من أئمة الإصلاح العلاَّمة المحقق مُحِب الدين الخَطِيب (1305 - 1389هـ)

من أئمة الإصلاح العلاَّمة المحقق مُحِب الدين الخَطِيب (1305 - 1389هـ)

 

الحمد لله الذي رفع لنا في كل ثغر عَلَماً، وأجرى لنا في جوار كل بحر ما يضاهيه كرماً، وجعل في هذه الأمة من المسلمين إلى اليوم من يزيدُ الناسَ علماً ويمحو من الظلمات ظُلَماً، أما بعد:

ما أشبه اليوم بالبارحة! إن الظروف التي يعيشها الوطن العربي اليوم من ثورات بُغيَة إصلاح ما أفسدته الحكومات لَتُذكِّرنا بالعقود الأُولَى من القرن الماضي، لَـمَّا مضى الحكام والوزراء إلى ما مضوا إليه من الفساد والاستبداد والانعزال عن الناس، وكشف العَلمانيون عن وجههم القبيح فجردوا أقلامهم في الصحف والمجلات لمحاربة الشريعة، وصار الإسلام إلى غربة. فبرز في هذه الأثناء رجال هم من خيرة رجال هذه الأمة، لم يتوانوا عن مساندة الحق والانتصار للشريعة، وكان الشيخ محب الدين الخطيب - رحمه الله - من أبرز رجال هذه الحقبة؛ فقد تنقَّل من بلد إلى بلد يَنشُد الإصلاح، ولم يكفَّ قلمَه عن كشف فساد الحكومات، ومؤامرات العَلمانيين، وضلال المنحرفين، ولم يتناه إلى سمعه نهوض مشروع عربي إسلامي بحقٍّ إلا وبادر بمساندته والدعوة إليه.

إنه الشـيخ المحقـق والكـاتب الإسـلامي الكبيـر أبو قُصـي محب الـدين بن أبي الفتـح محمـد بن عبد القـادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد الْخَطِيب، ولد في حي (القيمرية) بدمشق سَلْخ شوال سنة 1305هـ (1886م) لأسرة عريقة أصيلة النسب تتصل بعبد القادر الجيلاني رحمه الله، وقيل: إن أصولها تعود إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

وأمه هي آسيا بنت محمد الجلاد رحمها الله، كانت تقية فاضلة، توفيت وهي راجعة من فريضة الحج بين مكة والمدينة بريح السموم، ودفنت هناك بالفلاة، وكان الخطيب صغيراً آنذاك، فشمله أبوه وجده برعايتهما وكانا عالمين جَليلَين، وعنهما أخذ علومه الأُولَى.

التحق الخطيب وهو ابن سبع سنين بمدرسة (الترقي النموذجية) قرب المكتبة الظاهرية بدمشق، وكان أبوه أمين هذه المكتبة، فحصل في محرم سنة 1314هـ (1896م) على شهادة إتمام المرحلة الابتدائية بتقدير جيد جداً، ثم التحق بمدرسة (مكتب عنبر)، وبعد سنة توفي والده فأخرجه أقاربه من المدرسة.

لازَمَ دروس العلماء حتى التقى بالشيخ العلاَّمة طاهر الجزائري - رحمه الله - وكانت له صداقة بأبيه، فاحتواه وأدَّبه وعلَّمه وبثَّ فيه حبَّ الدعوة الإسلامية. يقول الخطيب عن ذلك: (مِنْ هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي، منه عرفت أن المعدن الصدِئ الآن الـذي بَرَأ الله منـه في الدهر الأول أصول العروبة، ثم تخيرها ظئراً للإسلام؛ إنما هو معدن كريم لم يَبْرَأ الله أمة في الأرض تُدانِيه في أصالته وسلامته وصلابته وعظيم استعداده للحق).

وكان مِن تأديب وتعليم الشيخ طاهر للخطيب أنه كان ينتقي له بعض مخطوطات شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وأضرابه، فيكلفه بنسخها ليزيد في علمه، وينمِّي مداركَه، ويشغل وقته، وينتفع بأجر النسخ، ثم إنه وجَّهه مرةً أخرى إلى الالتحاق بمكتب عنبر، وأرشده إلى التردد على مدرسة (عبد الله باشا العظم)؛ حيث كانت للشيوخ: أحمد النويلاتي، جمال الدين القاسمي، محمد علي مسلم، طاهر الجزائري - رحمهم الله - غرف بتلك المدرسة، وبالفعل كان يتردد عليهم، فقرأ على الشيخ أحمد النويلاتي - رحمه الله - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وحفظ بتلقينه مقامات مِن كتاب أطواق الذهب للزمخشري، وقد تعلم منه الزهد والانشغال بالعلم عن الناس.

وكان الخطيب في هذه الفترة يكتب بعض المقالات العلمية والقطع الأدبية؛ يُعرِّبها عن اللغة التركية ويرسل بما يترجمه وما يكتبه إلى مجلة (ثمرات الفنون) في بيروت، ولما كان في السنة السادسة بمكتب عنبر، وَشَى به أحد المدرسين إذ شاهد معه كتباً لا تتفق وأفكاره، فأحال الأمر إلى إدارة المدرسة التي اضطهدته! وهو ما اضطره للرحيل إلى بيروت لاستكمال دراسته وقد انتقل معه عدد من الطلاب؛ إذ كان للخطيب نشاطه الأدبي الذي استمر يبذله في بيروت حتى أتم دراسته في جمادى الأُولَى سنة 1323هـ (1905م).

عَقِب إتمام الخطيب دراسته سافر إلى إستانبول والتحق هناك بكليَتَي (الحقوق والآداب) ونزل في حي (جنبرلي طاش)، وهناك التقى بمجموعة من الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون في إستانبول ورأى منهم جهلاً بقواعد اللغة العربية فضلاً عن آدابها وثقافتها، وتلاحظ له انهيار شخصياتهم، وذوبانهم في غيرهم وتزلُّفهم إلى غير العربية، فاتفق مع صديقه الأمير عارف الشهابي أن يعلِّما هؤلاء الشباب، ثم أسس من أجل ذلك جمعية (النهضة العربية) سنة 1324هـ لتعليم الطلاب العربيةَ وآدابَها وثقافتَها، وتذكيرِهم بأصالتهم وبدورهم القيادي. وكان يحضر الصحف العربية إلى هؤلاء الطلاب عن طريق صديقه الأستاذ محمد كرد علي الذي كان يرسلها له بالبريد، واشتد نشاطه وأخذ يعقد الاجتماعات ويلقي الخُطَب والمحاضرات، حتى شعرت به السلطات التركية ففتشت مسكَنه ووجَّهت إليه التحذيرات، فاضطر إلى تقليص نشاطه والاكتفاء بالدراسة بكلية الحقوق والانقطاع عن الدراسة بكلية الآداب لعدم قدرته الجمعَ بينهما مع نشاطه في الجمعية.

وبعد أن أتمَّ السنة الثالثة في الكلية رجع إلى دمشق لتأسيس فرعٍ لجمعية النهضة العربية بها، وكان ذلك في صيف عام 1335هـ (1907م) وفي هذه الأثناء أرسل له صديقه الشهابي رسالة يطلب منه عدم المجيء إلى إستانبول لما يلاقيه أعضاء الجمعية من اضطهاد السلطات التركية هناك، فاضطر للبقاء في دمشق حتى طلبت القنصلية البريطانية في (الحديدة) باليمن إلى القنصلية في دمشق أن تختار لها شاباً يتقن العربية والتركية، وأن يكون له إلمام بالقوانين العثمانية وشؤون القضاء لحضور جلسات المحاكم عندما تكون لأحد رعايا القنصلية قضيةٌ بها؛ لمتابعة سيرها. فوقع الاختيار على الخطيب، الذي أعد عدَّته للسفر إلى اليمن، ثم إنه رأى أن يمر وهو في طريقه إلى اليمن بمصر ليلتقي بشيخه الشيخ طاهر الجزائري وصديقه محمد كرد علي رحمهما الله، وهنـاك التقـى بأركان جمعية (الشـورى العثمانية) وكـان منهـم: عبد الله جودت (الأديب التركي) ورفيق العظم والأستاذ رشيد رضا وآخرون، وذكروا له أمر جمعيتهم وأنهم يرغبون في توسيع نشاطها داخل البلاد العربية، وكتبوا له تفويضاً في أن يتخير للجمعية باليمن الرجال الصالحين، وبالفعل ما لبث أن استقرت إقامته باليمن حتى أنشأ فرعاً لجمعية الشورى العثمانية بها، واختار لرئاستها قائد الحديدة البكباشي شوقي المؤيد العظم، كما اختار لعضويتها جمعاً من الضباط، ومع ذلك واصَل كتاباته إلى دمشق وإستانبول والقاهرة متعهداً جمعية النهضة العربية.

وأثناء إقامته في اليمن لاحظ أن إحدى المدارس الأميرية يديرها رجل شبه عامي، فدعا أعضاء الجمعية للتدريس بهذه المدرسة تطوعاً، وطلب من التجار التبرُّع بأحذية وبأقمشة لصنع ملابس موحدة للطلاب، وانتظم الطلاب في الدراسة وكثر عددهم حتى صاروا نحو ثلاثمائة تلميذ.

وسعى في الحديدة إلى إصدار صحيفة وتأسيس مطبعة، فأسس شركة مساهمة قيمة كلِّ سهم جنيهٌ إسترليني ذهبي لإصدار صحيفة باسم (جريدة العرب)، وإنشاء مطبعة باسم (مطبعة جزيرة العرب)، وقبل إتمام العمل تلقَّى رسائل من دمشق تلحُّ عليه بضرورة العودة.

ولما أعلن الدستور العثماني عاد إلى دمشق في محرم سنة 1327هـ (1909م)، ولكـن لم يَطِب له المقـام فيها لما تعرَّض له من مضايقات من السلطات؛ حيث أرادوا إجبار أعضاء الجمعية بأن يجعلوا اسمها جمعية (النهضة السورية)، ثم إنه شارك عمال صحيفة (القبس) في تحرير عدد هزلي انتقادي لبعض تصرفات الحكومة ورجالها سماه (طار الخرج) فانتشر أيما انتشار ونفدت طبعاته، فتبعت السلطات محرريه، ففر الخطيب إلى بيروت فلاحقته السلطات هناك، ففر إلى إستانبول عازماً على استكمال دراسته ونزل بها في قرية (بيكوز) هو وبعض أصدقائه حتى صيف (1909م)، حيث علمت به السلطات وطاردته وأصدرت قِبَله حكماً غيابياً بالإعدام.

خرج الخطيب من إستانبول قاصداً القاهرة في رجب سنة 1327هـ (1909م)، وشارك في تحرير صحيفة (المؤيد) مع الشيخ علي يوسف - رحمه الله - الذي كان موضع ثقته، وزادت ثقة الشيخ به مع مرور الوقت فصار الخطيب هو الذي يتخير نشر ما يناسب.

موقفه من جمعيتي (الاتحاد والترقي، والعربية الفتاة):

لما تأسس في القاهرة حزب (اللامركزية العثماني) سنة 1331هـ (1913م) برئاسة رفيق العظم، انضم الخطيب له، وعندما تأسس في بيروت ثم في باريس جمعية (العربية الفتاة) كان الخطيب يمثلها بمصر وينفِّذ قراراتها التي لها علاقة بحزب اللامركزية، وفي وقت معاصر كانت جمعية الشورى العثمانية التي كان يمثلها الخطيب في اليمن قد تحولت إلى جمعية (الاتحاد والترقي).

وحقيقةً فقد انخدع الخطيب في البداية - كغيره من أعلام هذه الحقبة - بشعارات هذه المؤسسات ودعواتهم الإصلاحية كما صرح بذلك في أكثر من موضع، وقد تكشَّف له وللأستاذ رشيد رضا - رحمهما الله - أهداف هذه المؤسسات بعدما خلعت جمعية الاتحاد والترقي السـلطان عبد الحميد رحمه الله، وأخذ الأستاذ رشيد رضا يهاجم زعماءها ويكشف أهدافهم، وفي ذلك يقول الخطيب في مقال (السيد رشيد رضا) المنشور بصحيفة الفتح: (إني أُقِر بكل صدق بأني وجميع من استعنت بهم وتعاونت معهم من رجالات العرب وشبابهم لم يخطر على بالنا الانفصال عن الدولة العثمانية؛ لا لأن الاستقلال عن دولة ضعيفة مريضة أمر مكروه، ولكن لعلمنا أن تمرُّن الشعوب على أخلاق السيادة يحتاج إلى وقت، فكان من مصلحة العرب في الدولة العثمانية أن تعترف لهم الدولة بلغتهم في الإدارة والتعليم في البلاد التي يتكلم أهلها العربية، وألا تبلغ فيها الحماقة إلى حد أن يكون التعليم في بلادهم بلغة أجنبية عنهم، وإلى حد أن تكون لغتها محرَّماً عليها أن تكون لغة الإدارة والقضاء في صميم الوطن العربي)، ويقول أيضاً: (وكان رجال جمعية الاتحاد والترقي يريدون إسلاماً يخدمهم وتنطبع عليه ألوانهم، لا إسلاماً يخدمونه وتنطبع عليهم ألوانه).

ولعل هذا ما حدا بالأستاذ رشيد رضا أن يؤسس مدرسة (الدعوة والإرشاد)، واختياره الخطيب ليشاركه في التدريس بها، كما حدا بالأخير إلى عدم المشاركة في أيٍّ من أعمال جمعية الاتحاد والترقي وجمعية العربية الفتاة وحزب اللامركزية العثماني، وذلك بعد عودته إلى القاهرة كما صرح بذلك الدكتور محمد عبد الرحمن برج في كتابه (محب الدين الخطيب ودوره في الحركة العربية) قائلاً: (ولا يُعْلَم للخطيب أي دور بعد عودته للقاهرة)، يقصد في أعمال هذه المؤسسات، بل سعى الخطيب إلى تأسيس (المكتبة السلفية ومطبعتها) وجمعية (الشبان المسلمين) التي كانت تُعنَى بنشر مبادئ الإسلام ومحاربة الإلحاد.

وفي أوائل الحرب العالمية الأولى انتدبته إحدى الجمعيات العربية السرية للاتصال بأمراء وزعماء العرب ليتخذوا موقفاً ملائماً مشتركاً يعود على البلاد بالخير، فسافر إلى عدن ثم إلى بومباي ثم إلى الكويت فالعراق فاعتقلته السلطات الإنكليزية في (البصرة) تسعة أشهر ثم أطلقوا سراحه، فعاد إلى مصر دون إتمام مهمته.

تأسيسه المطبعة الأميرية وصحيفة القبلة وصحيفة الارتقاء:

حينما قامت الثورة العربية الكبرى في الجزيرة العربية وفي بلاد الشام سنة (1916م) التحق بها الخطيب آملاً في أن يجد ضالته التي ينشدها وهي الخلافة العربية الإسلامية الراشـدة، فشـرع في تأسيـس (المطبعة الأميرية)، وأشرف على تحرير صحيفة (القبلة) التي كان يصدرها الشريف حسين بن علي في مكة المكرمة ابتداءً من شوال سنة 1334هـ (1916م)، وكانت صحيفة دينية سياسية واجتماعية وإخبارية تصدر مرتين في الأسبوع، كما أصدر صحيفة (الارتقاء) في شوال سنة 1335هـ (1917م) وكانت صحيفة أدبية وتاريخية أسبوعية.

ولم يلبث أن أوقف نشاطه في الجريدتين المذكورتين في شعبان سنة 1337هـ (مايو 1919م)، بعدما تبيَّنت حقيقة الشريف حسين وأنه لم يكن يريد ثورة إصلاحية إسلامية، فتخلى عنه؛ إذ لم يكن راضياً عن عمله بصحيفة القبلة، وكان يقول: (إن الشريف حسين وأولاده يريدون الأوطان مزارع للملوك).

إشرافه على صحيفة العاصمة وموقفه من صحيفة الأهرام:

عاد الخطيب إلى دمشق سنة 1337هـ (1918م) بعدما انجلى عنها العثمانيون، وتولى إدارة صحيفة (العاصمة)، إلى أن دخلت القوات الفرنسية دمشق سنة (1920م)، فاضطر الخطيب إلى مغادرتها متخفياً في زي تاجر جمال عربي، حتى وصل إلى القاهرة بجواز سفر مزور حصل عليه من (يافـا) في طريقه إلى مصر، ورأى أن يستقر في مصر ويجعل منها منطلَقاً لدعوته وميداناً لجهاده، وفي هذا الوقت كانت معالم شخصية الخطيب - رحمه الله - قد ارتسمت وتحددت مبادئ دعوته، وبرزت آراؤه وأفكاره بشكل واضح، فشرع يدعو لها بعزيمة لا تعرف الكلل، وبهمة لا يثبطها الملل إلى أن وافاه الأجل.

عمل الخطيب عند قدومه إلى مصر محرراً في صحيفة (الأهرام)، وذلك مدة خمس سنين وحتى سنة 1344هـ (أواخر عام 1925م)، وكان ذلك قبل أن تتكشف له حقيقة تلك الصحيفة وغاياتها المنحرفة ومقاصدها المدخولة، وأنها شر وسيط بين المسلمين والغرب. فلما تكشَّف له ذلك ما برح مهاجمتها، وتقويض مقالاتها، والرد على كُتَّابها؛ مبرراً ذلك في مقال (الأهرام شرُّ وسيط بين الإسلام وفرنسا) المنشور بصحيفة الفتح بعبارةٍ جزلةٍ بليغة: (لأني رجل عرفتُ ديني قبل أن أعرف جريدة الأهرام ومَن فيها، فلا أخذل صديقي القديم لأحظى برضا غيره).

تأسيسه المكتبة السلفية ومطبعتها ومجلة الزهراء وصحيفة الفتح:

أسس الخطيب (المكتبة السلفية ومطبعتها) بأموال تحصَّل عليها من بيعه منزلاً له بدمشق، فجعلها كبرى وسائله في تحقيق أهدافه؛ إذ جعل ينشر فيها من كنوز التراث الإسلامي عشرات الكتب، ويطبع فيها رسائل من تأليفه وتأليف كبار العلماء والمفكرين من إخوانه، ثم أصدر من خلال مطبعته مجلة (الزهراء) في محرم سنة 1343هـ (1924م)؛ وكانت مجلة دينية أدبية واجتماعية تصدر مرتين في الشهر ودامت خمس سنين.

وفي ذي الحجة من عام 1344هـ (1926م) أصدر صحيفة (الفتح) الأسبوعية الشهيرة، وكانت من أقوى الصحف الإسلامية التي ظهرت في العالم العربي، وكانت تُعنَى بالتاريخ والأحداث السياسية والاجتماعية، واستمرت صحيفة الفتح تصدر أكثر من عشرين عاماً في مرحلة من أصعب المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث، وقد استقطبت هذه الصحيفة أشهر كُتاب العالم الإسلامي آنذاك، وتصدت للدفاع عن حقائق الإسلام وحقوق المسلمين. وقد بيَّن - رحمه الله - سبب إصداره تلك الصحيفة في إحدى افتتاحياتها فقال: (إن الفتح أُنشئت لمماشاة الحركة الإسلامية وتسجيل أطوارها، ولسد الحاجة إلى حادٍ يترنم بحقائق الإسلام مستهدفاً تثقيف النشء الإسلامي وصبغه بصبغة إسلامية أصيلة يظهر أثرها في عقائد الشباب وأخلاقهم وتصرفاتهم وحماية الميراث التاريخي الذي وصلت أمانته إلى هذا الجيل من الأجيال الإسلامية التي تقدمته)، ثم اضطر الخطيب إلى إيقاف إصدار الصحيفة في أواخر سنة 1367هـ (1948م)، يقول: (أوقفتها حينما أصبح حامل المصحف في هذا البلد مجرماً يفتَّش ويعاقَب).

 

تأسيسه جمعية الشبان المسلمين، ودوره في النهوض بالأزهر الشريف:

لم يتوقف الشيخ - رحمه الله - ولم يبرح دعوته؛ وإنما استمر في طريقه الذي اختطه لنفسه؛ فإلى جانب إصدار الكتب والرسائل العلمية، وتحقيق كتب التراث والتعليق عليها، والإشراف على ما يطبع في مطبعته الكبيرة: أسس (جمعية الشبان المسلمين) بالتعاون مع عدد كبير من علماء مصر وأدبائها وعلى رأسهم المحقق الأديب أحمد تيمور، والشيخ الجليل محمد الخضر حسين (شيخ الأزهر الأسبق) وغيرهما رحمهم الله، وفي ذلك يقـول: (كنت أنا وأحمد تيمور باشا والسيد محمد الخضر حسين حريصين على أن تكون هذه المؤسسة الأُولَى للإسلام في مصر قائمة على تقوى من الله وإخلاص، وكنا حريصين على أن يتولى إدارتها رجال يعرفون كيف يصمدون لتيار الإلحاد الجارف بعد أن استولى المتابعون للاستعمار على أدوات الثقافة والنشر في العالم الإسلامي وفي مصر على الخصوص)، ويقول أيضاً: (وكانت الجمعية حدثاً كبيراً من أحداث الحركة الإسلامية؛ لأن دعاة الإلحاد والتحلل كان قد استفحل أمرهم وظنوا أن قيادة الأمة قد أفلتت من أيدي ممثلي الإسلام وانتظمت إلى أيديهم)، ونهضت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام ومحاربة الإلحاد، ولم تزل هذه الجمعية بفروعها المختلفة تؤدي قليلاً من وظيفتها.

ومع تأسيس الشيخ الجمعية المشار إليها، تولى رئاسة تحرير مجلة (الأزهر) التي كانت تصدر عن مشيخة الأزهر، وكانت مجلة دينية وأدبية شهرية، وظل في منصبه هذا طيلة ست سنوات في ما بين عامي (1952 - 1958م)، وعلى أثر سوء تفاهم مع القائمين على الأزهر استقال من رئاسة تحرير مجلة الأزهر.

اعتزاله الناس ووفاته:

انزوى الشيخ الكبير - رحمه الله - في آخر حياته في مكتبته وقطع صلته بالناس وانكب على التأليف والتحقيق، وكانت نزهته يوم الجمعة بعد صلاة العصر؛ حيث يذهب إلى سوق الكتب المقام على سور حديقة (الأزبكية) في القاهرة ويشتري الكتب المختلفة ثم يحملها بيديه وقد جاوز الثمانين فيتمايل في مشيته ويتعثر حتى يجد سيارة تُقلُّه إلى بيته وقد ثابر على هذه العـادة الكريمة إلى ما قبيـل وفاته في الثـاني والعشرين من شوال سنة 1389هـ (الثلاثين من ديسمبر 1969م) في القاهرة.

خزانة كتبه ومصنفاته:

كانت لدى الخطيب - رحمه الله - خزانة كتب كبيرة، تواترت الأخبار أنها كانت تضم نحو عشرين ألف مجلد[1] ما بين مخطوط ومطبوع، وبها مجموعة كبيرة من الكتب النادرة، وكانت فهارسها تبلغ خمسة وستين مصنفاً، وكان الخطيب قد جعلها قبل وفاته وقفاً على أهل العلم من ذريته، وقد بنى ولده قُصي - رحمه الله - داراً بناحية (الدقي) خصص الطابق الأول منها لتلك المكتبة.

وأما مصنفاته: فقد كانت تآليفه قيِّمة تمتاز بالتوثيق العلمي والمرجعي، والأسلوب الأدبي الرفيع، والبيان البديع، والقوة في التعبير. أهمها: (1) اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب، (2) قصر الزهراء بالأندلس، (3) ذكرى موقعة حطين، (4) مع الرعيل الأول في الإسلام، (5) الأزهر: ماضيه وحاضره والحاجة إلى إصلاحه، (6) الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثنى عشرية، (7) الحديقة: وهي عبارة عن مختارات في الأدب الإسلامي في مختلف العصور وفي مختلف الموضوعات تقع في أربعة عشر سفراً صغير الحجم، جُمعَت في ما بعد في أربعة أسفار، (8) الغارة على العالم الإسلامي، (9) توضيح الصحيح: وهو شرح لصحيح البخاري يقع في ثمانية أسفار كبار لم يتمَّه، (10) البهائية، (11) الجيل المثالي، (12) حَمَلة رسالة الإسلام الأولون، (13) تقويمنا الشمسي، (14) تاغور، (15) من الإسلام إلى الإيمان: حقائق عن الطائفة التيجانية، (16) الإسلام دعوة الحق والخير، (17) ذو النورين عثمان بن عفان، (18) سيرة جيل: وهو عبارة عن تأريخ لبعض حوادث القرن الرابع عشر.

وأما الكتب التي حققها أو علق عليها بتعليقات قيمة، فأهمها: (1) العواصم من القواصم للقاضي أبي بكر بن العربي، وهو إخراجه الأهم وإصداره الأعظم، (2) المنتقى من ميزان الاعتدال للإمام الذهبي، (3) مختصر التحفة الإثنى عشرية للألوسي، (4) الإكليل للهمداني، (5) تاريخ الدولة النصرية لابن الخطيب، (6) أيمان العرب في الجاهلية للنجيرمي، (7) الخراج لأبي يوسف القاضي، (8) المَيْسِر والقِداح لابن قُتَيْبَة، رحمهم الله.

وكان - رحمه الله - يجيد اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية، وقد ترجم كتباً منها: (1) سرائر القرآن: ترجمه عن التركية، (2) الدولة والجماعة لأحمد بك شعيب: ترجمه عن التركية، (3) مذكرات غليوم الثاني: ترجمه عن التركية، (4) الغارة على العالم الإسلامي تأليف: أ. ل شاتليه فرانسو: ترجمه إلى العربية.

وله عشرات المقالات التي كتبها في موضوعات شتى في مجلات: الزهراء، الأزهر، ثمرات الفنون، حضارة الإسلام، المقتبس، المسلمون، المنار، الشهاب.

وصحف: الفتح، المؤيد، القبلة، العاصمة، الأهرام، القبس، وغيرها من الصحف والمجلات، ومعظم مقالات هذه الصحف والمجلات غير منشور، بل إن أعداداً كثيرة منها قد فُقدَت بمرور الزمن، مع ما فيها من القيمة العلمية والتاريخية؛ حيث كان يكتب فيها أساطين العلم والثقافة.

عقيدته وصفاته:

كان الخطيب - رحمه الله - من أشد أنصار السلفية النقية في العقيدة والعبادة، ولعلها سمة بارزة في كل كتاباته، بل كان الخطيب - رحمه الله - من أوائل من أظهروا المنهج السلفي في مصر والشام في العصر الحديث؛ فقـد سـاهم - رحمه الله - في رسم حدوده وتوضيح معالمه والدعوة إليه والذب عنه وعن رموزه، من ذلك تصديه للدفاع والذب عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وعن دعوته الموسومة من خصومها بالدعوة الوهابية، وأظهر أكثر من مرة في أكثر من موضع أنها دعوة التوحيد الخالصة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضوان الله عليهم.

وطالما دأب على حض قرائه على اتباع القرآن والسُّنَّة وطريقة السلف في فهمهما، وذم علم الكلام والفلسفة. من ذلك قوله في مقال تحت عنوان (ذروه الحق): (فإن التفكير في ذات الله من صميم الغيب، وعلم الغيب لا ينال بالفكر والعقـل، بل بالنـص عن المعصـوم، واقتحـام العقـل في غيـر ما دل عليه النص خروج به عن دائرة عمله)، ثم أردف قائلاً: (ونصيحتي إلى كل مسلم أن يأخذ إيمانه واعتقاده من نصوص كتاب الله وسُنة رسوله، وما يتعلق من ذلك بالغيب يؤمن به على ما يليق بكمال الله - عز وجل - ويمرره كما ورد؛ لا ينقص منه، ولا يزيد فيه، متبعاً طريقة القرآن في الاستدلال على الخالق ببدائع خلقه).

ومذهبه في الأسماء والصفات هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة. يقول في مقال (ذروة الحق): (وأسماء الله وصفاته نؤمن بها كما وردت من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وهذه الأسماء والصفات تدل على معاني يجب على المسلم أن يتعبد بالإيمان بها، وبالعبودية لله من ناحية المعنى الذي يدور عليه كل اسم من أسمائه - عز وجل - وكل صفة من صفاته).

ومما يدل على سلفيته ونقاء عقيدته أيضاً معارضته ومناهضته الشديدة لفكرة (التقريب بين أهل السُّنَّة والشيعة)؛ حتى إنه كان يعبر عنها بعبارة (التخريب بين المذاهب)، وقد تسبب هذا في إحداث شيء من الجفاء بينه وبين (الإخوان المسلمين) الذين كانوا ينتصرون لفكرة التقريب، وقد أشار إلى عقيدته تلك وفصَّل فيها في مقال نشره في صحيفة الفتح تحت عنوان: (كلام صريح وكلام مبهم حول خرافة التقريب بين المذاهب).

وكان - رحمه الله - قوي الإيمان بخصائص الأمة العربية وأصالتها واستعدادها للخير وجدارتها بحمل رسالة الله وبطيب عنصرها ونقاء جوهرها، وطالما تغنى بهذه الأمة وباستعداداتها، ومع ذلك لم يفهم من العربية يوماً مَّا شيئاً غير الإسلام، وكان ينال من الكُتاب المسلمين الذين يفرقون بين العروبة والإسلام ويعتبرهم من جملة من ساهم في القضاء على الخلافة الإسلامية.

وقد ظل الخطيب محتفظاً بحيويته حتى قبيل وفاته، وكان يعزو ذلك إلى اعتداله في حياته كلها؛ في مأكله ومشربه ونومه، وكان ذا صبر وجَلَد على العمل لا يعرف معهما السآمة والملل، وكان منظَّماً في شؤونه كلها، عصامياً في تدبير أمره وتكوين ثروته وبناء حياته.

فرضي الله عن الخطيب وأرضاه، وجعل الجنة مأواه، وآخرته خيراً من دنياه.

  


[1] قال الدكتور يوسف بن عبد الرحمن المرعَشلي في نثر الجواهر (2 / 1006): (ترك مكتبة خاصة تبلغ نحواً من مائتي ألف مجلد، تجاوزت بذلك المكتبة التيمورية التي بلغت مائة وعشرين ألفاً، ومكتبة أحمد زكي وتضم مائة وسبعين ألفاً)، وهذا خلاف أكثر ما وقفت عليه في تراجم الشيخ محب الدين وأحمد تيمور وأحمد زكي رحمهم الله، فلا أدري هل وقع تصحيف للدكتور يوسف المرعَشلي، أم أن ما  ذكره أصح؟

أعلى