• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الثورة السورية..  ربع الســـاعة الأخــــير

الثورة السورية.. ربع الســـاعة الأخــــير

 

تلقى النظام الأسدي قبيل شهر رمضان المبارك ضربة موجعة طالت كبار قادته الأمنيين المسؤولين عن قمع وإخماد الثورة الشعبية المندلعة منذ ما يقرب من سنة ونصف، وقد كان لانفجار مبنى الأمن القومي الذي أودى بحياة أعضاء ما يسمى خلية إدارة الأزمة؛ كثير من الدلالات والنتائج التي تصب جميعها في مصلحة الثورة والشعب الثائر.

إن من أبرز دلالات هذه العملية أنها تعبّر عن اختراق كبير من قبل الثوار لجسم النظام وبنيته الداخلية، فالعملية لم تتم بواسطة انتحاري فجّر نفسه وسط جمعهم في مكان مكشوف، ولا بسيارة مفخخة وُضعت في الطريق أمام المبنى، لكنها تمت بعبوة ناسفة وُضعت داخل غرفة اجتماعات الخلية وفي عقر دار النظام، وذلك بالتنسيق مع عنصر (أو أكثر) شديد القرب من أفراد الخلية ويحظى بثقتهم.. فهي عملية معقدة بكل المقاييس، وتحتاج إلى كثير من الوقت والتجهيز، بَدءاً من التواصل مع العناصر الداخلية واستقطابها، مروراً بتحديد خط سير أعضاء الخلية وتحديد ساعة الصفر، انتهاءً بإدخال العبوة الناسفة وزرعها ثم تأمين العناصر المنفِّذة، ومما يزيد الأمر أهمية أن هذه العملية لم تكن الاستهداف الأول للخلية، فقد أُعلِن قبل أسابيع قليلة استهداف أفراد الخلية نفسهم بمحاولة اغتيال عن طريق دس السم في الطعام، وفيما ظهر لاحقاً أن تلك العملية لم تؤتِ أكلها فإن المؤكد أن العملية الثانية قد كُلِّلت بالنجاح، وأن الثورة قد حققت اختراقاً في نفس الموقع شديد الحساسية مرتين متتاليتين خلال مدة قصيرة. إن منطق الأشياء يقول إن النظام لا بد أن يكون قد زاد بدرجة كبيرة من احتياطات الأمن - المرتفعة أصلاً - بعد المحاولة الأولى، فمجرد وصول الثورة للمطلوبين مرة أخرى، ومن ثم نجاحها في القضاء على رؤوس الإجرام هؤلاء، لهو دليل كبير على مدى تطور أدوات الثوار ونجاحهم في التغلغل داخل هيكل النظام؛ لذا فإن كل محاولات النظام وأبواقه للتقليل من شأن هذه العملية إلى حد تشبيهها بإرسال قطعة (شوكولا) مفخخة مع طفل لا يدري ماذا يحمل، ليست سوى محاولة يائسة لصرف الأنظار عن هذا الاختراق النوعي.

إن حصول هذه العملية مرتين يشكِّل بكل تأكيد نوعاً من حرب الرعب للنظام بأفراده، فالطعام غير مأمون، وأشد المراكز حساسية وتأميناً مخترقة، ما يعني أن ما هو دونها أكثر عرضة للاختراق، هذا بينما رصاص الثوار في الميدان يحصد رؤوساً مهمة، من مسؤولي أفرع أمنية، إلى قادة أفواج وألوية وضباط من رتب رفيعة، ناهيك عن اعتقال وأسر عددٍ من ضباط الأمن برتب مختلفة.. فأين الأمان وأين المفر؟

ومع بَدء توارد أخبار نتائج هذه العملية ومع الإعلان الرسمي السوري عنها، ارتفعت الروح المعنوية لدى الناس في كل مكان بدرجة لم يسبق لها مثيل، وكثرت التوقعات بسقوط وشيك للنظام خلال ساعات أو أيام، لا سيما مع الإعلان عن بدء معركة دمشق الكبرى، ومع دخول كتائب الثوار إلى قلب العاصمة وتوغلهم في عدد من أحيائها، لكن الأيام اللاحقة للعملية أظهرت أن الانهيار السريع والانشقاقات الكبيرة المتوقعة لم تحصل، ما يعني أن النظام ما زال يتمتع بشيء من التماسك الذي يسمح بإبقائه على قيد الحياة بعض الوقت.

قد يرى بعض الناس أن ثورة المستحيل في أرض الشام المباركة قد طالت أكثر من اللازم، وهذا إن كان يحمل في طياته شيئاً من الصواب، فإنه يحمل كذلك كثيراً من الخير للشام وأهلها بإذن الله؛ ولعل من أعظم الخير تمحيص الصفوف وتنقيتها وربط القلوب بالله عز وجل وملؤها بحسن الظن به جل وعلا؛ ولعل من أعظمها كذلك انكشاف الوجه القبيح لحزب حسن نصر الله، فبعد طول تخفٍ خلف قناع المقاومة الزائف انكشفت طائفية هذا الحزب لعوام الناس الذين كانوا مخدوعين بشنشنته، وشاء الله أن يُتِمَّ فضيحته، حيث خلع «سيد المقاومة»، كما يحب أن يلقبه أنصاره، برقع الحياء تماماً بعد عملية خلية الأزمة، وترحم على أولئك القتلة، وأسبغ عليهم أوسمة الشهادة، وأعلنها صريحة أنه وحزبه وولي أمره ونعمته في «قم» باقون مع المجرم في نفس السفينة وسيخوضون معه الحرب حتى النهاية.

عملية خلية الأزمة كانت ضربة نوعية بكل تأكيد، لكن العالمين ببواطن الأمور يعرفون أنها لم تكن ضمن خطة معدة سلفاً للقضاء على النظام في عقر داره، ولم تكن مقدمة لتحرك سريع نحو العاصمة كما أشيع إعلامياً، الوصف الصحيح لها أنها كانت خطوة على الطريق، فمن قاموا بهذا العمل يتمتعون بنفس طويل ويعلمون أن الحرب قاسية وطويلة، ويعلمون كذلك أن حسمها سيكون في دمشق، وهم يعدون لهذا اليوم الآتي قريباً بإذن الله عدته؛ أما معارك دمشق التي تلت العملية، فقد بدأت باجتهاد متسرع من أحد الفصائل، ثم ما لبثت بقية الكتائب والألوية العاملة في دمشق وريفها أن استجابت للتحدي وآزرت ذلك الفصيل، الأمر الذي حقق كثيراً من الفوائد، مع ما رافقه من محن وآلام، لا سيما في حق المدنيين الذين نُهبت أرزاقهم وانتُهكت حرماتهم وهُجّروا من بيوتهم نتيجة القصف.

إن الأمر المؤكد بإذن الله أن هذا النظام ساقط قريباً، وهذا الأمر إن كان يمثل في الماضي نوعاً من الأماني فإن علاماته وأماراته الواقعية صارت بادية للعيان أكثر من أي وقت مضى، ولئن كانت العملية الأخيرة لم تقضِ عليه تماماً، فإنها قد دقت كثيراً من المسامير في نعشه الذي ما زال يجهز له منذ أشهر.

إن المتابع لمجريات الثورة منذ بدايتها لا يملك إلا أن يسلم أن الثورة ماضية بإذن الله نحو الانتصار، وأن الثورة تكسب كل يوم أرضاً جديدة على حساب النظام الذي يخسرها، ورغم أن التقدم يبدو بطيئاً في بعض الأحيان، إلا أن هذا يجعل الثورة أكثر ثباتاً ورسوخاً، ومرد هذا بعد توفيق الله جل وعلا إلى هذا الإصرار والصمود الأسطوري الذي أبداه الثوار منذ البداية، وإن طالت بنا الحياة فسيجد من عاصر هذه المرحلة وعاشها من الثوار مادة غزيرة وفوائد عظيمة ينقلونها للأجيال المقبلة حين يحدثونهم عن هذه الملحمة الشامية.

لقد قال أحد الثوار في مدينة دوما بريف دمشق كلمة لا تنسى في الأسابيع الأولى من عمر الثورة، قال: لو فني منا ألف ألف فلن نرجع عن ثورتنا حتى نحقق أهدافنا. قالها يوم لم تكن المظاهرات تخرج إلا يوم الجمعة، قالها يوم لم يكن عدد من يخرج في كل سورية يصل إلى خمسين أو ستين ألفاً، قالها يوم كانت رقعة المظاهرات محدودة للغاية، بينما كان السكون والترقب يلف باقي المناطق، فأي يقين هذا وأي إصرار؟

وبعدها بأسابيع ومع تمدد رقعة المظاهرات لتشمل أغلب المناطق بما فيها بعض أحياء دمشق وحلب، ومع إخراج النظام لمسيراته المؤيدة «العفوية»، قال ثائر آخر في قلب دمشق: كم عدد أنصار النظام؟ هم عشرة ملايين ونحن عشرة؟ حسن، إنا لن نرجع ولو أفنى بعضنا بعضاً! فأي يقين هذا وأي إصرار؟

لقد كان الناس يدعون الله قبل كل جمعة أن تستمر «الانتفاضة» وأن تدخل فيها دمشق وحلب، وشاء الله عز وجل لحكمة يعلمها جل وعلا أن تصبح الانتفاضة ثورة وتستمر وأن يتأخر دخول المدينتين، كان الناس يدعون الله وقلوبهم وجلة خشية أن يرجع الناس أو يملوا، لكن يوم الجمعة كان يأتي دوماً بمبشرات الاستمرار مع ما يصاحبه من آلام وجراح، لكن الأمل كان يكبر يوماً بعد يوم، وأن من انتفض وثار فلن يرجع، وأنى له أن يرجع وقد صار بينه وبين النظام بحار من دم وأسوار من جماجم وأشلاء!

مع دخول دمشق وحلب في ركاب الثورة على غير رغبة من بعض أهلهما، ومع انتقال المعارك إلى قلب كل منهما، فإن الفصل الأخير من عمر هذا النظام بدأ يُكتب، وبدأ الربع الساعة الحاسم والأخير من عمر الثورة عده التنازلي، فالنظام الذي كان يؤكد على أعلى المستويات قبل أشهر أن الأزمة «خلصت» وأن الأسوأ صار خلف ظهره، يبدو اليوم أضعف مرات ومرات مما كان عليه، ويبدو عاجزاً عن فرض سيطرته على المناطق التي يتواجد فيها، فضلاً عن استعادة الأرض التي يخسرها كل يوم، ونعني باستعادتها أن يحكم قبضته عليها تماماً ويتخذها قواعد ثابتة، وإلا فإن كثيراً من معارك هذه الحرب إنما هي كر وفر.

النظام اليوم يبدو على درجة عالية من الارتباك، وهذا ما يوقعه في مزيد من الأخطاء القاتلة، فمع استباحة جنوده لأحياء دمشق وحلب وتدمير بيوتهما ونهب محتوياتها وتهجير أهلها، فإنه يكون قد فقد عملياً كل الرصيد الذي كان يحتفظ به لضمان تحييدهما وإبعادهما عن أتون المعارك الدائرة في أنحاء البلد، فخداع أهل دمشق وحلب بأن من يقوم بالقتل والنهب والتخريب عصابات مسلحة وإرهابيون لم يعد ينطلي على أحد بعد ما شاهده الناس بأم أعينهم أو سمعوه من أقاربهم وأصدقائهم.

وبسبب هذا الارتباك فإن بعض تصرفات النظام تخرج تماماً عن حد المنطق والعقل وتصبح أشبه ما يكون برقصة المذبوح، فالإعلام الرسمي الساقط لم يخجل من زعم أن هناك خطة سعودية قطرية تقضي بعمل مجسمات بحجم جبل قاسيون والمطار الدولي وساحة الأمويين بدمشق لتصوير أنها سقطت في أيدي الثوار، ولأن ترددات القنوات السورية قد تخترق وتسرق فلا ينبغي للمواطنين أن يصدقوا خروج شخصيات رسمية كبيرة على هذه القنوات تعلن انشقاقها، فكل هذا يمثل - حسب رواية الإعلام الرسمي - فيلماً يتم تصويره في هوليوود! وهذا إن دل على شيء فهو يدل على قناعة لدى أركان النظام بأن الثوار سيسيطرون على هذه المناطق وأن عدداً من المسؤولين سينشقون بالفعل، وهنا يظهر أن النظام يحفر قبره بيده. 

إن المرحلة الأخيرة والحاسمة تستلزم من الثوار حرصاً كبيراً على توحيد الصفوف واتخاذ القرارات المصيرية بعد التشاور والاتفاق، ولئن كانت معركة التحرير صعبة ومكلفة، فإن ما بعد التحرير لا يقل أهمية وخطورة، بل إن ما بعد سقوط النظام هو ما سيحدد مدى نجاح الثورة في تحقيق أهدافها التي يعد سقوط النظام مفتاحاً لها. لقد خاضت الأمة في العقود الماضية كثيراً من المعارك في كثير من البقاع، ولئن تحقق النصر العسكري في كثير من هذه المعارك إلا أن المحصلة في النهاية لم تكن في كثير من الأحيان - للأسف - في صالح الأمة، حيث كان الناس يضحون بأرواحهم وأموالهم ثم يأتي غيرهم ليضيع نصرهم أو ليقطف الثمرة بدلاً عنهم.

إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين - هكذا ينبغي أن يكون - فلا بد لأهل الثورة الذين هم أهلها من التعاضد والاجتماع والاتحاد لتكون لهم كلمة مسموعة في مستقبل سورية بعد التحرير، ولئن كانت حناجر الثوار تهتف بأعلى صوت «من يمثلنا هم أبطال الخنادق لا نزلاء الفنادق»، فإن التجارب علمتنا أن مستقبل البلاد يتفاوض عليه في الفنادق، فلا بد للثوار الذين يتفقون في الخطوط الفكرية والمنهجية العريضة أن يسارعوا إلى إيجاد جهة سياسية تعبّر عنهم وتتحدث باسمهم وتتفاوض بالنيابة عنهم، وأحسب أن الثوار سيجدون في بعض الوجوه السياسية في الخارج ضالتهم المنشودة، وعندما يكون هناك اتحاد في التصور وتكامل في الجهد بين الخندق والفندق، وبين البندقية والكلمة، فإن هذا سيكون خيراً للجميع، وللشعب الثائر، ولسورية.

الثورة السورية تدخل هذه الأيام مرحلة ربع الساعة الأخير، وقد يكون هذا أخطر الأوقات منذ تجاوزت الثورة مرحلة الخوف من انحسار المد الثوري والتظاهرات قبل نحو سنة من اليوم، فلا بد من أخذ الحيطة  والحذر واستنهاض الهمم، وقد يكون من المناسب في هذه المرحلة أن يسعى المفاوض الممثل للثوار لانتهاج أسلوب «خذ وطالب»، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح ودرء أكبر قدر ممكن من المفاسد، وذلك بتقدير واقعي للإمكانات والظروف المحيطة، مع المحافظة على رابطة قوية بين الجناح العسكري والجناح السياسي المأمول، ومع استناد الجميع لدعم شعبي منظم، فإن الشعب الثائر بكل مظاهر الثورة لا يزال هو الرقم الصعب في المعادلة وهو القادر بإذن الله على التغيير وإفشال المؤامرات والمخططات، هذا مع التعويل قبل كل شيء على توفيق الله ومدده وحوله وقوته، ومع التبرؤ من حول النفس وقوتها.

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

::"البيان" تنشر ملف شامل ومواكب لأحداث الثورة السورية ..

 

 

أعلى