بستان الألفاظ الوحيدة في القرآن

يتجلَّى إعجازُ الألفاظ الوحيدة عندما نتأمَّل في روعة السياق الذي أتت فيه؛ إذ تتكشَّف ألوان الإعجاز اللغوي والصوتي والنفسي والتصويري


سبحانَ الذي أحكَمَ القرآنَ وفصَّله، فجاءت كلُّ كلمةٍ فيه وَفْق تدبيرٍ حكيم، وفي موضعٍ مُحدَّد لا تتقدَّم عنه ولا تتأخَّر، ولا يمكن أن تسدَّ أيُّ كلمةٍ أخرى مكانهـا، ولا أن تُعطيَ أبعادها الجماليَّة والإعجازيَّة التي كانت تُعطيها تلك الكلمة.

 نعم! فما مِن لفظٍ من ألفاظ القرآن التي بلغ عددها (77.439) كلمة، إلاَّ وقد جاء بميزانٍ دقيقٍ ونظامٍ مُحْكَمٍ على مستوى الآية والموضوع والسورة، ومِن ثَمَّ القرآن كله. وإنَّ ألفاظهُ مُتميِّزة مِن جنسها؛ بحيث إذا وجَدْتَ تركيباً قرآنياً في نَسَقِ الكلام دلَّ على نفسه، وأرشدتْ محاسنه إليه لِـمَا لِهُ مِن صفة إلهيَّة.

هذا؛ والمتأمِّل في القرآن المجيد يلاحظ أنَّ هناك ألفاظاً لم ترِد إلاَّ مرةً واحدة، وليس فيهِ غيرها مِن مادتها، وما مِن لفظٍ منها يمكن أن يقوم مقامَه غيرُه، أوْ يؤدي مُراده!

وقد تجلَّتْ هذه الألفاظُ الوحيدة منذ بداية نزول القرآن في (سُورة العَلَق)؛ إذْ نجد ألفاظاً لم تتكرَّر أبداً، مثل: {الأَكْرَمُ} - {الرُّجْعَى} - {لَنَسْفَعاً} - {الزَّبَانِيَةَ} وغيرها.

وقد انتظمتْ هذه (الألفاظ الوحيدة) المصحفَ كلَّه حسب ترتيبه، بدءاً من (سُورة الفاتحة) حتى نصل إلى (سُورة النَّاس).

فما هو وجه الإعجاز في ورود تلك الألفاظ الوحيدة في القرآن، والتي بلَغتْ (1620 كلمة) لم تتكرر أبداً، بلْ ذُكِرت مرةً واحدة فقط؟

لقد امتازت هذه (الألفاظ الوحيدة) بالتعبير عن قضايا ضخمة بأوسع مدلول وأدقِّ تعبير، ما يستحيل على البشر أن يُعبِّروا فيهِ عن مثل هذه الأغراض إلاَّ بِجُملٍ وعباراتٍ كثيرة!

وقد مثّلَتْ هذه (الألفاظ) ضَرباً مِن الإيقاع الطريف الأخَّاذ، والتلوين الصـوتي الـمُبهـِر؛ الممـزوج بإيقاعات نظْميَّة مشحونة بنَغَمٍ وهديرٍ أمتعَ للقلوب والآذان، وأقوى تأثيراً على العقول والوجدان!

وقد «بلغت الجذور الثلاثية - وهي الشائعة في القرآن - التي وردت مرة واحدة، والألفاظ المشتقَّة منها (365 جذراً) مِن بين مجمـوع جذور القرآن الثلاثية البالغة (1620 جذراً)؛ ومعنى ذلك: أنَّ نسبة الجذور التي وردت مرة واحدة 23% من مجموع جذور القرآن الثلاثية، وأنَّ مجموع ورود هذه الألفاظ (50816) يُمثِّل 98% من جميع ألفاظ القرآن (51884) وهي تُمثِّل قيمة بلاغية كبرى، وهي قمة الإعجاز؛ لا سيما أنها وردت فيما يقرب من ربع أصول اللغة المستخدمة»[1].

يتجلَّى إعجازُ الألفاظ الوحيدة عندما نتأمَّل في روعة السياق الذي أتت فيه؛ إذ تتكشَّف ألوان الإعجاز اللغوي والصوتي والنفسي والتصويري؛ الذي تُحدِثهُ هذه الألفاظ وتُحقِّقه بمجرد سماعها؛ فإذا نظرنا إلى ألفاظ، مثل: ({كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ} - {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} - {بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} - {بِالْـجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} - {يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} - {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} - {هَيْتَ لَكَ} - {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} - {الصَّافِنَاتُ الْـجِيَادُ} - {طَيْراً أَبَابِيلَ} - {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} - {مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} - {قَدَمَ صِدْقٍ} - {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} - {حَصْحَصَ الْـحَقُّ} - {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً}). نجد لهذهِ الألفاظ رنيناً وجَمالاً أخَّاذاً، لا نجده في مرادفاتها الأخرى التي تماثلها المعنَى والدلالة! كما أنها تُولِّد إيقاعاً يبعث في النفس تصويراً للمعنى، يحتوي على عناصر كثيرة الدلالة، وتفتح الأذهانَ على حقيقةٍ مكنونةٍ في السياق القرآني!

فمثلاً: لفظ {كَصَيِّبٍ} الذي ورد في قولهِ سبحانه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19]، قد أفاضَ العلماءُ في تعريفهِ ووصفهِ وشرحهِ بألفاظٍ تجاوزت عشرين لفظاً، فقالوا: إنه مطر شديد مفاجئ، يصاحبه رعد مُخيف وبرق متكرِّر وعواصف شديدة ورياح مُزمجِرة... إلخ.

ولعلَّ هذا الذي جعلَ العلاَّمة (الطَّاهر بن عاشور) يقول عن لغة القرآن: «إنها الأوفر ألفاظاً، وأقلُّها حروفاً، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرُّفاً في الدلالة على أغراض المتكلِّم، وفيها من الدقائق واللطائف لفظاً ومعنَى ما يفي بأقصى ما يراد مِن وجوه البلاغة».

وهو الذي عناه الدكتور (عبد الوهاب عزَّام) بقوله: «إنها لغةٌ كاملةٌ مُحبَّبة عجيبة، ألفاظها تُصوِّر مَشاهد الطبيعة، وكلماتها تُمثِّل خطرات النفوس، ومعانيها تتجلَّى في أجراس الألفاظ، لترسم خطوات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة»[2].

وانظر - مثلاً - إلى بعض الكلمات التي وردت في (سورة التوبة): ({إلّاً وَلا ذِمَّةً} - {خِفَافاً وَثِقَالاً} - {مَّا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} - {الشُّقَّةُ} - {يَلْمِزُونَ الْـمُطَّوِّعِينَ} - {جُرُفٍ هَارٍ})؛ تجد أنَّ هذه الألفاظ اجتمع فيها الكمالُ والحُسْن والبهاء والروعة في تصريف المعاني، وامتداد ظلالها الخلاَّبة في نظامٍ صوتيٍّ وجَمَــالٍ لغويٍّ غير معهــود! كمـا أنها تُولِّد إيقاعاً يبعث في النفس تصويراً دقيقاً للمعنى المقصود، ويفتح الأذهانَ على حقيقةٍ مكنونةٍ في الخطاب الربَّاني.

فألفاظ: {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} التي وردت في قوله سبحانه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [التوبة: 109]؛ قد أحالت هذه الكلمات الثلاث إلى مفاهيم ورؤى ونظريات في (عِلْم ميكانيكا التربة والأساسات في الهندسة المدنية والإنشائية) التي تقرِّر بأنَّ البناء إذا كان على حافة الجُرف المتصدِّع، أو فوق الحُفَر والفجوات الأرضية، أوْ فوق الأماكـن الـمُشرِفة علـى السقوط؛ فإنَّ الانهيـار سيكون مؤكداً وحتمياً، وقد جاء كله في ثلاث كلماتٍ بتصويرٍ فنِّـي رائع بين المعقـول والمحسوس؛ شبَّهتْ المعنوي المفهوم بالمادي الملموس؛ فمَن أسَّسَ بناءه بِنيَّة النِّفاق والكُفْر، كمَن وضع أساسَ مبناه على {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} والنتيجة هي الانهيار السريع للجُرف والمبنَى معاً. لأنَّ أساسات المباني وطبيعة البناء هيَ التي تَحكُم درجة صمود البنيان، أوْ تؤدي إلى انهياره!

إنه إعجازٌ لُغويٌّ فيَّاض عظيم التدفُّق، لا يَحدُّه حدٌّ، وإنَّ التعرُّض لفيوضاتهِ وتلمُّس أسراره لا يقف عند حروف الكلمة وحدها؛ فقد شَهِد السياقُ في مُجملهِ بستاناً مُورِقاً يانع الثمار والأزهار؛ وهو ما زاد المعنَى حلاوةً في نفس القارئ أوْ السامع!

نعم! إنَّ الألفاظ الوحيدة التي وردت في القرآن لا تتوقف روعتها على عذوبتها، ودهشتِها، وجمالها وتميُّزها فحسب؛ بلْ إنها تَحمِل كثيراً من المفاهيم المُبطَّنة والدلالات البعيدة، بحيث لا تستطيع أنْ تُعبِّر عنها بغيرها؛ وهو ما يجعلكَ تحتاج إلى كثيرٍ من الألفاظٍ والجُمَل لتقريب معناها وشرح أبعادها وتفسير مرادها، وربَّما لا تصلُ إلى كُنهِها وفحواها ومراميها!

انظر وتأمَّل مَليّاً في تلك الألفاظ الفريدة، ثمَّ انظر إلى المواضع التي سِيقت فيها، ثمَّ اسأل نفسك: هل بمقدور أحدٍ أن يصيغ هذه الألفاظ البديعة بمثل هذه الصياغة العُلويَّة، أوْ يُوظِّفها بتلك البراعة الفائقة؛ التي أعجزتْ أربابَ البيان وسدنةَ اللغة، وجعلتهم يقفونَ عندها مشدوهين، ويَخِرُّونَ أمام منزلها ساجدين!

حسبُكَ أن تتوقَّفَ أمام بِضعة ألفاظ، مثل: ({ضِيزَى} - {لَنَسْفَعاً} - {وَانْحَرْ} - {جِيدِهَا})، ثمَّ تأمَّل مدى دقَّتها وعُمقها ورونقها، وما اشتملتْ عليه من وجوه الإعجاز التي استبطنته هذه الكلمات:

كلمة {ضِيزَى} التي وردت في قوله سبحانه: {تِلْكَ إذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: ٢٢]:

يقول أهل اللغة: أيْ: قِسْمة جائرة غريبة، وهيَ كلمة غريبة في لفظها وغريبة في معناها وغريبة في نطْقها وغريبة في صوتها، فجمعت أربع غرائب في أربعـة حروف! وليس في كلام العرب صفة على وزن فعلى التي هي (ضيزى)؛ فقد جاءت غريبة كالقِسْمة الغريبة التي قسمها الكفَّار بينهم وبين الله سبحانه في شأن الملائكة كما قال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم: 21]؛ فالقِسْمة غريبة واللفظ غريب، وهذا تناظر جميل في اللغة.

كلمة {لَنَسْفَعاً} التي وردت في قوله: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15]:

تقول المعاجمُ اللغوية: (السفع) هو الصدمة البالغة التي تنتاب الفلَقات الجبهية الأمامية لوجه الإنسان، فتُحدِث تلَفاً أو خَللاً يُصيب الفص الأمامي فيُغيِّر السلوك الطبيعي للإنسان، وقد يصل إلى هبوط في معايير التذكُّر والقدرة على حل المشكلات العقلية. ويقول المعجم الطبِّي الحـديث: (سفْع الناصية) هو الإصابة خلف الجبهة؛ التي هيَ مصدر اتخاذ القرار، فإذا أُصيبَ هذا الجزء من المخ الذي يقع تحت العظْمة مباشرة؛ فإنَّ صاحبه لا تكون له إرادة مستقلة؛ لأنَّ هذا الجزء هو مركز التوجيه والضبط، والمسؤول عن تصرفات الإنسان، فلا يستطيع أن يختار إذا قلتَ له: اجلس، أوْ قِف، أوْ اذهب. لأنه فاقد السيطرة على نفسه، مِثل الذي تقلَع له عينيه فلا يرى!

كلمة {وَانْحَرْ} التي وردت في قوله سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: ٢]:

 يقول اللغويُّون: (النَّحر) خاص بالإبل، و (الذَّبح) خاص بالغَنَم وغيرها.

 فقد اختار القرآنُ لفظ {وَانْحَرْ} وليس (اذبح)؛ فاللهُ سبحانه قد أعطى لنبيِّه الفضلَ الكبير، والخير العميم، في قوله {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: ١]، ثمَّ أمره بأفضل العبادات وهي الصلاة، وأمره بأفضل القرابين وأنْفَسها، وهي (الإبل) فقال (انحر) فجمعتْ هذه الكلمة حُسناً إلى حُسن: روعة التعبير، وجمال الفاصلة القرآنية!

كلمة {جِيدِهَا} التي وردت في قوله سبحانه: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: ٥]:

جاء في قاموس (المصباح المنير): الجِيْد هو العُنُق والجمع أجياد، وهو موضِع الزينة ولِبس الحُليِّ والمجوهرات. واستعمالها في قوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}. يدل على استغراق الحبل في كل عنقها حارقاً إياها، فاستبدلَ الفضة والذهب بحبلٍ من النار! وقد جمَعتْ الكلمةُ في سياقها تناسقاً في اللفظ وتناسقاً في الصورة وتناسقاً نفسياً؛ فجهنم هنا نار ذات لهب، تصلاها امرأة أبي لهب، التي تحمِل الحطَب على عُنقِها (جيدها)، وتُلقيه في طريق النبي #، «والحطب مِمَّا يُوقِد اللهب» وهي تَحزِم الحطبَ بحبل، فعذابها إذاً في النار ذات اللهب أن تُغَلَّ بحبلٍ مِن مَسَد ليكون الجزاء من جنس العمل، وتتمُّ الصورة بهذه المحتويات: (الحطب، والحبل، والنار، واللهب) يصلَى بهذا أبو لهب وامرأته حمالة الحطب!

وعلى هذا النحو الرائق البديع من الإعجاز العُلوي، جاءت تلك الألفاظ الوحيدة في القرآن، والتي بلَغتْ (1620 كلمة) لم تتكرَّر أبداً، بلْ ذُكِرت مرةً واحدة فقط، متفرِّقة في سياقاتها البديعة عَبْرَ سُوَر القرآن وآياته، ومن تلك الكلمات التي أعجزت الفصحاءَ والبُلغاءَ كثيراً، واستوقفتْ العلماءَ والمفسِّرين طويلاً: {فَلَيُبَتِّكُنَّ} - {تُبْسَلَ} - {اسْتَهْوَتْهُ} - {غَمَرَاتِ} - {خَوَّلْنَاكُمْ} - {لِيُرْدُوهُمْ} - {وَلِيجَةً} - {خِفْتُم عَيْلَةً} - {يُضَاهِؤُونَ} - {لِّيُوَاطِؤُوا} - {فَثَبَّطَهُمْ} - {فَسِيحُوا} - {أنُلزِمكُمُوهَا} - {لِّيُوَاطِئُوا} - {الغَارِ} - {هَيْتَ لَك} - {أَلْفَيَا سَيِّدَهَا} - {مُدْهَامَّتَانِ} - {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} - {فَالْـمُورِيَاتِ قَدْحاً} - {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ} - {كعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} - {شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} - {غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ} - {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} - {الْوَسْوَاسِ الْـخَنَّاسِ}... وغيرها كثير من الألفاظ التي تُلقي بظلالها الممتدَّة، وتُوحي بمدى الإعجاز الإلهي، والسموِّ المتناهي، وتحمِل من الأفكار والمعاني والشروح ما لا يُمكِن حصره بجُملٍ عديدة! وقد فتحتْ شهيَّة الأدباء والعلماء والفقهاء والبلاغيِّين والمفسرين؛ لينهلوا من موردها، ويَغرِفوا من مَعينها الرائق العذب الزلال إلى أن يَنفضَّ سُرادق الحياةِ والأحياء، وتنقلِب الشعوبُ والأُممُ جميعاً إلى المَلِك العلاَّم.

ومن الألفاظ الوحيدة في القرآن أيضاً ما قيلَ بأنَّ أصولها (أعجميَّة)؛ لأنها وُجِدتْ في لغات أخرى، وقد نطقها العربُ القدماءُ وتداولوها مِن خلال التجارة والأسفار والرحلات إلى بلاد الشام وفارس وإفريقيا؛ فصارت بذلك عربية. والمهم أنَّ قيمتها إنما تعود إلى مكانها مِن النظْم المعجِز الأخَّاذ، ونقْلِها للمعنَى القرآني الرائق العذْب البديع. وقد أوردها صاحب (الإتقان)[3]، منها: (إصْر - حواريُّون - دُريٌّ - السِّجِلُّ- الصراط - القِسْط - كفليْن - مشكاة - منسأة - حصَب - غسَّاق - القِسطاس - اليم - وَزَر - كُوِّرت - مرقوم- مناص - الـمُهْل - يَحُـور - الفُـوُم - أسـفار- أوَّاب - اسـتبرق - أرائك - تنُّور - ياقوت - كافور - رهْواً - سِجِّيل - طاغوت) وغيرها من الألفاظ التي استعملها القرآنُ وحفِظها وخلَّدها، بعدما كادت أن تتلاشى وتذهب في دجى النسيان؛ بسبب اندثار لغاتها، وزوالها بلا رجعة!

نعم! فقد اندثرت وتلاشت سائر اللغات القديمة: كالروميِّة، والحبشيِّة، والزنجيَّة، والآراميَّة، والسريانيَّة، ولم يَعرف الناسُ عنها شيئاً منذ ذلك العهد، ولمْ يبقَ منها شيء سوى الكلمات التي استعملها القرآنُ المجيد، وخلَّدها عبر العصور، وتخطَّى بها اليابس والماء.

وصدقَ (محمَّد إقبال) حينما قال: «مَن أراد أن يكتبَ وثيقةً ويدفنها في الأرض فيقرأها الناسُ بعد ألف جيل، فليكتبها باللغة العربيَّة، فهي لغة الخلود مِن القرآن الخالد».

بلْ إنَّ القرآنَ قد صَقَـلَ هذه الألفاظ (الأعجميَّة) وهذَّبها حتى صارت أرقَّ وأبهى مِمَّا كانت عليه، وفي هذا المعنى يقول المطرانُ (أبو داود) المتخصِّص في العربية والسوريانية: «إذا نُقِلت الألفاظُ الحسنة إلى السوريانية قبُحتْ وخسَّتْ، وإذا نُقل الكلام المختار من السوريانية إلى العربية، ازداد طلاوةً وحُسناً، وهذا ما يُخبِر به أهلُ كل لغةٍ عن لغتهم حال مقارنتها مع العربية».

ومِمَّا يؤكد هـذه الحقيقة المهمَّـة؛ أنه عندما يُنقَل القرآنُ إلى لغةٍ أخرى غير العربية، فإنَّ المعاني لا تُسـتوفَى كمـا هي مسـتوفاة بالعربيـة؛ لأنَّ البيان المعجِز الذي تحدَّى الإنسَ والجن؛ قد يَفقد كثيراً من خصائصه عند الترجمة، حتى اضطرَّ المترجِمون أن يَنقِلوا كثيراً من كلمات القرآن إلى اللغات الأخرى كما هيَ عليه دون تغييرٍ أوْ تصحيف!

 ورحِمَ اللهُ أميرَ الشعراء، القائل:

إنَّ الذي وهَبَ اللغات مَحاسناً

جعلَ الجَمَالَ وسِرَّه في الضادِ!

 إنَّ هذه الثروة اللفظية الهائلة التي قد بلغت أوجها مِن الجَمَال والكمال والسموِّ والرقيِّ؛ استحالت على الترجمة؛ لعدم وجود مثيلٍ أوْ شبيهٍ لها في ألفاظ اللغات الأخرى، فلا يوجد بين سائر اللغات العالمية ما يَحمِل معنى اللفظ القرآني، أوْ مستلهماً لروحه ومستوعباً لجلاله، وجميع الترجمات القرآنية الموجودة بمختلف اللغات؛ تنُم عن هذا القصور والضعف والركاكة أمام اللفظ الذي أتى به القرآنُ حاملاً معه أسراره الغزيرة وعلومه الكثيرة.

 إنَّ في ذلك لحكمة إلهية، وسِراً مِن أسرار إعجاز الكتاب الخاتم؛ الذي جمع أمجاد الكُتب والرسالات السابقة؛ إذ اختير لهُ أرقَى الألسنة (العربية) لفظاً ومعنى؛ لتكون لغة خطاب اللهِ الأخير لمخاطبة البشر في النبوة الخاتمة، التي انتهت إليها أصول الرسالات السماوية.

أرأيتُم روعة ألفاظ القرآن المجيد؛ الذي ما زال آيةً كبرى على صِدق الوحي الإلهي وجلاله، ولا زال مستحيلاً على أرباب اللغة وعباقرة البيان في سَبْر أغواره، واستخراج كنوزهِ وجواهره.


 


[1] دليل الألفاظ الوحيدة في القرآن، د. عصام المليجي.

[2] عبقرية اللغة العربية، محمد القوصي، منشورات منظمة الإيسسكو، الرباط.

[3] الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، مكتبة مصر، القاهرة.

 

 


أعلى