• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الوحدة أم الانفصال خلاف العلماء وعدل الشريعة

الوحدة أم الانفصال خلاف العلماء وعدل الشريعة


أصبحت قضية الوحدة والانفصال مثار خلاف بين علماء ودعاة اليمن نتيجة الواقع الذي آل إليه حال كثير من أبناء الجنوب، ومن مختلف الأطياف، من المطالبة بفك الارتباط أو الانفصال أو تقرير المصير. وأصبح الحوار الدائر بين بعضهم يأخذ منحى البغي والبهتان؛ ذلك أن كل طرف من الأطراف يتمسّك بجملة مشتركة يريد منها بعضاً من الحق، ويرفض في المقابل جملة المخالف المشتركة استناداً لما فيها من الباطل.. وهكذا يصبح تأويل الكلام وحمله على غير محمله والطعن في النوايا، هو سيد المشهد. والمؤسف أن يذهب البعض في هذه المسائل - التي مدارها النظرة للواقع أو توصيفه أو تحليله كما هو - إلى إقحامها في مفاهيم الشريعة واصطلاحاتها، وقد يكون منشأ ذلك الجهل في تصور الفوارق في هذه الأمور، أو الالتباس عليه فيها، أو نوع هوى ينزع بالمرء إلى التسلح بدثار الدين والفقه وإظهار الغيرة والحمية عليها!

لذلك يقول ابن تيمية – رحمه الله تعالى - وهو يتناول بعض ما جرى في مسائل العقيدة والشريعة من خلاف، أي وهو يتحدث عن الخلاف في الألفاظ والمصطلحات الدخيلة في هذا الشأن، لا عن أمور لا صلة بها بهذا الميدان: «إن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله.. فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة، ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلى ما لم يبيّنه الله ورسوله، لم يكن الله قد أكمل للأمة دينهم، ولا أتم عليهم نعمته، فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لا بد أن يكون مما بيّنه الرسول، إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله، فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبيّنها للناس؟»[1]. فملاحظ أن ابن تيمية يؤصّل فقط ما يحتاج إليه الناس في أصول دينهم، مما تنازعوا فيه، فهذا مما يوجب فيه الرد إلى الكتاب والسنة، كونه يستحيل أن لا يكون الرسول قد بيَّنه وقد بيَّن الفروع!

«فالنِّزاعُ اللَّفظي» – كما يقول ابن تيمية ذاته - «لا يَضُرُّ إلَّا إذا خُولِفَت أَلفَاظُ الشَّرِيعَةِ»[2]، فإذا لم يكن في الشَّريعة ما يُخالفُ ذلك، لم يكن للنزاع ما يبرره إلا اختلاف وجهات النظر، فلا داعي لتلبيسه لبس الشرع والدين.

وهؤُلاءِ الجامحون كثِيراً ما ينازَعُون في الأَلفَاظِ المـُجمَلَةِ، «وقَد قِيلَ أَكبَرُ اختِلَافِ العُقَلَاءِ مِن جِهَةِ اشتَرَاك الأَسمَاءِ»[3]، فإنَّ «مِمَّا كَثُرَ فِيهِ نزاعُ النَّاسِ بِالنَّفيِ وَالإِثبَاتِ إذَا فُصِّلَ فِيهَا الخِطَابُ ظَهَرَ فيها الخَطَأُ مِن الصَّوَابِ. والوَاجِبُ على الخَلقِ أَنَّ مَا أَثبَتَهُ الكِتَابُ والسُّنَّةُ أَثبَتُوهُ، ومَا نَفَاهُ الكِتَابُ والسُّنَّةُ نَفَوهُ، ومَا لم يَنطِق بِهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ بلا نَفيٍ ولا إثبَاتٍ استَفصَلُوا فِيهِ قَولَ القَائِلِ، فمَن أَثبَتَ مَا أَثبَتَهُ اللهُ ورَسُولُهُ فَقَد أَصَابَ، ومَن نَفَى مَا نَفَاهُ اللهُ ورَسُولُهُ فَقَد أَصَابَ»[4]. و«معرفة اللغات والعرف الذي يخاطب بها كل مخاطب من أهم ما ينبغي الاعتناء به في فهم كلام المتكلمين وتفسيره وتأويله ومعرفة المراد به؛ فإن اللغة الواحدة تشتمل على لغة أصلية وعلى أنواع من الاصطلاحات الطارئة الخاصة والعامة، فمن اعتاد المخاطبة ببعض تلك الاصطلاحات يعتقد أن ذلك الاصطلاح هو اصطلاح أهل اللغة نفسها، فيحمل عليه كلام أهلها، فيقع في هذا غلط عظيم، وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء»[5]. و«من تكلم بلفظ يحتمل معاني لم يُقبَل قولُهُ ولم يُرد حتى نستفسره ونستفصله حتى يتبيّن المعنى المراد، ويبقى الكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات اللفظية، فقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، ومن كان متكلماً بالمعقول الصرف لم يتقيد بلفظ، بل يجرد بأي عبارة دلت عليه»[6].

وهنا يأتي التساؤل عن الوحدة اليمنية القائمة اليوم، والتي نشأت عام 1990م بين حزبين حاكمين، هل هي وحدة إسلامية.. فيجب التزامها وعدم الخروج عليها؟ أم هي وحدة سياسية – حققت مقصداً شرعياً - لكنها ليست هي الوحدة الإسلامية التي يعتبر الخارج عليها باغياً أو خارجياً مفارقاً للجماعة وميتته ميتة جاهلية؟

والإسلاميون على هذا مذاهب:

- فريق يراها وحدة سياسية حققت مقصد الاجتماع، وإن شابها ما شابها أثناء قيامها من دستور علماني جرى تصحيحه – في نظره - بعد ذلك. وعليه فهو يراها وحدة إسلامية شرعية المـُطالِبُ بفكها – من أي صنف كان ولأي عذر كان - مُطالِبٌ بمحرم يخالف الشريعة، ويرى المـُطالِب بفكها جاهلياً وعنصرياً وضالاً، ويسوق فيه كل مذمة! والبعض قد يحكم بحِلِّ دمه للجنود باعتباره داعي فتنة، وربما أجاز قتاله فيما لو قامت حرب مسلحة بين النظام وأطراف في الجنوب[7].

- فريق يراها وحدة سياسية بالأمر الواقع، وهي وإن لم تكن نظاماً إسلامياً شرعياً، إلا أنها تظل صورة من صور الاجتماع والتآخي، وفيها تحقيق لبعض مصالح الناس من ناحية؛ لكنه يرى أن الداعي إلى فكها داعٍ إلى فتنة دهماء، خاصة مع ما يرافق ذلك من التحريش والتحريض على أبناء الشمال من لغة عنصرية تستند إلى تعبئة مناطقية[8].

- وفريق يراها وحدة سياسية قامت على أسس سياسية ومصلحية، ولم يراعَ فيها الجانب الشرعي لا ابتداء ولا انتهاء[9]. فهي في صورتها هذه ليست فرضاً شرعياً بقدر ما هي مصلحة إذا حققت للناس المصالح والعدل، ومفسدة إذا فوّتت المصالح وجرّت الظلم؛ فيكون المطالب بحقوقه والراغب في فك الارتباط عنها لبناء واقعه، مجدداً مطالباً بأمر لا يخالف الشريعة. ويذهب لما أجازه علماء الإسلام – كما نص الجويني في كتابه - من جواز تعدد الدول إذا تعذر توحيد الأمة في إمام واحد وكانت مفسدة ذلك غالبة. فكيف والوضع أساساً ليس وضع خلافة أو حكم إسلامي؟!

والمعضلة ليست في هذا التصنيف، لكن في العبثية التي يمارسها البعض لتمرير وجهة نظره – المحتملة للصواب والخطأ - تحت الحق الذي يرفعه لعدم السماع إلى وجهة نظر الطرف الآخر وتخطئتها إجمالاً. وعوضاً عن فكفكة المصطلحات والألفاظ يتم تعويمها وإطلاقها دون تقييد في سبيل إفحام الخصم باسم الاجتماع المأمور به شرعاً والوحدة الإسلامية.

فالفريق الأول يتهم الفريق الثالث بأنه لا يؤمن بالوحدة الإسلامية، وأنه يدعو لتمزيق اليمنيين، هكذا بإطلاق ودون إيضاح لوجهة نظره كما هي عليه، ومن ثمَّ يجيز لنفسه وصف المخالف بالنعوت التي تنفر عنه: بغاة، خوارج، عملاء، خونة! والوصف ليس لجهات غير إسلامية، بل لإخوة في المنهج والمسار والهدف أحياناً.

والفريق الثاني وإن كان أقل حدة في مواقفه من الفريق الأول تجاه الفريق الثالث، لكنه يرى أن هذا الفريق جاهل وغير واعٍ ومُضلل. والفريق الثالث يتهم الفريق الأول بالتلبيس والمداهنة وخدمة الظلمة والفاسدين والنظر لمصالح فريق دون آخر. وهكذا فإن كل فريق يطعن في الآخر بما يعزز من إقناع الناس بمواقفه، فيغيب منطق التعقل والحوار والتفاهم.

و«غلط هؤلاء وأمثالهم كان من جهة اللفظ المشترك، وقد قيل إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، والله تعالى ورسوله إذا خاطب عباده باسم مشترك كان مقروناً في كل موضع بما يبيّن المراد به، كما في قوله: {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ} [النحل: 120]، أي قدوة للناس يؤتم به أو يقتدى به؛ وفي قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، أي قرن وزمان». و«إذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل.. وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات إذا فُصِّل فيها الخطاب ظهر الخطأ من الصواب».

فالوحدة التي يتمسّك بها الطرف الأول وينزل عليها حكم الخوارج والبغاة والميتة الجاهلية، ليست هي الوحدة القائمة حقيقة، وإذا لم تكن كذلك فإن اصطحاب الأحكام الشرعية عليها هو من باب الزور على الشارع، وإن كان المقصد طيباً والمراد خيراً. وليس من الإنصاف والعدل القول بأن الآخر يرفض الاجتماع الشرعي والوحدة الإسلامية لكونه يرفض الاجتماع والوحدة في صورتهما السياسية القائمة.

كما أن التفكك الذي يسعى إليه الطرف الآخر ليس من الدين في شيء، ولا ينبغي إلباسه لباساً شرعياً؛ لأن مراد الشارع الاجتماع بأي شكل كان، وفي أي صورة كانت؛ لأن اجتماع أهل الإسلام خير لهم ولو لم يكن ذلك في خلافة إسلامية أو نظام حكم إسلامي.. فلا ينبغي إنكار هذا المقصد الشرعي لمجرد معارضته للهوى والمطامع. وليس من الإنصاف والعدل إنكار ما يقعون فيه من إثارة النعرات والعصبيات المناطقية للوصول إلى حق دنيوي، مع ما توجبه من النفرة والبغضاء.

لكن قد يقال: إذا كان هذا الاجتماع، في صورته الواقعية، لم يحقق مقصد الشارع، بل كان فيه من المفاسد ما يغلب المصالح؛ فما الحكم فيه؟! وهل يجوز التخلي عنه حفاظاً على الأخوّة العامة وإن لم تتوافر صورة الاجتماع السياسي؟!

والظاهر من استقراء نصوص الشريعة هو أن مضرة التخلي عن الاجتماع تحتمل فيما لو كانت مفسدة الاجتماع تربو عليها، فيكون الاجتماع صورياً (تراهم جميعاً وقلوبهم شتى). وهذا في كل اجتماع بين اثنين وأكثر، ولأي صفة كانت.. فالشراكة في المال، أو التعاقد على العمل، أو التحالف لمصلحة، أو الاجتماع في وطن أو سكن أو زواج؛ إذا لم تحقق الغاية المرجوة منها، ولم تقم على العدل والرضى بين الأطراف؛ لم يوجب الشارع التزامها مطلقاً، بل أوجد لها من المخارج في حال تعذر العلاج ما يجعل الحياة تستقيم بين الناس حتى مع فك الارتباط.

وهنا أنقل كلاماً نفيساً لابن تيمية – رحمه الله تعالى - وهو يتحدث عمَّا جرى بين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - ومعاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه - من القتال، وهو كلام يحتاج إليه أهل العلم إذا أرادوا التجرد للحق والبحث عن الصواب والوصول إلى العدل.. يقول – رحمه الله: «وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة حتى قال الإمام أحمد: لا يختلف أصحابنا أن قعود علي عن القتال كان أفضل له»[10]، ثم يقول بعد أن يؤكد تنازع السلف والخلف في هذه المسألة: «ولأجل هذه النصوص لا يختلف أصحابنا أن ترك علي القتال كان أفضل؛ لأن النصوص صرحت بأن القاعد فيها خير من القائم، والبعد عنها خير من الوقوع فيها. قالوا: ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته، ومن المعلوم أنهم إذا لم يبدؤوه بقتال ولم يقاتلهم لم يقع أكثر مما ووقع من خروجهم عن طاعته، لكن بالقتال زاد البلاء وسفكت الدماء وتنافرت القلوب وخرجت عليه الخوارج، وحكم الحكمان حتى سمي منازعه بأمير المؤمنين، فظهر من المفاسد ما لم يكن قبل القتال، ولم يحصل به مصلحة راجحة. وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله، فإن فضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها»[11]، ثم يضيف: «فقد تكون المصلحة المشروعة أحياناً هي التآلف بالمال والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة. والإمام إذا اعتقد وجود القدرة ولم تكن حاصلة كان الترك في نفس الأمر أصلح»[12].

فهذا ابن تيمية – رحمه الله تعالى - يرجح أن الأولى بالصواب هو عدم قتال علي – رضي الله عنه - معاوية – رضي الله عنه -، وبقاء كل منهما على ما تحت يده، مع قيام التآلف والمسالمة، جاعلاً هدي الرسول صلى الله عليه وسلم مع أعدائه هدياً للإمام مع مخالفيه[13]، فهو يقول: «ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته علم أنه قتال فتنة، فلا تجب طاعة الإمام فيه، إذ طاعته إنما تجب فيما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص، فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة - الذي تركه خير من فعله -، لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولي الأمر، لا سيما وقد أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الله والرسول»[14].

ويستطرد ابن تيمية في تناوله لما جرى فيقول: «وحينئذ فبعد التحكيم والتشيع وظهور البغي لم يقاتلهم علي ولم تطعه الشيعة في القتال، ومن حينئذ ذمت الشيعة بتركهم النصر مع وجوبه، وفي ذلك الوقت سموا شيعة، وحينئذ صاروا مذمومين بمعصية الإمام الواجب الطاعة، وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولما تركوا ما يجب من نصره صاروا أهل باطل وظلم.. فصار حينئذ شيعة عثمان الذين مع معاوية أرجح منهم، ولهذا انتصروا عليهم»؛ و«علي هو من الخلفاء الراشدين، ومعاوية أول الملوك، فالمسألة هي من هذا الجنس، وهو قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين، فإن كثيراً من الناس يبادر إلى الأمر بذلك لاعتقاده أن في ذلك إقامة العدل ويغفل عن كون ذلك غير ممكن، بل تربو مفسدته على مصلحته»[15].

ثم يعيب على بعض الذين يوظفون الأمر الشرعي لهوى الملوك والحكام، فيقول: «فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله، ونقرّ بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم؛ بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة؛ فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض فهذا منشأ الفرقة والاختلاف، ولهذا لما اعتقدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع علي جعلوا ذلك قاعدة فقهية، فيما إذا خرجت طائفة على الإمام بتأويل سائغ وهي عنده راسلهم الإمام، فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم وإن ذكروا شبهة بيَّنها، فإن رجعوا وإلا وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين. ثم إنهم أدخلوا في هذه القاعدة قتال الصديق مانعي الزكاة وقتال علي الخوارج المارقين؛ وصاروا فيمن يتولى أمور المسلمين من الملوك والخلفاء وغيرهم يجعلون أهل العدل من اعتقدوه لذلك ثم يجعلون المقاتلين له بغاة، لا يفرقون بين قتال الفتنة المنهي عنه، والذي تركه خير من فعله، كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم وأتباعهم: كاقتتال الأمين والمأمون وغيرهما؛ وبين قتال الخوارج الحرورية والمرتدة والمنافقين كالمزدكية ونحوهم. وهذا تجده في الأصل من رأي بعض فقهاء أهل الكوفة وأتباعهم، ثم الشافعي وأصحابه، ثمَّ كثير من أصحاب أحمد الذين صنفوا باب قتال أهل البغي ونسجوا على منوال أولئك تجدهم هكذا، فإن الخرقي نسج على منوال المزني، والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن، وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب. والمصنفون في الأحكام: يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعاً، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتال البغاة حديث، إلا حديث كوثر بن حكيم عن نافع وهو موضوع. وأما كتب الحديث المصنفة مثل صحيح البخاري والسنن فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج، وهم أهل الأهواء؛ وكذلك كتب السنة المنصوصة عن الإمام أحمد ونحوه. وكذلك فيما أظن كتب مالك وأصحابه ليس فيها باب قتال البغاة، وإنما ذكروا أهل الردة وأهل الأهواء. وهذا هو الأصل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة، فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين فليس في النصوص أمر بذلك. فارتكب الأولون ثلاثة محاذير:

الأول: قتال من خرج عن طاعة ملك معين، وإن كان قريباً منه ومثله في السنة والشريعة، لوجود الافتراق، والافتراق هو الفتنة.

الثاني: التسوية بين هؤلاء وبين المرتدين عن بعض شرائع الإسلام.

والثالث: التسوية بين هؤلاء وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.

ولهذا تجد تلك الطائفة يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة؛ وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم أو أئمة الكلام أو أئمة المشيخة على نظرائهم، مدعين أن الحق معهم، أو أنهم أرجح، بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير لا بالاجتهاد.

وهذا كثير في علماء الأمة وعبّادها وأمرائها وأجنادها، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها.. فنسأل الله العدل؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به»[16].

فهلا تدارك أهل العلم والإيمان في اليمن خلافهم بعيداً عن اصطحاب أحكام شرعية في غير ما وضعت له، بنوع من الهوى والبغي. فقد باتت قضية الوحدة في الوضع السياسي الراهن لليمن محل تجاذبات ومزايدات ومؤامرات. ومن غير المنطق والعقل أن يدخل الإسلاميون في خلاف فقهي بعيداً عن محور القضية الأهم، ألا وهو ما هي المصالح والمفاسد في بقاء الوحدة على ما هي عليه، أو الانفصال في حال وقع؟

فيما تسعى أطراف أخرى لاستغلال هذه الحالة من المناكفات والخلافات لزرع مزيد من البغضاء والشحناء بين هذه الأطراف، بدعم كل طرف في مواقفه المتشنجة البعيدة عن تفهم الآخر والجلوس إليه.

وإن مما ينبغي ابتداء على أهل العلم في اليمن البُعد عن توظيف الأدلة الشرعية للأهواء والآراء غير المطابقة للواقع وإن كانت حقاً في ذاتها؛ فإن هذا التوظيف من قبيل الكذب على الله والافتراق في الدين من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم.

فالمسألة تحتاج إلى مخرج يحافظ على اجتماع القلوب قبل الجغرافيا، وسلامة الدين قبل المصالح، ورعاية الكليات قبل الجزئيات، ومراعاة القدرة والمكنة قبل الأماني الفارغة.. وهذا لا يتم بإنكار الحق والصواب الذي لدى الطرف الآخر، وبعيداً عن لغة الحوار والعقل والإنصاف والعدل معه.

فالواجب التدارس في الأمر والتشاور فيه بين أهل العلم والدعاة والمصلحين من الشمال والجنوب، بعيداً عن ميدان السياسيين وتأثيراتهم، والإعلام ومماحكاته، والاستناد إلى الأبحاث والدراسات والتحليلات الواقعية المحايدة حتى يتم الحكم على الأمور بصدق وتصور صحيح، لا من مجرد الظنون والسماع وما يحملانه من تهوين أو تهويل.

 

:: مجلة البيان العدد 313 رمضان 1434هـ، يوليو – أغسطس 2013م.


[1] درء تعارض العقل والنقل لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - المملكة العربية السعودية، ط2/1991م، ج 1/233.

[2] الفتاوى الكبرى لابن تيمية، دار الكتب العلمية، ط1/1987م، ج 1/391.

[3] وهي جملة رددها ابن تيمية - رحمه الله - في كثير من فتاويه ومؤلفاته.

[4] المسائل والأجوبة، من تراث شيخ الإسلام ابن تيمية، ومعه (اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية) للحافظ العلامة محمد بن عبد الهادي، مع (ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية) لمؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي، تحقيق أبو عبدالله حسين بن عكاشة، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر - القاهرة، ط 1/2004م، ج 1/149.

[5] بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لابن تيمية، تحقيق مجموعة من المحققين، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1/ 1426هـ، ج 7/400.

[6] درء تعارض العقل والنقل، مرجع سابق، ج 1/299.

[7] وهذا الفريق يتمثل في بعض علماء الشمال ودعاته، بمن فيهم بعض الذين وقفوا إلى جانب حرب عام 1994م.

[8] وهو فريق له حضور في الشمال والجنوب على حد سواء، وإن كان صوته في الجنوب خافتاً وحضوره أقل.

[9] انظر مثالاً: رؤية حركة النهضة (الجنوبية) الشرعية لقضية الوحدة. وهي تستند في ذلك إلى فتوى علماء اليمن عام 1990م بعدم جواز الوحدة في حينه؛ كونها وحدة على دستور علماني. وهذا التوجه كثير في علماء ودعاة الجنوب.

[10] مجموع الفتاوى لابن تيمية، تحقيق عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية، 1995م، ج 4/439.

[11] المرجع السابق، ج 4/441.

[12] المرجع السابق.

[13] وهو يقول في موضع آخر: «... إن الرسول أخبر بظلم الأمراء بعده وبغيهم ونهى عن قتالهم لأن ذلك غير مقدور؛ إذ مفسدته أعظم من مصلحته. كما نهي المسلمون في أول الإسلام عن القتال، كما ذكره بقوله: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: ٧٧]، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين والعفو والصفح عنهم حتى يأتي الله بأمره». فهو يرى أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أعدائه هو من السياسة الشرعية التي تجري في الأمور المتماثلة حتى مع اختلاف الطرف المقيس عليه في صفته الدينية.

[14] المرجع السابق: ج 4/443.

[15] المرجع السابق: ج 3/444.

[16] المرجع السابق: ج 4/450- 451.

 

 

أعلى