ظاهرة الالتفاف   على النص الشرعي

ظاهرة الالتفاف على النص الشرعي

 

لقد أقام الله - سبحانه - الحجة على خلقه بكتابه ورسوله، قال - تعالى -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: ١]، وقال: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: ٩١]، وقال: {رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].

ومقتضى ذلك أن ما جاء في الوحيين إنما يفيد العلم واليقين، ويشهد لذلك ما وصف الله به نفسه من أنه بيَّن لعباده غاية البيان، وما وصف به كتابه من أنه حق ونور وفرقان وبيِّنات من الهدى، إلى غير ذلك من الأوصاف التي جاءت في آيات كثيرة.

قال الله - تعالى -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]، قال الإمام الطبري – رحمه الله: «يقول جلّ ثناؤه: كما بيَّنت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان في هذه الآية، كذلك يبيِّن الله لكم جميع أعلامه وأدلته وشرائع دينه»[1].

وقال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} [الحج: 16]. 

وقال: {إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ 13 وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 - 14]، إلى غير ذلك من الآيات.

وممَّا يشهد لذلك أيضاً أن الله أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس الكتاب والحكمة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: ٢]، وقال: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

«ومحمد صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق، وهو أفصح الخلق لساناً، وأصحُّهم بياناً، وهو أحرص الخلق على هدي العباد، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال: {إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [النحل: 37]، وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب ليبيِّن للناس ما نزل إليهم؛ فلا بد أن يكون بيانه وخطابه وكلامه أكمل وأتم من بيان غيره»[2].

ثم هذا البيان الذي تكفل به الله سبحانه وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، إما أن يكون المرادُ به بيان اللفظ وحده أو المعنى وحده أو اللفظ والمعنى جميعاً، ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى؛ فإن هذا لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الرسالة، وبيان المعنى وحده دون دليله، وهو اللفظ الدال عليه، ممتنع، فعُلم قطعاً أن المراد بيان اللفظ والمعنى؛ وعليه فكما أنَّا نقطع ونتيقن أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن اللفظ، فكذلك نقطع ونتيقن أنه بيَّن المعنى؛ بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ، وهذا هو الذي ينبغي، فإن المعنى هو المقصود، وأما اللفظ فوسيلة إليه ودليل عليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود؟ وكيف نتيقن بيانه للوسيلة ولا نتيقن بيانه للمقصود؟ وهل هذا إلا من أبين المحال؟[3].

وبناءً علــى ما تقدم، فإن عامة دلالة نصوص الشريعة - كتاباً وسنة - تفيد العلم أو القطع، والمراد من ذلك ما يلي[4]:

1- أن نصوص الشريعة في نفسها تفيد العلم بصرف النظر عن إدراك المجتهد لذلك أو تردده فيه، كما نقول عنها: إنها ثابتة ومعصومة من أن يضيع من أحكامها شيء أو يفوت، ولا يلزم من ذلك أن يعلم المجتهد جميع نصوصها.

2- أن حصول العلم والقطع بها ممكن.

3- أن القطع بها حاصل لمن اجتهد واستدل بالأدلة الشرعية عليها، ولا يلزم أن يكون حاصلاً لكل أحد، بل ولا حتى لغالب المتفقهة المقلدين لأئمتهم؛ فإن الحاصل عندهم ليس علماً بذلك عن دليل يفيدهم القطع، وإن كان العالم عنده دليل يفيد القطع.

4- أن العلم بها يحصل للمجتهد في غالب الأحكام، وأن الظن فيها إنما هو قليل، وذلك غالباً ما يكون في مسائل الاجتهاد والنزاع، أما مسائل الإجماع والاعتقاد فالعلم فيها أكثر قطعاً.

والقول إن دلالة النصوص الشرعية في غالبها تفيد القطع، لا يتوافق مع طريقة ومسلك أولئك الذين أعيتهم النصوص الشرعية أن يحفظوها ويعملوا بها، فبحثوا عن مخارج يلتفّون بها على دلالة النصوص الشرعية، فدلتهم عقولهم إلى ترويج مقولة إن أكثر نصوص القرآن والسُّنَّة ظنية الدلالة، وإنه قلما تتحقق القطعية إلا في نطاق محدود، واستشهد بعضهم بكثرة المخصصات لعموم النصوص، والمقيدات لإطلاقها[5].

وممَّا يفسر مقصدهم تبريرهم لزعمهم هذا بأن ذلك دليل الإذن بالاجتهاد فيها، وإلا لجعل الله فيها من قواطع الأدلة ومحكمات النصوص ما يرفع التشابه، ويغني عن النظر، ويمنع الاختلاف؛ ولهذا أنزل الله كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧][6]

ومن العجائب تقرير بعضهم بأنه يجب أن تظل مراتب الأحكام كما جاءتنا؛ القطعي يجب أن يظل قطعياً، والظني يجب أن يستمر ظنياً، هكذا.. مع العلم أن مسألة القطع واليقين - كما هو معلوم - مسألة نسبية ترجع للمجتهد والناظر في الأدلة[7].

ومن ثم بنَوا على ذلك أن منطقة الأحكام المأخوذة من النصوص القطعية منطقة مغلقة لا يدخلها التغيُّر أو التطور، وهي محدودة جداً، حتى إن بعضهم زعم أنها قد لا تتعدى 7 في المائة من النصوص[8]، بينما منطقة الأحكام الظنية منطقة مفتوحة، وهي مجال الاجتهاد ومعترك الأفهام، ومنها ينطلق الفقه إلى الحركة والتطور والتجديد.

ومكمن الخطورة في مثل هذا الطرح هو التلبيس ودعوى العلمية فيما يقرِّرونه وخلط الحق بالباطل.

إنه لا خلاف مع أصحاب هذا الاتجاه في مبدأ تفاوت وضوح دلالة النصوص الشرعية على مراد الشارع، لكن الخلاف معهم في هذه المسألة في جانبين:

الأول: دعوى أن أكثر النصوص الشرعية ظنية الدلالة، سواء أوردت هذه الدعوة صراحة أو جاءت في سياق يُفهم منه الإشارة إلى ذلك.

الثاني: اعتبار الظنية أو القطعية في النصوص معياراً وضابطاً للثبات والتغيُّر في تطبيق الأحكام الشرعية.

وهذان الجانبان لا يُسلَّم لهم فيهما. أما الجانب الأول فالجواب عنه بما يلي:

أولاً

توسيع دائرة ظنية دلالة النصوص الشرعية مقابل التقليل الشديد من دائرة النصوص القطعية، مخالفٌ لما وصف الله تعالى به نفسه من أنه بيَّن لعباده غاية البيان، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم بلَّغ البلاغ المبين، كما أنه مخالفٌ لنهج الصحابة - رضوان الله عليهم - ومَن بعدهم مِن التابعين، فهم يتعاملون مع النصوص الشرعية عند ثبوتها، حيث يتَّبعون ما جاء فيها بإطلاق دون تفريق بين قطعي وظني، وهم أولى من يتبع سبيلهم[9].

ثانياً

إنما وضع الكلام للدلالة على مراد المتكلم، وألفاظ القرآن والسُّنَّة بحسب ذلك ثلاثة أقسام[10]:

أ - نصوص لا تحتمل إلا معنىً واحداً.

ب - ظواهر تحتمل غير معناها احتمالاً بعيداً مرجوحاً.

ج - ألفاظ مجملة تحتاج إلى بيان، فهي من دون البيان عرضة للاحتمال.

فأما القسم الأول فهو يفيد اليقين بمدلوله قطعاً، كقـــوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِـمُونَ} [العنكبوت: 14]، وقوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْـحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، وهذا شأن عامة نصوص القرآن الصريحة في معناها؛ كنصوص آيات الصفات، إلى أمثال ذلك من النصوص التي هي في الدلالة على مرادها كدلالة لفظ العشرة والثلاثة على مدلوله، وكدلالة لفظ الشمس والقمر والليل والنهار.. هذا شأن مفرداته، أما تركيبه فجاء على أصح وجوه التركيب وأبعدها عن اللبس وأشدها مطابقة للمعنى، فمفرداته نصوص أو كالنصوص في مسماها، وتراكيبه صريحة في المعنى الذي قصد بها، والمخاطبون به أهل تلك اللغة سجيتهم وطبيعتهم غير متكلفة لهم، فهم يعلمون بالاضطرار مراده منها.

والقسم الثاني: ظواهر قد تحتمل غير معانيها الظاهرة منها، لكن قد اطردت في موارد استعمالها على معنى واحد فجرت مجرى النصوص التي لا تحتمل غير مسماها، والقسمان يفيدان اليقين والقطع بمراد المتكلم.

وأما القسم الثالث: فهذا قد يكون بيانه معه، وقد يكون منفصلاً عنه، أما أن يكون له عدة معانٍ وليس معه ما يبيِّن المراد؛ فهذا ليس في كلام الله ورسوله، وإذا أُحسن رد هذا القسم إلى القسمين قبله عُرف مراد المتكلم منه.

فالقسم الأول يفيد اليقين بنفسه، والثاني يفيده باطراده في موارد استعماله، والثالث يفيده إحسان رده إلى القسمين قبله.

وهذا ظاهر جداً لمن له عناية بنصوص القرآن والسُّنَّة وألفاظها ومعانيها واقتباس المعارف واليقين منها، فاستفادته اليقين من أدلتها أعظم من استفادة كل طالب علم اليقينَ من مواد علمه وبراهينه، بل إذا تأمل من بصره الله طريقة القرآن والسُّنَّة وجدها متضمنة رفع ما يوهمه الكلام من خلاف ظاهره.

الاحتمالات الموجبة للظنية في دلالة النصوص الشرعية مدارها على أن الدليل اللفظي يحتمل أزيد من معنى، فلا يقطع بإرادة المعنى الواحد.

 ثالثاً

ويجاب عن ذلك: بأن أهل اللغة لم يسوغوا للمتكلم أن يتكلم بما يريد به خلاف ظاهره إلا مع قرينة تبيِّن المراد، والمجاز إنما يدل مع القرينة، بخلاف الحقيقة؛ فإنها تدل على التجرد، وكذلك الحذف والإضمار لا يجوز إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه، وكذلك التخصيص ليس لأحد أن يدَّعيه إلا مع قرينة تدل عليه.

قال الإمام الشافعي – رحمه الله: «القرآن عربي كما وصفت، والأحكام فيه على ظاهرها وعمومها ليس لأحد أن يحيل منها ظاهراً إلى باطن، ولا عاماً إلى خاص؛ إلا بدلالة من كتاب الله، فإن لم تكن فسنَّة رسول الله تدل على أنه خاص دون عام أو باطن دون ظاهر، أو إجماع من عامة العلماء الذين لا يجهلون كلهم كتاباً ولا سنَّة، وهكذا السُّنَّة، ولو جاز في الحديث أن يحال الشيء منه عن ظاهره إلى معنى باطن يحتمله كان أكثر الحديث يحتمل عدداً من المعاني ولا يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجة على أحد ذهب إلى معنى غيره، لكن الحق فيها واحد؛ لأنها على ظاهرها وعمومها إلا بدلالة عن رسول الله أو قول عامة أهل العلم إنها على خاص دون عام وباطن دون ظاهر»[11].

وإذا كانت هذه الأنواع لا تجوز مع تجرد الكلام عن القرائن المبيِّنة للمراد، فحيث تجردت علمنا قطعاً أنه لم يُرد بها ذلك، وليس لقائل أن يقول قد تكون القرائن موجودة ولا نعلم بها؛ لأن من القرائن ما يجب أن يكون لفظياً، كمخصصات الأعداد وغيرها، ومنها ما يكون معنوياً، كالقرائن الحالية والمقالية، والنوعان لا بدَّ أن يكونا ظاهرين للمخاطَب ليفهم من تلك القرائن مراد المتكلم، فإذا تجرد الكلام عن القرائن فُهم معناه المراد عند التجرد، وإذا اقترن بتلك القرائن فُهم معناه المراد عند الاقتران، فلم يقع لبس في الكلام المجرد ولا في الكلام المقيد، إذ كلٌّ من النوعين مفهم لمعناه المختص به.

وقد اتفقت اللغة والشرع على أن اللفظ المجرد إنما يراد به ما ظهر منه، وما يقدر من احتمال مجاز أو اشتراك أو حذف أو إضمار أو تخصيص ونحوه؛ إنما يقع مع القرينة، أما مع عدمها فلا، والمراد معلوم على التقديرين[12].

والشارع قد خاطب العرب على المعهود من كلاهم ومن ثم: «فإنه لا بدَّ في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين - وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عُرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عُرف فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه»[13].

وعليه؛ فالمتكلم بالعربية «لا يُكلف استشعار الموانع مطلقاً في الأنواع والأشخاص لكثرتها، ولو استشعر بعضها لم يحسن التعرض لنفي كل مانِع منها؛ فإن الكلام فيه هَجْنة ولَكْنَة وطول وعي، فقد يتعسر أو يتعذر علم الموانع أو بيانها أو هما جميعاً»[14]؛ ولذا كانوا يعيبون على الشاعر ظهور قصد شدة التنقيح للعبارات في شعره[15].

وفي المقابل، فإن العاقل لا يستعمل الكلام فيما هو على خلاف الأصل بغير قرينة مبيِّنة لمراده، وإلا كان تلبيساً ولكنة يُبرأ عنها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بأفصح الألسنة وأجمعها معنى[16].

لم يقل أحد من العقلاء: إن كل لفظ فهو مفيد لليقين بالمراد منه بمجرده من غير احتياج إلى لفظ آخر متصل به أو منفصل عنه.

رابعاً

وإنما الذي يُقال هنا: إن مراد المتكلم يعلم من لفظه المجرد تارة، والمقرون تارة، ومنه ومن لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارة، ومنه ومن بيان آخر بالفعل أو القول يحيل المتكلم عليه تارة، وليس في القرآن خطاب أريد منه العلم بمدلوله إلا وهو داخل في هذه الأقسام.

فالبيان المقترن كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْـخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْـخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].

 والبيان المنفصل كقوله تعالى: {وَإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، مع قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإن كَانُوا إخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]، فقد أفاد مجموع النصين العلم بالمراد من لفظ الكلالة، وأنه من لا ولد له وإن سفل ولا والد له وإن علا.

 وأما البيان الذي يحيل المتكلم عليه فكـــما أحـــال الله - سبحانه وتعالى - على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيان ما أمر به عباده من الصلاة، والزكاة، والحج، وفرائض الإسلام، التي إنما علم مقاديرها، وصفاتها، وهيئاتها من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم.

فلا يخرج خطاب القرآن عن هذه الوجوه، ولم يخاطب الله عباده بلفظ إلا وقد بيَّن لهم مراده به بأحد هذه الوجوه الأربعة، فصار الخطاب مع بيانه مفيداً لليقين بالمراد منه وإن لم يكن بيانه متصلاً به، وذلك لا يعزل كلام الله ورسوله عن إفادة العلم واليقين[17].

ما يحصل عند المجتهد من تردد في معرفة دلالة النص إما لكون اللفظ مشتركاً وإما لأسباب أخرى، يجاب عنه بما يلي:

خامساً

1 - أن الشريعة في نفسها تفيد العلم بصرف النظر عن إدراك المجتهد لذلك أو تردده فيه، كما نقول عنها إنها ثابتة ومعصومة من أن يضيع من أحكامها شيء أو يفوت، ولا يلزم من ذلك أن يعلم المجتهد جميع نصوصها[18].

2 - أن ما كان ظني الدلالة مستند ولا بدَّ إلى قطعي، فمآله إلى القطعية[19].

3 - أن ما يتردد المجتهد في تعيين المقصود منه هو من لوازم الطبيعة الإنسانية، كما أنه قليل جداً بالنسبة إلى ما يتيقنه، وهذا لا ينافي القول إن الشريعة تفيد العلم، كما نقول إن الشريعة محكمة مع أن المتشابه موجود فيها[20]، وفي ذلك قال ابن حزم - رحمه الله: «إننا قاطعون باتون على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بدَّ؛ لقول الله تعالى: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هل بلغت)، قالوا: اللهم نعم. قال: (اللهم اشهد)[21]»[22].

4 - أن كثرة المعاني تصير بعد الاجتهاد في الغالب إلى معنى واحد يقطع به المجتهد[23].

لا يخفى ما في مسلك توهين دلالة معظم النصوص الشرعية من الخطورة؛ فأهل الباطل بشتى أصنافهم كانوا وما زالوا يتعلقون به؛ إذ لو ساغ ذلك لانفتح باب إيراد التجويزات والاحتمالات الذي لا آخر له ولا ثقة معه ألبتة، ما يفتح الباب لتجاوز الأحكام الشرعية بدعوى قلة الأدلة القطعية الدالة عليها[24].

سادساً

وها هي دعاوى العَلمانيين – الذين لا يقيمون للنصوص الشرعية وزناً - تتكرر بأن الشريعة أكثرها نصوص ظنية، وعليه لا يصح الالتزام فيها بفهم واحد، والقطعي فيها قليل، وهذا القليل يسقطونه كذلك بدعاوى المصلحة والضرورة ومراعاة الواقع، فما الذي بقي بعد ذلك من الشريعة؟ إنه لم يبقَ إلا معاني عامة يسميها بعضهم المبادئ الكلية للتشريع الإسلامي، وهي في حقيقتها تفريغ للدين من مقصده الأول؛ عبودية الله وتوحيده وتحكيم شريعته.

فانظر إلى الجناية العظمى التي تلحق نصوص الشريعة؛ «فيالله ما لقيت النصوص من هذه الفرق، وأرباب التأويلات، والمتعصبين لمذاهبهم، وإلى مُنزلها الشكاية، وبه المستعان، وعليه التكلان»[25].

وأما الجانب الثاني في هذه المسألة، وهو اعتبار الظنية أو القطعية في النصوص معياراً وضابطاً للثبات والتغيُّر في تطبيق الأحكام الشرعية؛ فيجاب عنه بما يلي:

أولاً: إن وصف القطعية والظنية في الدليل وصفٌ إضافيٌ نسبيٌ يتفاوت من شخص إلى آخر حسب حاله مع الدليل، وكون فلان يقول بظنية دليل ما فهذا بالنسبة له وليس حكماً على غيره[26].

وإذا كان الأمر كذلك فاعتبار الظنية أو القطعية في النصوص معياراً وضابطاً للثبات والتغيُّر في تطبيق الأحكام الشرعية؛ يزيد الأمر إشكالاً، فمَن الذي سيكون حكمه بالظنية هو المعتبر؟

والقول بثبات القطعي قطعياً والظني ظنياً يستدعي التساؤل بماذا توصف دلالة النص إذا ظهر للمجتهد أو الناظر في النصوص قرائن تزيل أي احتمال لفهم آخر؟ هل سيبقى هذا الظني ظنياً؟ وبعبارة أخرى: هل ستظل الأمة غير متيقنة من مراد الله ورسوله من هذا النص إلى يوم القيامة؟!

ثانياً: يلزم على هذا المعيار أحد لازمين:

أ - اجتماع الثبات والتغير على الحكم الشرعي الواحد، وهذا باطل.

ب - تغيير حقيقة حكم الشرع وطبيعته لتغير الزمان؛ ففي زمان الصحابة يوصف بالثبات، وفي زمان من بعدهم يوصف بالتغير، وهذا باطل[27].

وبعد هذا العرض تبيَّن خطأ وخطورة مسلك توهين دلالة معظم نصوص الشريعة، والذي يفتح الباب أمام أهل الأهواء لتحكيم أهوائهم في الأحكام الشرعية بدعوى ظنية أكثر أدلتها.

وإنه لا يَسدُّ الباب أمام تلك الانحرافات الخطيرة إلا التأكيد على قوة أدلة الشريعة، وإفادتها في ذاتها للعلم، وأن الحجة قائمة بها على الخلق لا فرق في ذلك بين مسائل الاعتقاد وسائر الأحكام، ما يبرز خصائص هذه الشريعة من العموم والاطراد، والإحكام والثبات، وحاكميتها على غيرها، «فلا تجد في العمل أبداً ما هو حاكم على الشريعة، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوماً عليها»[28].

:: مجلة البيان العدد 301 رمضان 1433هـ، أغسطس 2012م.


[1] جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، 10/214.

[2] درء التعارض: 1/23.

[3] انظر: مختصر الصواعق، 3/737-738.

[4] انظر: الاستقامة، ابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، 1/55 - 56، نشر: جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، الطبعة الأولى، 1403هـ؛ والصواعق المرسلة: 2/746؛ والثبات والشمول: 176؛ ومعالم أصول الفقه عند أهل السُّنَّة والجماعة: 87.

[5] انظر: الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، القرضاوي: 42؛ وشريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، القرضاوي: 113؛ وانظر كذلك: الإسلام وفلسفة الحكم، محمد عمارة: 35، 118؛ والحريات العامة في الإسلام، راشد الغنوشي: 25؛ وحوار لا مواجهة، أحمد كمال أبو المجد: 30.

[6] انظر: الاجتهاد في الشريعة، القرضاوي: 65.

[7] انظر: الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، القرضاوي: 45.

[8] انظر: تمرد على الممنوع، الغنوشي: 46.

[9] انظر: المستصفى: 2/171؛ والحكم الشرعي: 285.

[10] انظر: مختصر الصواعق: 1/382 - 397، 670 - 672.

[11] اختلاف الحديث بهامش الأم: 7/27.

[12] انظر: مختصر الصواعق: 751 - 753؛ وانظر في تفصيل الرد على إيراد احتمال التخصيص والإضمار: 681 - 714، وقد بين القول في هذه المسألة بياناً شافياً.

[13] الموافقات: 2/82.

[14] مجموع الفتاوى: 20/191.

[15] انظر: الموافقات، 2/84.

[16] انظر: مختصر الصواعق، 1/201.

[17] انظر: مختصر الصواعق: 754 - 757.

[18] انظر: مختصر الصواعق: 2/657؛ والثبات والشمول، عابد السفياني: 176.

[19] انظر: الموافقات: 4/86.

[20] انظر: مختصر الصواعق: 2/657؛ والثبات والشمول: 176.

[21] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، ح (1652).

[22] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 1/71.

[23] انظر: الثبات والشمول: 176.

[24] انظر: مختصر الصواعق: 2/682.

[25] المصدر السابق: 683.

[26] انظر: مجموع الفتاوى: 32/247؛ والحكم الشرعي بين أصالة الثبات والصلاحية، عبد الجليل ضمرة: 288.

[27] الحكم الشرعي:286.

[28] الموافقات:1/79.

أعلى