رَضِي الله عنه قال:

بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَقْدَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفاً جِبْرِيلُ، قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ؛ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ؛ وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ. فَجَاءَتْ الْيَهُودُ وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ قَالُوا: أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا وَأَخْبَرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ! قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَوَقَعُوا فِيهِ[11].

ومن مشاهير من أسلم من اليهود السموأل بن يحيى المغربي صاحب كتاب «بذل المجهود في إفحام اليهود». فهذا موقف اليهود من رسالة خاتم النبيين؛ منهم من عاداه وشتمه بل حاول قتله، وقليلون بجلوه واتبعوا النور الذي أنزل معه.

«وبينما كنت أرقب إذ رأيت عزازيل يقترب منه فقبله على وجهه ووقف خلفه».

تقسم «الموسوعة اليهودية» الشياطين إلى قسمين: «سِعيريم» و«شيديم»، ثم تُعرِّف الـ«سعيريم» بأنهم «مطابقون للجن الموجودين في غابات الجزيرة العربية وصحاريها ... وإلى هذه الفئة ينتمي عزازيل»[12]، يؤيد هذا ما رجحه «قاموس آنكور الكتابي» من أن «فهم عزازيل على أنه لقبٌ لشخصية شيطانية هو أكثر الآراء معقولية»[13]، وهناك الكثير ممن يرجح أنه إبليس ذاته[14].

وهذه الأفهام قريبة مما يعتقده المسلمون في إبليس، فهو من الجن كما قال تعالى: {وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْـجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: ٠٥] . أما كونه أصل الجن فقد وردت به آثار عن السلف؛ قال ابن جرير في تفسيره: «عن الحسن قال: ما كان إبليسُ من الملائكة طرفةَ عين قطّ، وإنه لأصل الجنّ، كما أن آدم أصل الإنس»[15]، وقد صحح إسناده ابن كثير في تفسيره[16].

فالحديث عن عزازيل إذن هو حديث عن الجن، وتقبيله للنبي الذي يخرج في آخر الزمان ووقوفه وراءه كناية عن قبول الجن لدعوته. ويكفي في بيان هذا قول الحق تبارك وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم : {وَإذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْـجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ 29 قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْـحَقِّ وَإلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ 30 يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ 31 وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف: 29 - 32].

كما فصل الله كلام الجن في سورة سميت باسمهم فقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْـجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا 1 يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا 2 وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن: ١ - ٣]  إلى أن قال جل شأنه على لسان الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن: ٤].

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ.» قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّاىَ، إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلاَ يَأْمُرُنِى إِلاَّ بِخَيْرٍ»[17].

وقد خلط علماء أهل الكتاب أيما خلط في تفسير مساندة عزازيل للنبي الموعود في هذه الفقرة، حتى إن بعضهم ظن أنه المسيح الدجال، أو دجال من الدجاجلة على الأقل. وسبب هذا عدم اعترافهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم  وإلا لما صعب عليهم فهم المراد.

ثم تشرع الرؤيا في تفسير ما رآه إبراهيم عليه السلام من شأن الرجل الموعود بعد سؤاله عن حاله:

«فقلت: أيها الأبدي! من الرَّجُل الذي شُتم وضُرب، وبجله الأمميون وقبَّله عزازيل؟ فأجاب قائلاً: اسمع يا إبراهيم! إن الرجل الذي رأيته يُشتم ويضرب لكن يبجله الكثير هو الفَرَج الذي يهبه الأمميون للشعب الذي يكون من نسلك، في الأيام الأخيرة، في الساعة الثانية عشرة من زمن الفجور».

فهو النبي الذي جعله الله رحمة للخلق، وكان أكثر أتباعه من غير اليهود فإنه لم يسلم منهم إلا القليل؛ وكان مولده في السنة السادسة والخمسين بعد المئة والألف (1156) من تاريخ السبي البابلي، بداية زمن الفجور؛ وكان مبعثه في السنة السادسة والتسعين بعد المئة والألف (1196) من ذلك التاريخ. فميلاده ومبعثه في الساعة الثانية عشرة (القرن الثاني عشر) من زمن الفجور؛ فهل بقي لأحد أن يرتاب في أنه سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم ؟

لكن الرؤيا تضيف نصاً مريباً فتقول:

«ولكن في الساعة الثانية عشرة من زماني الأخير، سأقيم هذا الرجل من جيلك، الذي رأيته يخرج من شعبي، وكل من اتبع سيصبح مثل هذا الرجل، وأما الذين جعلتهم لنفسي فسيلتحقون بالآخرين، أولئك الذين يريدون أن يغيروا ما بأنفسهم».

إن كان ثمة فقرة في هذه البشارة لم تسلم من التحريف فهي هذه. دليل ذلك أنه بعد التصريح الجلي بأن المخلص يكون من الأمميين، وأنه هبة الأمميين لغيرهم، عاد ليقول إنه «يخرج من شعبي» يعني اليهود أو بني إسرائيل. وهذا تعارض ظاهر. لهذا علق «ريزارد روبنكيفيتس» على الفقرة بقوله (نقلاً عن «هول»): «لا بد وأن تؤخذ باعتبارها تفسيراً مقحماً من أحد النصارى»[18]. ولا شك أنها محاولة لصرف البشارة عن محمد صلى الله عليه وسلم  العربي إلى عيسى عليه السلام الذي هو من بني إسرائيل.

وأما أولئك الذين يظهرون من ناحية الشمال من الصورة، فمعناه: أن كثيراً من الأمم يعلقون رجاءهم به. أما الذين رأيتهم من ذريتك على يمين الصورة ممن شتموه وضربوه، فكثيرون يتأذون به، لكن البعض سيبجله. وسيمتحن من ذريتك أولئك الذين بجلوه في الساعة الثانية عشرة في المنتهى طمعاً في أن يقصر زمن الفجور.

ولا شك أن اليهود تأذوا عندما تيقنوا أن نبي آخر الزمان من العرب الأمميين وليس منهم. وقد سبق الحديث عن شأنهم معه صلى الله عليه وسلم .


 


 [1] Robert G. Hall. “TheChristian Interpolation in the Apocalypse of Abraham,” in Journal of Biblical Literature (The Society of Biblical Literature, March, 1988), vol. 107, No. 1, pp. 107-110.

 [2] G. H. Box. The Apocalypse of Abraham, p 78.

[3] تفسير ابن كثير، 8/ 86.

[4]  The Anchor Bible Dictionary, vol. I, p. 42.

[5] سيرة ابن هشام، 1/ 518.

[6] صحيح البخاري، كتاب الجزية، حديث رقم 2998.

[7] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم  ووفاته.

[8] سيرة ابن هشام 2/234.

[9] صحيح البخاري، كتاب الأدب، حديث رقم 5683؛ وصحيح مسلم، كتاب السلام، حديث رقم 2164.

[10] تفسير ابن كثير، 1/ 325.

[11] صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، حديث رقم 3151.

[12]   Jewish Encyclopedia (1903), “Demonology”, vol. IV, p. 515.

[13]   The Anchor Bible Dictionary, “Azazel vol. I, p. 536.

[14] انظر على سبيل المثال:

Louis Herbert Gray. Mythology of All Races, 1931, p. 532.

Rosemary Guiley. Encyclopedia of Angels, 2004, p. 61.

Rabbi Leo Jung. Fallen Angels in Jewish, Christian and Mohammedan Literature, 2003, p. 61.

[15] تفسير الطبري، 1/ 295.

[16] تفسير ابن كثير، 1/ 187.

[17] صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث رقم 2814.

[18]   The Anchor Bible Dictionary, vol. I, p. 42.

 

 

أعلى