• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
«عندما ترعى الذئاب الغنم»

«عندما ترعى الذئاب الغنم»


في 30 مارس 1912م، وقَّع سفير فرنسا رينو، وسلطان المغرب عبد الحفيظ، معاهدةَ الحماية، وبموجبها أصبحت فرنسا الحاكم الفعلي للمغرب ويسهر السلطان على تنفيذ سياستها وتحمُّل تبعات إشباع رغباتها ونزواتها وأطماعها.

وقد اشتملت المعاهدة على تسعة فصول، تناولت ثمانية منها أطماع ومشاريع الاحتلال الفرنسي التي سيحققها بالتعاون مع السلطان، أو بعبارة أدق، سيستغل المحتل اسم السلطان وطابعه وصورته وسلطانه، ويختبئ وراءها، لتحقيق أطماعه، في حين تم تخصيص الفصل الثالث للثمن الذي سيتقاضاه المحتل عن الخدمة التي سيقدمها، وممَّا جاء فيه:

"تتعهد الحكومة الفرنسية بأن تبذل المساعدات لجلالته دائماً ضد كل خطر يهدد شخصه أو عرشه أو سيقلق راحة ولايته، وسيلقى من جانبها نفس التأييد لوارث العرش ولتابعيه من بعده".

وهكذا خُصِّصت المادة لحماية شخص الحاكم وعرشه وسلطانه وحكمه.. وكل تلك المؤامرات لفرنسا المحتلة الساعية إلى السيطرة على المغرب وإخضاعه؛ كانت تفعلها باسم الحاكم، فكانت من جهتها تضمن له الحكم، فيطلق يدها طوعاً أو كرهاً، رغبةً أو رهبةً، في فعل ما تشاء، فقد يضع الحاكم نفسه وجيشه رهن إشارة الأجنبي، فيكون بمنزلة الوكيل المنفذ لسياسته وقانونه، وقد يكون هذا الحاكم في حكم المأسور لضعفه وعجزه، فيتكلم الأجنبي بلسانه ويوقِّع بطابعه وختمه.

لقد قامت فرنسا المحتلة العَلمانية بكل تلك المؤامرات وفعلت ما فعلت من إجرام وإرهاب؛ نيابة عن دول الغرب العَلماني المتحضر وبمساعدته، كل ذلك إنما يتم تحت عنوان واحد هو: الحفاظ على وحدة البلاد، أو الحفاظ على سيادة السلطان وضمان عرشه.. فقد أرسلت الحكومة البريطانية رسالة إلى ممثلها في طنجة، سنة 1845م، تقول: "يجب أن يكون هدفنا الدائم بذل كل ما في وسعنا في سبيل دعم حكم السلطان، وأن نحول دون كل حادثة قد تؤدي إلى تعريضه لخطر جديد".

وعقد المولى عبد العزيز في بداية حكمه معاهدة مع فرنسا أعلنت فيها احترامها لوحدة الإمبراطورية الشريفة. ووعدت فرنسا وإسبانيا في اتفاقهما سنة 1904م، باحترام وحدة المغرب في ظل سيادة السلطان. وأكد رئيس الوزراء الفرنسي للسفير الألماني سنة 1905م، أن حقوق فرنسا في المغرب متسقة تماماً مع مبادئ سيادة السلطان واستقلاله ووحدة إمبراطوريته، ولما زار قيصر ألمانيا وليم الثاني طنجة سنة 1905م قال للمولى عبد الملك عم المولى عبد العزيز الذي استقبله: "إنني أزور سلطان المغرب الملك المستقل.. إنني أعتبر السلطان ملكاً مستقلاً استقلالاً تاماً، وإنني أرغب في الوصول إلى تفاهم معه بالذات..". وقامت قرارات مؤتمر الجزيرة سنة 1906م على أسس ثلاثة:

- سيادة جلالة السلطان واستقلاله.

- وحدة ملكه.

- الحرية الاقتصادية من دون تمييز.

لم يكن للسلطان وجود إلا على عرش المغرب[1].. لقد كان ألعوبةً في يد العدو، الذي كان يسنُّ القوانين ويخرج القرارات لمحاربة الدين وظلم المسلمين باسم ولي أمرٍ لم يكن له من الأمر شيء، وكان للمقيم العام وحده الحق في تقديم المقترحات في الأمور التشريعية، وما كان السلطان ليوقع الظهير إلا بناء على رغبة المقيم العام.. يحكي روم لاندو عن الجنرال كاترو قوله: "أمَّا السلطان، فهو المعزول في قصره، والذي لا يعرف إلا أموراً سطحية ممَّا ينقله إليه مستشاره الفرنسي، فلم يكن يعرف شيئاً عن المشاريع إلا عندما كانت توضع أمامه بشكل مراسيم تتطلب توقيعه"[2].

كما أرسل ليوطي تقريراً لحكومة بلاده سنة 1920م قال فيه: "جميع الإجراءات الإدارية تجري باسمه (باسم السلطان)، فهو الذي يوقع المراسيم، لكن في الواقع ليس له أي قوة حقيقية، واتصاله الوحيد هو مع المستشار الشريفي، الذي يقابله يومياً، وهذا كل ما في الأمر، والحقيقة أن الاسترشاد برأيه إنما هو قضية صورية فقط. إن الوزير الأكبر والوزراء لا يشتركون في المشاورات في القضايا المهمة، إذ إن هذه الأمور يبحثها الموظفون الفرنسيون، غير عابئين بوجهة نظر المغاربة، وليس ثمة أي تبادل في المذكرات.."[3].

أمَّا في منطقة طنجة الدولية، فإن السلطان كان له ممثله هناك الذي لم يكن سوى موظف تحت إشراف الفرنسيين. أمَّا في المناطق الإسبانية، فقد كان الخليفة، الذي هو ممثل السلطان الرسمي، يعمل تحت إمرة السلطات الإسبانية التي كان بإمكانها رفض اختيار السلطان وتعيين من تراه صالحاً لمصالحها، كما فعلت مع مولاي المهدي ابن عم السلطان. وبعد كلٍّ من المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ والمولى يوسف، تجلى بوضوح حكم الأجانب عن طريق حاكم من بني جلدتنا يتسمَّى باسمنا ويتكلم بلساننا بعد أن نصَّبت فرنسا السلطان ابن عرفة فحكم المغرب مدة سنتين كان فيهما وليَّ أمر المغاربة الذي تجب عليهم طاعته واحترامه، فأطلق الأعداء أيديهم في استخدام اسم السلطان وطابعه لتنفيذ سياساتهم الظالمة، ورعاية مصالحهم ورغباتهم الجشعة، وإصدار مراسيمهم وقوانينهم المخالفة للشرع بعد ليِّ أعناق نصوص الوحيين وفتاوى علماء السوء.. وهذه نقطة أخرى مهمة لا يجوز إغفالها عند الحديث عن مؤامرات الغرب العَلماني وتسلطه وحربه علينا قديماً وحديثاً، وأعني توظيف الدين لإخضاع المسلمين وقمع المعارضين، وهو أمر لا يقل خطورة عن توظيف الحكام والشخصيات والحكومات لخدمة أهداف الأعداء، فقد استعملت فرنسا العَلمانية المحتلة الدينَ بوسائل وأشكال شتى؛ كإنشاء المجالس العلمية[4] وتكريم رؤسائها والاحتفاء بهم، وتقريب العلماء الموالين لها ورفعهم[5]، وتوجيه البيانات والمنشورات للقبائل لحثهم على قبول الأمر الواقع وإبعاد أي فكرة لجهاد فرنسا من رؤوسهم، مستعينةً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، أو إعداد خطب الجمعة التي تُلقى باسم السلطان في وجوب طاعة أولي الأمر، الذين لم يكونوا حينها إلا المحتل نفسه، أو استعمال وسائل الإعلام العميلة والموالية لها لنشر الشبه وتشكيك المسلمين في قضيتهم وعقيدتهم.

في فترة ما بعد الاستقلال، وبعد أن تعدَّدت دوائر ومراكز القرار وتنوَّعت، ولم يعد الحاكمُ الفرد المؤثرَ الوحيد، وأصبحت الأحزاب العَلمانية والمراكز العَلمانية والإعلام العَلماني، هي التي تصيغ العقليات وتوجّهها بعد أن مكَّن لها الغرب وأمدها بكل أساليب الدعم، فأصبحت أبواقَ الغرب وأدرعه الضاربة التي تمارس ذلك الدور بشكل سافر، بل تفتخر وتتبجح بذلك؛ أصبح العَلمانيون وكلاء الاحتلال الثقافي بامتياز، وطابوراً خامساً يدمّر البنية الفكرية والثقافية والعقدية للمسلمين، وقنوات صرف لكل طوام ومصائب وفضائح وعاهات وأعطاب الحضارة الغربية العَلمانية.

كانت هذه نظرة عامة عن مؤامرات الغرب المحتل العَلماني ومحاربته لعقيدة المسلمين ونهبه خيراتهم طيلة أزيد من قرن من الزمان؛ ودوره في إحلال العَلمانية مكان الشريعة، وتمهيده لزرع أذنابه ممَّن يحملون مشروعه ويرعون مصالحه من العَلمانيين بشتى توجهاتهم ومشاربهم؛ نضعها بين يدي القارئ والمهتم والمتابع بعد قرن من بَدء تنزيل فصول المؤامرة وتطبيقها؛ لنتوقف عند النتائج التي تحققت ونستخلص الدروس والعبر.

:: مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.


[1] العبارة لعبد الكريم غلاب في «مذكرات سياسية وصحفية».

[2] تاريخ المغرب في القرن العشرين، روم لاندو، ص 117.

[3] المصدر السابق، ص 118.

[4] حيث سعت فرنسا إلى هيكلة الحقل الديني من خلال تأهيل القرويين وتحديثها، وينقل إدريس كرم في مقدمته على إظهار الحقيقة ص 83، أن ليوطي أنشأ المجلس العلمي بتاريخ 17 مايو 1914م، وأسند إدارته للقبطان ميلي.

[5] فقد قلد ليوطي رئيس المجلس العلمي وشيخ الجماعة في فاس أحمد بن الجيلالي وسامَ الشرف، وعلق له على رقبته صليباً، انظر مقدمة إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة ص41.

أعلى