ربيع ساخن في باكستان

ربيع ساخن في باكستان

رغم أن فصل الربيع في باكستان من أجمل الفصول وأكثرها اعتدالاً؛ حيث تزدان فيها الحدائق وأرصفة الشوارع بأنواعٍ من الزهور الزاهية، ورغم أن الربيع يطل ضاحكاً على ربوع باكستان من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، فإن ربيع هذا العام سيكون ساخناً جداً. وذلك لما قد تشهده البلاد من تطورات خطيرة على المستوى السياسي، وخاصة في شهرَي: فبراير ومارس؛ إذ يتوقع المحللون السياسيون في هذين الشهرين هزة عنيفة قد تصيب الحكومة ورئيس البلاد السيد آصف علي زرداري. وكان المحللون يتوقعون سقوط حكومة حزب الشعب في شهر نوفمبر أو ديسمبر من العام المنصرم، ولكن يبدو أن رئيس البلاد السيد آصف زرداري (الحاكم الفعلي للبلاد رغم أن النظام فيها برلماني، وليس رئاسياً) استطاع أن يجدد ثقة الأمريكان فيه، رغم تدهور الأوضاع في البلاد تدهوراً كبيراً، وهذا بطبيعة الحال لا يهم أمريكا؛ فالذي يهمها بالدرجة الأولى هو مصالحها في المنطقة؛ فما دامت تتحقق فلا يهمها بعد ذلك من يحكم البلاد: عسكري أو مدني، أمين أو لص، ولا يهمها كذلك مصير الديمقراطية التي تتشدق بها في المحافل الدولية. إن البلاد تشهد أوضاعاً لا تُحسَد عليها، وهي ماضية في تدهورها على كافة المستويات؛ فقد أحال الغلاء الفاحش حياة الناس إلى جحيم يصطلون به صباح مساء. وزيادةً على هذا الغلاء الذي كسر أظهر الكثيرين تعاني الأسواق والمحلات من نقصٍ حادٍّ في المواد التموينية الأساسية الضرورية للشعب؛ فالسكر الذي ارتفع سعره خلال الأشهر القليلة الماضية إلى أكثر من 100 % يكاد يكون مفقوداً في مناطق كثيرة، رغم أن سعر قصب السكر باقٍ كما هو، وهذا يعني أن المزارعين والفلاحين – وهم يمثلون أغلبية الشعب الباكستاني - لم يستفيدوا من هذه الزيادة في الأسعار، وإنما الذي استفاد منها هم أصحاب مصانع السكر، وهؤلاء جلُّهم: إما وزراء أو أعضاء في البرلمان من الحزب الحاكم ومن المعارضة (إن صحت هذه التسمية؛ لأن هناك من لا يعتبرها معارضة؛ لضعفها) والضحية هو الشعب المسكين الذي تنهال عليه المشاكل والمصائب من كل حَدَب وصوب. ورغم أن نتاج القمح في الأعوام الأخيرة وفير وفرة ملحوظة، فإن سعر الدقيق ارتفع ارتفاعاً مذهلاً، وهو أيضاً مفقودٌ مثل السكر، ومخبَّأ في مخازن المحتكرين من الوزراء وأعضاء البرلمان. لقد كانت أسواق الأحد ملاذاً للطبقة الفقيرة والمتوسطة. أما الآن فقد تلبدت غيوم الغلاء المتفشي في سمائها؛ فلم يعد بمقدور الرجل العادي أن يلبي طلبات أسرتة من الضروريات: من الغذاء والكسوة، ناهيك عن الأشياء الأخرى مثل: الكهرباء والغاز والوقود، التي تُمنَح للشعب بالقطارة. ومن الأشياء المضحكة المبكية أن شعار حزب الشعب الذي أطلقته مؤسسة (ذو الفقار علي بوتو)، وأطلقته من بعده ابنته بي نظير بوتو، هو نفسه الذي يطلقه الآن آصف علي زرداري ووزراؤه، وهو: خبز وثوب وبيت لكل مواطن! ومن أهم أسباب الغلاء وزيادة الأسعار، الاحتكار والهبوط المستمر للروبية الباكستانية في مقابل العملات الأخرى؛ حيث كان الدولار الواحد في أواخر عهد الجنرال برويز مشرف يعادل ستين روبية، وأما الآن فهو يعادل أكثر من خمس وثمانين روبية؛ وذلك – كما يقول خبراء الاقتصاد أمثال الدكتور شاهد صديقي - بسبب سوء التخطيط والفساد الإداري المتمثل في صور السلب والنهب المستمر من قِبَل المسؤولين في البلاد، وعلى رأسهم رئيس البلاد. وهذا ليس ادعاءً؛ فقد أصدرت محكمة النقض أو التمييز - وهي أكبر محكــمة في السلَّم القضائي الباكستاني - حكمها التاريخي في السادس عشر من ديسمبر عام 2009م الذي قضت بموجبه ببطلان المرسوم الرئاسي الذي أصدره مشرف بالاتفاق مع أمريكا والمعارضة التي كانت تهدده آنذاك والتي تمثلت بالراحلة بي نظير بوتو زعيمة حزب الشعب الباكستاني وقتها. وكان هذا المرسوم الذي غدا كأن لم يكن، قد أسقط عن 8041 شخصاً من كافة الطبقات كلَّ التهم الموجَّهة إليهم، وعلى رأس هؤلاء الوزراء وأعضاء البرلمان من الحزب الحاكم والأحزاب الأخرى، يتصدرهم رئيس البلاد، ومن بين هؤلاء سفير باكستان لدى الولايات المتحدة حسين حقاني رأس الحربة في العلاقات الأمريكية الباكستانية المشبوهة. وقد انحصرت هذه التهم في الفساد الإداري والسرقات وسوء استغلال السلطة والتهريب وعدم ردِّ القروض المالية الضخمة إلى بنوك الدولة وخيانة الأمانة، وما إلى ذلك. ومنذ أن أصدرت أكبر محكمة في البلاد حكمها المشار إليه تعيش الحكومة ورئيس البلاد في قلق كبير رغم تمتع رئيس البلاد بالحصانة السياسية وَفْقاً للمادة (رقم 248) من الدستور الباكستاني؛ ونتيجة لهذا القلق هوجم القضاء والصحافة والإعلام بقنواته المتعددة التي أصبح لها دور كبير في نشر الوعي بين الناس، وقد حمَّل رئيس البلاد القضاء مسؤولية إعدام مؤسس الحزب ذو الفقار علي بوتو، وقال بلهجة فيها الكثير من التهديد بأن القضاة يظنون أنهم بتأشيرة من أقلامهم يستطيعون أن يقضوا عليه وعلى حكومة حزبه، ولكن هذا لن يكون؛ فهو – كما يدعي - أقوى منهم! ومن الجدير بالملاحظة أن هذه اللهجة لم تفارقه في خطبه الأخيرة، وهو الأمر الذي يدل على أنه يشعر أن البساط يكاد يُسحَب من تحت قدميه. تعاني البلاد اليوم من أزمة حادة نتجت عن صراع سافر بين السلطتين: التنفيذية والقضائية فيما يتعلق بالمرسوم أو القانون الأسود الذي سبقت الإشارة إليه، كما يسميه بعضهم، والذي حكم القضاء بعدم شرعيته، وحدد طُرُق محاسبة المستفيدين منه بغض النظر عن مناصبهم ورُتَبِهم. وأيضاً فيما يتعلق بتعيين القضاة في الأقاليم الأربعة، فقد اقترحت محكمة التمييز أو النقض - وهي المسؤولة عن النظام القضائي في البلاد - أسماء بعض القضاة كي يعيَّنوا بدل القضاة الذين انتهت خدماتهم في محاكم هذه الأقاليم في البنجاب؛ حيث تعاني هذه المحاكم من نقص شديد في عدد القضاة؛ وقد وصل هذا النقص في محاكم البنجاب إلى أربعين قاضياً، ولكن الحكومة - وهي السلطة التنفيذية في البلاد - تماطل في ذلك تمهيداً لتعيين قضاة يوالونها. بالإضافة إلى التدخل الأمريكي في شؤون البلاد، واختراقها للحدود، وضربها المناطق المتاخمة لأفغانستان، وسكوت الحكومة الباكستانية عن تلك الاختراقات، وقيامها بمهاجمة الإعلام الذي كشف الحقائق للناس، ووَصْفِه بأنه متحيز إلى جهات معادية لباكستان ومصلحتها... كل هذا أدى إلى زعزعة ثقة الناس بالحكومة وبرئيس البلاد وقلَّل من شعبيتها كثيراً، حتى وصل الأمر إلى المطالبة باستقالة رئيس البلاد. لكل ذلك يتوقع المحللون السياسيون أن يكون شهرا: فبراير ومارس - وهما من أشهر فصل الربيع - ساخنين جداً على المستوى السياسي؛ إذ قد تشهد البلاد تغييرات مهمة، ولكن إلى أين ستتجه الأمور؟ يتوقع بعضهم حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، ولن يستفيد منها إلا حزب الرابطة الإسلامية التابع لنواز شريف. ويتوقع آخرون تدخُّل الجيش مرة أخرى لحل الأزمة، وإن كان هذا من الحلول المستبعدة، ولا سيما أن البلاد تنفست الصعداء بتخلصها من حكمٍ عسكري عشش فيها لأكثر من ثماني سنوات، زرع فيها مفاسد كثيرة ما زالت تعاني منها؛ فهل يمكن أن يقدِّم لنا القضاء الذي كان المسمارَ الأخير في نعش برويز مشرف حلاً للأزمة التي تعاني منها البلاد؟ هذا ما ستخبرنا به الأشهر القليلة القادمة إن شاء الله.

أعلى