التقسيم والفدرلة عند الليبراليين العرب

التقسيم والفدرلة عند الليبراليين العرب


 

تعدُّ مشكلة التقسيم إحدى أهم مشكلات الواقع السياسي العربي الحديث، فالعرب لم يعرفوا هذا التقسيم بشكله الحالي سابقاً، وإنما حدث منذ مائة عام تقريباً، وبعد الحرب العالمية الأولى، والذي أحدث هذا الواقع الجديد هو الأجنبي بالدرجة الأولى (سايكس – بيكو)، ومشاريع التقسيم في العالم العربي مصدرها غالباً الأجنبي، وهناك مشروعات مختلفة مطروحة في الغرب لتقسيم العالم العربي، والجدل الذي يحدث في العالم العربي حول التقسيم هو صدى لتلك المشروعات كما حدث في 2007 عندما صوّت الكونجرس الأمريكي بموافقة الأغلبية على مشروع السيناتور (جوزيف بايدن) حينها -نائب الرئيس الأمريكي حالياً -. ومع الثورات العربية صعد شبح التقسيم من جديد، وبدأ الإعلام الرسمي العربي بالتخويف من هذه الثورات باعتبارها مخططاً أجنبياً يهدف إلى تقسيم البلدان العربية، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن - ولله الحمد -. وباعتبار أن الليبراليين العرب غالباً أذرع تدعم سياسات الدول الغربية التي أحدثت تقسيم العالم الإسلامي وتدعم اليوم استقلال أجزاء عن هذه الكيانات المقسمة أصلاً؛ ففي هذه المقالة سنستعرض بعضاً من مواقف الليبراليين العرب من التقسيم والفدرلة في القديم والحديث، من خلال خطابهم وممارستهم السياسية.

أولاً: التقسيــــم

اتفاقية سايكس بيكو:

ما زال حاضراً في ذهن العرب اتفاقية سايكس بيكو بصفتها وثيقة أجنبية أسهمت في تقسيم بعض البلدان العربية التي كانت مجتمعة تحت راية واحدة، وهي التي رسمت جزءاً كبيراً من واقعها السياسي الحديث. هذه الوثيقة السلبية أسهمت في إضعاف القوة العربية من خلال تقسيمها، وتعدُّ انقلاباً على عهود قطعتها بريطانيا حينها للشريف حسين بتنصيبه ملكاً على العرب جميعاً في دولة واحدة غير مقسَّمة، وبسبب دورها في تقسيم بعض الدول العربية هي محل رفض عند كثير من الاتجاهات العربية والإسلامية حتى اليوم.

ينظر بعض الليبراليين العرب إلى هذه الاتفاقية بشكل مختلف، فيرى بعضهم أنها أسهمت في حقن دماء العرب التي كان من المتوقع أن تسيل على طرف الكعكة العثمانية، وأشار إلى هذا شاكر النابلسي في وصفه هذه الوثيقة من الذاكرة العربية! بقوله (ويتذكر تقسيم بريطانيا وفرنسا للعالم العربي بموجب اتفاقية سايكس - بيكو السرية عام 1916، التي استبقت بسنوات طويلة النزاعات الدينية والعرقية في العالم العربي، بعد رفع السيف العثماني عن رقاب العرب، ووفرت على العرب حروباً أهلية كثيرة بتقسيمها العالم العربي إلى دول حالية أصبحت حامدة وشاكرة للغرب صنيعه ذاك)[1]، وهو تفسير عجيب، إذ إن الأجنبي منذ اتفاقية سايكس - بيكو حتى اليوم أراق من الدماء العربية والإسلامية أكثر من الدماء التي أراقها العرب في صراعهم بينهم عبر تاريخهم كله ربما! وهو افتراض فظيع يتخيل السيئ في أمته دائماً ويبرئ عدوها من دمها! إذ إنه يصور العرب بصورة وحشية متعطشة لدماء بعضهم، والمحتل بصورة ملائكية يكون فيها حريصاً على دمائهم التي ما قسمهم إلا ليختلفوا بينهم ويتصارعوا فتسيل تلك الدماء! وينشغلوا عن دمائه.

يطلعنا الأمين العام للحزب الليبرالي العراقي هادي المالكي على فائدة أخرى للاتفاقية، وهي فائدة التحديث السياسي، فيقول عن الانتدابات التي جاءت بها الاتفاقية (لو نظرنا إليها اليوم، أي الانتدابات، بنظرة واقعية وموضوعية، لوجدناها مرحلة ضرورية ولازمة لمساعدة تلك الدول العربية - الناشئة حديثاً والتي يغلب على سكانها الطابع القروي والبدوي - على إنشاء وتهيئة إداراتها ومؤسساتها الحكومية وتدريب كوادرها على ممارسة شؤون الحكم وإدارة الدولة)[2]. إن تشريع الاحتلال باعتبار فوائده المادية على الشعب المحتل، صورة مشابهة لحالة بعض الأفارقة المتخلفين الذين كانوا يفرحون باحتلال الأجنبي لهم لأنه عرّفهم بالملابس والنظافة! وتفكير بسيط يفترض أن الجيوش تتحرك لغزو بلدان أخرى لأنها تريد أن تهبها الحداثة والخير بالمجان فقط، وليس لسرقة ثرواتها وخيراتها أيضاً.

وفي محاولة للتقليل من مشكلة التقسيم يرى أن الاتفاقية لم تفعل أكثر من اعتماد تقسيم ما هو مقسم! فيقول (كما أن هذه الاتفاقية التي يعزي لها القوميون العرب تقسيم البلاد العربية، لم تفعل أكثر من إعادة تحديد هذه البلاد بعد انفصالها عن الدولة العثمانية على الأساس التاريخي الذي قامت عليه منذ صدر الإسلام، حيث كان العراق ولاية والشام ولاية أخرى)[3]، وهو جهل بالتاريخ، فلم تكن الشام أربع ولايات مستقلة بذاتها، فجاء الأجنبي ورسم الحدود بينها فقط كما يتخيل المالكي، ولم يكن بين العراقي والشامي حاجز عسكري أو سياسي.

قرار التقسيم رقم 181:

في 29 نوفمبر 1947 صدر قرار الأمم المتحدة رقم 181، والذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام:

- 45 % للفلسطينيين.

- 55 % لليهود.

- مدينة القدس تكون تحت وصاية دولية بإشراف الأمم المتحدة.

وقد رفض جميع العرب هذا القرار لاعتبارات عدة، وكان القرار الشرارة التي أطلقت الجهاد ضد اليهود - بعد انقطاع ثماني سنوات - حتى نكبة 1948، والتقسيم هنا واقع على مساحة أرض صغيرة، وأيضاً هو لمصلحة عدو من خارج النسيج المسلم، ومع هذا نجد الخطاب الليبرالي اليوم يطرح خيار السلام والتطبيع مع دولة الاحتلال وفقاً لحل الدولتين الذي صدر في هذا القرار، واعتبار التقسيم والاعتراف بحق اليهود في ذلك الجزء المقسوم الحلَ لمشكلة النزاع بين الطرفين.

رفض في البداية الليبرالي إسماعيل صدقي رئيس الحكومة المصرية (فبراير – ديسمبر 1947)، دخول مصر الحرب مع دولة الاحتلال، وكان يرى أن مصر من الممكن أن تتعايش مع دولة يهودية على حدودها وفقاً لقرار التقسيم.

ويعدّ شاكر النابلسي رفض العرب قرار التقسيم مجرد اعتباط عربي تسبّب في ضياع فلسطين فيقول (هكذا هم فعلوا مع القضية الفلسطينية حين أنكروا الوضع الجديد في فلسطين عام 1948، وركبوا رؤوسهم، وناطحوا الصخور، ورفضوا التقسيم، فأضاعوا فلسطين كلها، وليس أقل من نصفها كما كان مقرراً في عام 1948)[4]. رفض العرب للقرار لم يكن بهذه السطحية أو الاعتباط الذي يصوره النابلسي؛ فهو يقضي بقيام كيان صهيوني شرعي بجانب الدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين، ولم يكن يعيش اليهود المحتلون حينها على أكثر من 7 % من أراضيها، ونسبة وجودهم بعد الهجرات المتكررة لم تتجاوز 32 % من السكان، فهو ظالم بكل المقاييس؛ لذلك رفضه العرب، وفي كل الأحوال لو حصل ووافق العرب على القرار؛ فإن اليهود قد رفضوه بعد صدوره مباشرة، وهم الذين بيدهم تنفيذ القرار هنا لا العرب ولا الغرب.

تقسيم اليمن:

جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1967 -1990) هو اسم لكيان سياسي كان قائماً في الجزء الجنوبي من اليمن قبل أن يتحد مع الجزء الشمالي من اليمن في عام 1990، وهناك قوى سياسية مختلفة من جنوب اليمن تسعى اليوم إلى إعادة الوضع كما كان قبل الوحدة بفصل الجزء الجنوبي من اليمن في دولة مستقلة عن كل الدولة اليمنية.

التجمع الديمقراطي الجنوبي (تاج)[5] هو أحد التجمعات الليبرالية في جنوب اليمن التي تعمل منطلقة من هدف أساسي، وهو فصل جنوب اليمن عن كل اليمن ليصبح دولة مستقلة، فقد جاء في صفحة التجمع على الإنترنت تحت خانة التعريف بالتجمع ما نصه (وحدد التجمع هدفه الرئيس المتمثل في تمكين شعب الجنوب من حق تقرير المصير والتحرر من الاحتلال اليمني واستعادة الدولة الجنوبية المستقلة كما عرفها العالم بعضويتها الكاملة في جميع المنظمات الإقليمية والدولية حتى مايو 1990م)[6]. ومع مراعاة مشكلات الجنوب اليمني، فإن طرح تقسيم المقسم هو مشروع إضعاف جديد، ولن يكون له دور في قوة أحد، بل سيضطرهم إلى عقود وتفاهمات مع الأجنبي مستقبلاً سيجدون أنفسهم بسببها أضعف من السابق وأضيع لحقوقهم، الفرق هذه المرة أنها لم تذهب للقريب بل للبعيد.

 تقسيم السودان:

كان السودان في زمن مضى جزءاً من مصر، وكان الملك فاروق (1920 - 1965) يدعى بملك مصر والسودان، وكانت تقع تحت سيادة مشتركة بين مصر والاحتلال البريطاني وفقاً لمعاهدة 1936 حتى عام 1951 عندما ألغى الليبرالي مصطفى النحاس تلك المعاهدة من طرف واحد، وبدأت مسيرة فصل السودان عن مصر حتى اكتملت بشكل نهائي بإعلان البرلمان السوداني في 1/1/1956 جمهورية السودان دولة مستقلة، ومنذ ذلك الوقت كان خيار فدرلة السودان مطروحاً إلى أن انتهى بعد تطبيقات مختلفة بفصل جنوب السودان في دولة مستقلة عام 2011، وما زال خيار الانفصال مطروحاً في أقاليم أخرى من السودان.

يدعم الحزب الديمقراطي الليبرالي الموحد السوداني خيار وحدة السودان ويرفض التقسيم، لكنه لا يمانع أن تُمنَح أقاليم السودان حق تقرير انفصالها عن السودان في كيانات سياسية مستقلة، فقد جاء في بيان أصدره المكتب التنفيذي للحزب بتاريخ 10/1/2010 (إن حزبنا إذ يقف مع حق تقرير المصير كحق ديمقراطي لكل شعوب وأقاليم السودان، فإنه يعلن أن هذا الحق لا يمكن أن يمارس في ظل الدكتاتورية والدولة الدينية وتحت ضغوط القوى الانفصالية في الشمال والجنوب، لأن هذا سيدفع الناس دفعاً للانفصال ويهدد بتفكك السودان، وإنما شرطه الأول أن يتم في ظل ظروف الديمقراطية والعدالة والعلمانية)[7]. هذا التصور هو جزء من فهم الليبرالية للحرية السياسية التي لا تنتهي عند إضرارها بالقريب أو كيان الأمة العام ما دام الفرد يطلب تلك الحرية، وعليه فالحزب يرفض، لكنه وفقاً لأصوله في الحريات يعدّ الانفصال حقاً لمن يريده.

ثانياً: الفدرلة

الفيدرالية: نموذج سياسي لدولة واحدة فيها دولة مركزية وولايات تابعة لها، ويملك الكيان الداخلي للولايات حكماً ذاتياً تحدد فيه الولايات السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، والقضائية)، ويتم ذلك داخلياً دون تدخل من أي كيان سياسي آخر في الدولة، وهي تختلف عن (الكونفدرالية) من جهة أن الأخيرة تجمع دولاً منفصلة ومستقلة بذاتها في تجمع سياسي موحد، بينما الفيدرالية تجمع ولايات مختلفة تحت كيان واحد، سواء كانت مستقلة في دول قبل الفيدرالية أو مجتمعة تحت دولة مركزية، و(الفدرلة) هنا استخدام يقصد به تقسيم بلد متحد في كيان سياسي واحد إلى كيانات سياسية، خلافاً لحقيقة الفيدرالية التي تستخدم في أصل المصطلح اللاتيني ويقصد بها (الاتحاد) لا تجزئة المتحد.

الفيدرالية هي محل وفاق عند الليبراليين العرب؛ لأنها سبب للمحافظة على وحدة البلدان العربية وليس تقسيمها، والمعارض منهم لخيار الفيدرالية لا يعارض أصل الفكرة، وإنما يعارض تطبيقها في بعض البلدان كالعراق، ومن المعارضين عبدالرحمن الراشد الذي يقول (ومع أن فكرة الفيدرالية ليست خاطئة، وقطعاً ليست خطيئة، على اعتبار أنها واحدة من صيغ الحكم المجربة والناجحة في العالم، مثل ألمانيا والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، إلا أن الوضع العراقي ليس مهيأً بعد لمثل هذا الطرح. وسيأتي يوم مناسب عندما يستقر العراق بشكل كامل، وبعدها يمكن للفيدرالية أن تكون مضمونة العواقب، لا مدخلاً لتفكيك البلاد وإدخاله في حروب تمزيقية)[8].

وفي دعم الليبراليين خيار الفيدرالية في العالم العربي، يرى شاكر النابلسي أن الفيدرالية نظام حكم حداثي مثالي فيقول (الفيدرالية تعني الحداثة في أسمى صورها)[9]، ويقول هي (أرقى نظام سياسي في العالم)[10].

وحيث ما وجد التعدد والتنوع فهو سبب لفدرلة ذاك البلد، وإن كان متحداً سياسياً، فيرى النابلسي أن نجاح مشروع الفدرلة في العراق سيكون سبباً مشجعاً لانتقالها إلى بلدان عربية أخرى فيقول (النظام الفيدرالي - فيما لو طُبق تطبيقاً كاملاً وسليماً في العراق - سوف يحل الكثير من مشاكل العراق المتعدد والمتنوع، وفيما لو تم تطبيق الفيدرالية في العراق، وأتت هذه الفيدرالية أُكلها بالعافية على العراق ككل، فسوف تكون نموذجاً يُحتذى في عدة بلدان عربية تعاني طوائفها العرقية والدينية من العزل السياسي والاجتماعي والثقافي، كما كان الحال في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية 1921)[11].

وفي التأكيد على أن الفدرلة حل مثالي لأقطار عربية أخرى يقول تركي الحمد (أعتقد أن الفيدرالية هي جزء من الحل السياسي الأمثل، عملياً، لشكل الدولة في كثير من الأقطار العربية، إن لم يكن أكثرها. مشاكل واضطرابات مثل تلك التي تجري في منطقة القبائل الجزائرية، والنزعات الاستقلالية الأمازيغية في شمال إفريقيا العربي، أو العلاقة المتوترة بين شمال السودان وجنوبه، أو التركيبة السكانية العراقية بأعراقها وطوائفها، ومثلها التركيبة اللبنانية، أو الصومال المنسي، وغيرها من مشكلات داخلية عربية من هذا النوع؛ قد تجد حلاً لها، حتى لو كان حلاً نسبياً لا كلياً، في التنظيم الفيدرالي للدولة)[12].

وفي حديث لقناة الجزيرة عن تقسيم العراق يقول عمرو حمزاوي عن الفدرلة (علينا ألا نخشى الفيدرالية في العالم العربي، الفيدرالية تعني احتمالات ديمقراطية لإدارة التنوع، لكن شريطة عدم البعد عن التوافق الوطني وعدم السير في طريق انفصالي تام، إذ الأمر مرهون بقدرة المواطنين العراقيين على التعبير عن آرائهم وعلى الحفاظ على التماسك الإقليمي للعراق كدولة ذات سيادة)[13].

ويؤكد عادل عبد العاطي مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب الديمقراطي الليبرالي الموحد السوداني دعم حزبه لخيار الفيدرالية فيقول (ويرى الحزب ضرورة قيام الوحدة على أساس المساواة التامة بين المواطنين واتباع النظام الفيدرالي وإجازة دستور وقوانين علمانية)[14].

إن دعم الليبراليين العرب للفيدرالية في الحقيقة يتعارض مع أصلهم في المواطنة التي تذوب فيها الفروقات الدينية والعرقية والجغرافية في كيان سياسي واحد يكفل للجميع الحقوق على مستوى واحد دون أي تفريق، وينتظر من الجميع الولاء للوطن الواحد فقط، فهذه الكيانات التي ستولدها الفيدرالية ستقسم الأقاليم في الأساس على فروقات دينية أو عرقية، خصوصاً في بلداننا العربية، فالبلدان التي يطرح فيها خيار الفدرلة هي غالباً ما تعيش في إثنيات دينية وعرقية متصادمة، واقترح خيار الفيدرالية كحل لمشاكل هذه الإثنيات، وهو الأمر الذي يؤكده الحمد في حديثه السابق عن الأديان في لبنان، أو الطوائف في العراق، أو الأمازيغية والقبائل، وهنا نتساءل: كيف يطرح الخطاب الليبرالي المواطنة كحل لمشكلات الطائفية والعنصرية داخل الدولة، وفي الوقت نفسه يطرح الفيدرالية على أساسيات طائفية وعنصرية، وهو الأمر الذي يتعارض مع فكرته (المواطنة)؟!

 الفدرلة طريق إلى التقسيم:

الفيدرالية تنجح عندما يكون هناك انقسام سياسي سابق يسعى إلى الوحدة لعدة مصالح، وأيضاً عندما تكون الدولة المركزية قوية تحمي الكيانات الصغيرة، وتجد الكيانات الصغيرة فائدة مادية في بقائها ضمن الدولة؛ في هذه الصورة الفيدراليةُ مرشحة للنجاح، أما اقتراح الفيدرالية في كيان مفكك ومرشح للتفتيت، ويطمح الناس في كل إقليم إلى الانفصال عن الدولة، ولا تملك الدولة المركزية شيئاً تقدمه للأطرف يدفعها للبقاء ضمن كيانها، أو تفقد القدرة على إبقاء الولايات مرتبطة بكيان واحد؛ في هذه الصورة يعد الانفصال حقيقة حتمية تأتي بعد الفدرلة، لذلك عندما يطرح الليبراليون العرب خيار الفيدرالية باعتباره ضمانة من التقسيم في مثل هذه الحالة – والتي هي واقع البلدان العربية التي يطرح فيها خيار الفدرلة -، هو مجرد ذر للرماد في العيون، أو المخدر الذي يسبق عملية جراحة تقطيع الأطراف.

وهذا المستقبل الموحش للفدرلة هو حقيقة ما جرى في السودان، فقد كان خيار الفيدرالية مطروحاً منذ خمسينيات القرن الماضي، ثم تحول إلى واقع حكم اتحادي يسمى الفيدرالي، ثم انفصل جزء منه بشكل كامل في عام 2011 تحت اسم دولة جنوب السودان، وما زال هناك آخرون يطالبون بالانفصال أيضاً أو حق تقرير المصير.

يقول ناشط سياسي من جنوب اليمن عن مشروع الفيدرالية المشروط باستفتاء، والمطروح في اليمن؛ (إن من إيجابيات هذا المشروع مثل ما يراه البعض وهم قلة من أبناء الجنوب، أنه يعدّ الحل المؤقت للقضية الجنوبية الذي سوف يسهل لنا بعد فترة محددة استعادة دولتنا دون تضحيات كبرى)[15].

يؤكد الشيخ الدكتور حارث الضاري أن فدرلة العراق طريق إلى تقسيمه، ففي جواب له على سؤال عن الدعوة إلى الفيدرالية في العراق يقول (ليست الدعوة إلى الفيدرالية جديدة؛ فهي تعود إلى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لكن تجددت الدعوة إليها بعد احتلال أمريكا للعراق من شركاء العملية السياسية الذين اتفقوا على (فدرلة) العراق وتقسيمه في مؤتمراتهم سنة 2001م، وسنة 2002م، في صلاح الدين، ثم بعد ذلك في مؤتمر لندن عام 2002م؛ حيث اتفقوا جميعاً على (فدرلة) العراق سعياً من بعض الأطراف إلى تقسيمه في النهاية، والأمريكيون هم وراء التقسيم؛ فالكل سمع بمشروع بايدن الذي لا يزال صاحبه يتابعه بجد ونشاط، وإن أظهر في بعض المراحل تراجعه أو تأجيله أو تجميده. فأمريكا مهتمة بالتقسيم؛ لأن التقسيم مطلب بريطاني ومطلب صهيوني ومطلب لبعض الأمريكيين من رجال الإدارة السابقة، وغيرهم في الحزب الجمهوري، وكذلك الحزب الديمقراطي)[16].

إن التقسيم هو أحد أسباب ضعف الأمة، وسلب ثرواتها، وهو مشروع أجنبي بامتياز، ويصب في مصلحة الأجنبي.. وبما أن الليبراليين العرب داعمون لكثير من السياسات الغربية في بلداننا، فالنتيجة المنطقية والحقيقية كما استعرضنا بعضها في تصريحاتهم وممارساتهم؛ أنهم داعمون لمشروعات التقسيم أو مقدماته (الفدرلة).

:: مجلة البيان العدد 305 محرم 1434هـ، نوفمبر 2012م.


 

[1] مقال بعنوان (تقسيم العراق: هل هو كالكي آخر الدواء؟) منشور في موقع الحور المتمدن بتاريخ 7/10/2007.

[2] مقال بعنوان (المزاعم الواهية للفكر القومي العروبي: سايكس – بيكو والدولة الحاجزة) منشور على صفحة الحزب

https://docs.google.com/document/edit?id=1s8r0Yx3WqeU2A8A7Fxv7P8GlU8ThH25LaEurYUFF-Uw&pli=1.

[3] المصدر السابق.

[4] مقال بعنوان (العالم الحر يمهر العراق الجديد بخاتم الشرعية) منشور في موقع الحور المتمدن بتاريخ 12/6/2006.

[5] تكتل سياسي ليبرالي يماني أسس في عام 2004.

 [6] http://tajaden.org/abouttaj.html.

[7] http://ldps.org/index.php?option=com_content&view=article&id=89:2010-01-18-13-26-10&catid=44:2008-08-12-03-16-24&Itemid=65.

[8] مقال بعنوان (الجلبي يريد خمس النفط) منشور في صحيفة الشرق الأوسط.

[9] مقال بعنوان (السنة والفيدرالية والدستور العراقي) منشور في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 29/8/2005.

[10] المصدر السابق.

[11] مقال بعنوان (هل ستصبح الفيدرالية العراقية نموذجاً عربياً يحتذى؟) منشور في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 7/9/2005.

[12] مقال بعنوان (الدولة العربية.. مما تشكو الفيدرالية) منشور في صحيفة الشرق الأوسط.

[13] http://www.aljazeera.net/programs/pages/56f47ce8-c7f7-4aad-bf8a-ddefc4fc9354 .

 [14] http://www.sudaneseonline.com/ar1/publish/article_1775.shtml .

[15] أرسلان السقاف في مقال بعنوان (مشروع التحرير والاستقلال ومشروع الفيدرالية وأيهما يشكل خطراً على القضية الجنوبية)، منشور في موقع عدن الغد بتاريخ 2/3/2012.

[16] حوار مع الشيخ حارث الضاري أجراه حارث الأزدي، نشرته مجلة البيان في عدد المجلة رقم 295.

http://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=1694

أعلى