• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
السودان... أمران أحلاهما مُرٌّ!

السودان... أمران أحلاهما مُرٌّ!


الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وبعد:
فقد أُعلِنَت نتائج انتخابات السودان التي ستشكِّل هياكل السلطة لمدة محدودة حسب نتائج استفتاءٍ على وضع الجنوب سيجري بعد بضعة أشهر من الآن، ومن ثَمَّ يمكن النظر إلى هذه الانتخابات على أنها مجرد معبَر للمرحلة المقبلة؛ وهذه إشكالية سياسية وإدارية لبلد جرى تقسيمة على أرض الـواقـع بين شمالٍ وجنـوبٍ لكلٍّ منهما رئيسه وجيشه؛ وما الخلافات الحدودية المسلحة في أبيي ودارفور إلا إشارة إلى طبيعة العلاقات المستقبلية بين كيانين يُرَاد لهما الانفصال والتباعد.
ومن المشكلات التي نرى أنها ستواجه السودان مستقبلاً، هي: هل سينفصل الجنوب أم سيبقى - بصورة أو بأخرى - ضمن سودان جديد غير واضح المعالم؟ لكن المشكلة الأخطر من ذلك أن المستهدَف الأساسي هو هوية السودان المسلم؛ حيث أصبح السودان الحالي مكوَّناً من حكومة مركزية شكلية وحكومة معلَنَة للجنوب تهيمن عليها بصـورة مُطْلَقة الجبهـة الشعبية لتحـرير السـودان، ولا تسمح بأي نشاط مؤثِّر للأحزاب الأخرى في الولايات الجنوبية؛ حيث منعت نشاط حزب (المؤتمر الوطني) بالقوة عن طريق حَرْق مراكزه هناك، بل بقتل بعض ناشطيه أثناء الانتخابات!
ويبدو أن المؤتمر قد تخلَّى من جهته عن منافسة الجبهة الشعبية في الجنوب لحسابات خارجية أهمها: أنَّ سكوت محكمة الجزاء الدولية حالياً، واعتراف الاتحاد الأوروبي وأمريكا بنتائج الانتخابات، ومن ثَمَّ التسليم بزعامة الرئيس البشير، كل ذلك ثمنُه تَرْك الجنوب حِكراً على الجبهة الشعبية التي قدَّمت زعيمها لرئاسة وزراء جنوب السودان ولم ينافسه أحد من الأحزاب الشمالية، وكانت نتيجة انتخابات الجنوب فوزَ زعيم الحركة الشعبية ورئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت بمنصب رئاسة الجنوب بحصوله على ما نسبته 92.99 % من أصوات الناخبين في الجنوب، ولم يحصل منافسه لام أكول أجاوين زعيم الحركة الشعبية التغيير الديمقراطي إلا على نسبة 7 % من هذه الأصوات؛ ومع ذلك لم يتكلم أحد عن مصداقية انتخابات الجنوب؛ فالمقصود هو الوصول إلى مرحلة الاستفتاء؛ ذلك أن وَضْعَ الحكومة الجنوبية يسمح بأن تقرر الجبهة الشعبية (ومن يرعاها) الأنسبَ من بقاء الجنوب ضمن كيان السودان أو انفصاله. أما في الشمال فالوضع مختلف؛ حيث إن الحكومة المركزية هي في حقيقتها حكومة للشمال فقط؛ وما نسمعه من تعددية حزبية وزعامات متنافسة فهو وضع محصور في الشمال فقط. ونتيجة انتخابات الرئاسة تعطي مؤشراً لمقدار التشرذم الحاصل على الساحة السودانية؛ فقد كانت النتائج المعلَنَة كالآتي:
1 - عمر حسن البشير (حزب المؤتمر الوطني) 68.24 %.
2 - ياسر سعيد عرمان (شمالي) يمثل الحركة الشعبية لتحرير السودان 21.69 %.
3 - عبد الله دينق نيال (جنوبي) يمثل حزب الترابي (المؤتمر الشعبي) 3.92 %.
4 - حاتم السر علي سيكنجو (الاتحاد الديمقراطي)  1.93 % .
5 - الصادق المهدي (حزب الأمة) 0.96 %.
وحصل على أقل من ذلك كلٌّ من مرشح حزب الأمة (الإصلاح والتجديد)، والزعيم التاريخي للحزب الشيوعي السوداني محمد إبراهيم نقد، وفاطمة أحمد عبد المحمود مرشحة الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي. وهؤلاء خليط من العسكريين، والقادة الطرقيين، وبقايا اليساريين والشيوعيين...
إنها حقاً فوضى عارمة؛ فالحركة الشعبية التي تُعِدُّ العدة للانفصال تدفع بياسر عرمان الشمالي للتنافس على الرئاسة ومن ثَمَّ ينسحب؛ ولكن المهم أن الجبهة الشعبية لها رجالها في الشمال حتى في حال الانفصال. أما المؤتمر الشعبي (أو الترابي) فهمُّه إبعاد البشير؛ فهو لا يعترف بنتائج الانتخابات (المزوَّرة) ويبقى مع ذلك في السباق الانتخابي ويقدِّم مرشحه الجنوبي المسلم الذي كان وزيراً في حكومة الإنقاذ، ويبرر هذا الاختيار بأنه يتبنَّى سودان المساواة، ولكن ثمة تساؤل مهم: لماذا لم يقدِّم هذا المرشح في الجنوب؟ ولماذا لم يقدم (الترابي) أحدَ قيادات المؤتمر في دارفور؟
إنها مجرد تساؤلات تثيرها تصريحاته ومقابلاته التي يعترف فيها بدعم المعارضة المسلحة في درافور، وأنه يؤيد قضيتهم؛ ففي تصريح له في مقابلة مع موقع الجزيرة نت يلخِّص علاقته بأحداث دارفور وأسبابها الحقيقية؛ حيث قال: «هم (أي: قادة المعارضة بدارفور) خريجو جامعات، وأغلبهم أبناء الحركة الإسلامية؛ وكانوا وزراء معهم في الحركة نفسها، وهو (أي: البشير) انحرف، ونحن اعتزلناه وظللنا نصارعه سياًسياً ويسجننا حيناً بعد حين». إن الترابي بهذه النفسية يمثل الحلقة الأضعف في الزعامات الشمالية.
السودان إلى أين؟
إن الذين طبَّلوا لاتهامات المحكمة الجنائية الدولية وتبنوا تطبيق قراراتها والتهديد باعتراض طائرة الرئيس البشير يرسلون اليوم مبعوثاً خاصاً للسودان اسمه: سكوت غريشن يصول ويجول في السودان ويقابل - بكل حرية - الزعماء الحاكمين والمعارضين على حدٍّ سواء، بل يعقد الصداقات مع بعضهم ويُعرِب عن ثقته بأن الانتخابات ستكون حرة، نزيهة قَدْر الإمكان، وأن الإدارة ستتعامل مع الفائز أياً كان.
أما عرَّاب كامب ديفد فهو راعي تمرُّد الجنوب، وكان له دور كبير في إيقاف تقدُّم الحكومة عندما حُصِر التمرد على الحدود الأوغندية واستمر في رعاية ما يسمى بالسلام؛ فقد أتى مع جماعته التبشيرية التي تتستر خلف ما يسمى بمؤسسة كارتر للإشراف على نزاهة الانتخابات، أو بعبارة أصح: للإشراف على استكمال تطبيق اتفاقية نيفاشا؛ ذلك أن هذه الانتخابات يجب أن تسبق الاستفتاء؛ ولذا فإنها شرعية وإن لم ترقَ إلى المعايير الدولية... هذا هو مؤدَّى كلام الرئيس الأمريكي السابق كارتر الذي صرَّح في مؤتمرٍ صحفيٍّ في الخرطوم بأن: («القسم الأكبر» من المجتمع الدولي سيعترف بنتائج الانتخابات السودانية التعددية الأولى منذ ربع قرن؛ حتى وإن كانت غير متماشية مع المعايير الدولية). ويلاحَظ في كلمته هذه أنه يتكلم باسم المجتمع الدولي؛ ولذا فلا غرابة أن تُكرِّر كلامَه رئيسةُ المراقبين الأوروبيين، وأن الرئيس الذي كان مطلوباً  بالأمس أصبح اليوم رئيساً شرعياً؛ ولكن إلى متى؟
إلى أن يجري الاستفتاء الذي سينتج عنه أحد أمرين:
الأول: أن يبقى السودان موحداً بهوية جديدة، ويبقى التصنيف الأمريكي وسيف المحكمة الدولية مسلطاً فوق الرئيس يحدُّ من حركته ويُضعِف أداءه؛ وإذا كان نائب الرئيس جنوبياً فالمثال النيجيري ليس ببعيد.
الثاني: أن ينفصل الجنوب، ويدخل ما بقي من السودان تحت تأثير مشاريع انفصال جديدة في دارفور والشرق، وتعود نغمة حصار السودان، مع صراع حدودي مسلَّح مع دولة الجنوب الوليدة.
إنهما أمران أحلاهما مُرٌّ، ولا يمكن الخروج منهما بحلولٍ تُفَصَّل في الخارج على أيدي الأعداء؛ فالأمر أخطر من أن نقف عند تجاوزاتٍ انتخابيةٍ، أو حكومة مختلَطَة تشلُّها الخلافات والمناكفات الحزبية، وأخطر من أن يُحَل بتسويات مؤقَّته؛ فمن سيسلِّم الجنوب للجبهة الشعبية لن يهنأ بحكم الشمال، ومن أشعل دارفور لن يجد سوداناً يحكمه. وإذا كنا نحزن للغياب غير المبرر للعرب والمسلمين فإن الأمل معقود على الله أولاً ثم على المخلصين من أهل السودان الذين يتمسكون بهوية السودان المسلمة؛ إذ السودان بحاجة إلى القوي الأمين.
إن ما جرى من انتخابات وما سيليها من خطوات ليست مقصودةً لذاتها؛ إذ الهدف هو كيانٌ سودانيٌّ عديم الهوية يتدخل الغرب في كل كبيرة وصغيرة فيه، أو كيانٌ جنوبي مرتبطٌ بالغرب سيكون أداة مؤثِّرة؛ لإزعاج شمال السودان ومصر بإثارة الصراعات المسلحة، والتوسع بإقامة المشاريع المائية التي ستجعل ما يسمى بحرب المياه حقيقة واقعة.
 

أعلى