كيفية مواجهة مؤتمرات السكان والتنمية

كيفية مواجهة مؤتمرات السكان والتنمية

 

«اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة جميع أقوامها وكل من يعيش فيها، وتوحيد أنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات والجنسيات والأعراق».. تلك هي العولمة.

فالعولمة لفظ لفكر تمّ إيجاده بعد دراسات واسعة للسيطرة على العالم بأساليب نموذجية وخطط مدروسة وبأجندة أحادية الجانب؛ لتبهر الآخرين بما تحمله من ألفاظ برّاقة وعبارات خدّاعة يبدو في ظاهرها الحق والدعوة إلى الحرية والمساواة، فيسعون جاهدين لتبنّي هذا الفكر التغريبي المناهض ويعملون على ترويجه وتوسيع دائرته ليُتَّخذ نظاماً ودستوراً للحياة بكافة جوانبها.

يقول بات روبرتسون: «لم يعد النظام العالمي الجديد مجرد نظرية، لقد أصبح وكأنه إنجيل».

ولقد علم الغرب أن فرض العولمة لن يؤتي أكله إلا بانسلاخ الأمم من دينها وقيمها الأصيلة، وبذوبان الشعوب في وحل العولمة؛ فعمد إلى إيجاد مؤسسات ومنظمات تقوم بإدارة أيديولوجية العولمة؛ فأُنشئت الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها لتهيمن على ثقافة الأمم والشعوب، وعقدت المؤتمرات العالمية والندوات التي تقوم على إصدار الصكوك والمواثيق حول عدد من القضايا الاجتماعية، وكان من جملة تلك المؤتمرات:

ـ المؤتمر العالمي الأول للسكان، المنعقد في (بوخارست رومانيا)، عام (1394هـ ـ 1974م).

ـ المؤتمر الدولي المعني بالسكان، المنعقد في مكسيكو عام (1404هـ ـ 1984م).

ـ مؤتمر الأمم الدولي عن السكان والتنمية، المنعقد في القاهرة عام (1415هـ ـ 1994م).

ـ المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، المنعقد في الولايات المتحدة عام (1435هـ ـ 2014م).

وبالتأمل في تلك المؤتمرات والنظر فيها، نجد أن هناك جهوداً كبيرة وبأطر غربية بحتة للهيمنة على تلك الشعوب، اقتصادياً وفكرياً وثقافياً وسلوكياً، فغاية المراد جعلها أداة تتحكم فيها القوى العالمية لسلب خيراتها وإعاقتها عن التطور والتقدم، فهي ترى فيها تهديداً لأمنها القومي؛ فزيادة عدد السكان في الدول النامية وما يقابله من تناقص ملحوظ في الدول الغربية، يجعل القوى الرأسمالية تحكم سيطرتها باستعمار خفي لتلك الدول النامية تجلّى ببرامج وخطى ناعمة.

فقد ورد في إحدى الوثائق مطالبة كتّابها بفرض سياسة تحديد النسل في 13 دولة من دول العالم الثالث، 90 في المائة من هذه الدول إسلامية!

واعتبر كيسنجر أن النظر الذي يعتبر التنمية الاقتصادية حلاً للمشكلة السكانية، نظر يهدد الأمن القومي الأمريكي!

وورد في نشرة للأمم المتحدة، صادرة في العام 1989م تحت عنوان: «سكان العالم في بداية القرن»؛ تقرير عن موقع أوروبا المنحصر في الخريطة السكانية للعالم، جاء فيه صراحة أن أوروبا تذوب الآن كالجليد تحت الشمس، حيث قال التقرير: إن سكان القارة كانوا يمثلون نسبة 15٫6 في المائة من سكان العالم عام 1950م، وتراجعت هذه النسبة عام 1985م إلى 10٫2 في المائة فقط من سكان العالم، وهذه النسبة ستصل عام 2025م إلى 6٫4 في المائة لا غير، وأن النقص السكاني تقابله زيادة سكانية في إفريقيا، لا سيما البلاد الإسلامية منها، مثل: الجزائر، والمغرب، والسودان، ومصر، وكذا الحال في فلسطين؛ إذ بلغ معدل الخصوبة في غزة 9٫7 في المائة، وهذه تعتبر أعلى نسبة خصوبة في العالم. وبهذا ندرك مدى تخوف وذعر قادة اليهود عند استقراء الآفاق المستقبلية القادمة، فالقوة البشرية لا يستهان بها في ميزان القوى العالمية.

فإذا نظرنا لهذه الزيادة السكانية في الدول الإسلامية، والتي تشكل فئة الشباب النسبة العظمى منها؛ علمنا الهدف الجوهري لمؤتمر السكان والتنمية، وهو الحد من تلك الزيادة بتحديد النسل وتقويض عرى الزواج ونشر الإباحية على مصراعيها بسلطة القانون. ويظهر ذلك جلياً في أطروحات القائمين على تلك المؤتمرات، فنجد التركيز على بعض البنود التي هي لبّ تلك المؤتمرات ومنتهى مرادها، وما عداها ما هو إلا لذر الرماد في العيون، وهذا ما ورثه سفراء القوم في الدول العربية.

فهذا الموقع الرسمي للمؤتمر الإقليمي العربي حول السكان والتنمية يبيّن أهداف المؤتمر بما يلي: «لقد أقر المؤتمر بأن الصحة والحقوق الإنجابية، وكذلك المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة؛ يمثلون حجر الزاوية في برامج السكان والتنمية، وخطوة أساسية نحو القضاء على الفقر وتحقيق الاستقرار في النمو السكاني. وقد أجريت مراجعات متعاقبة لبرنامج وخطة عمل المؤتمر في الأعوام 1999 و2004 و2009، وذلك بهدف تقييم التقدم المحرز والإسراع نحو التنفيذ الكامل.. لقد جدد إعلان ريو +20، الصادر في يونيو 2012، الالتزام بالأهداف التي اعتمدها برنامج وخطة عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية.. وكذلك تأكيد الالتزام بالمساواة بين الجنسين وحماية حقوق الرجال والنساء والشباب في اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهم الجنسية وصحتهم الإنجابية بحرية ومسؤولية، وأن تلتزم النظم الصحية بتوافر المعلومات الضرورية والخدمات الصحية، بما في ذلك توفير الطرق الحديثة المأمونة والفعالة والميسورة والمقبولة لتنظيم الأسرة.. ويعد الاستثمار في مجال الصحة الجنسية والإنجابية واحترام الحقوق الإنجابية، شرطاً مسبقاً لتمكين النساء والمراهقين والشباب، ويتيح لهم فرصة الحصول على المعلومات والخدمات الشاملة في مجال الصحة الجنسية والإنجابية، في إطار حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، وتفهّم الأبعاد والآثار الكاملة لديناميكيات السكان».

وقد صرح أحمد الهنداوي، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، كي مون، لشؤون الشباب في العالم العربي؛ بأنه تم تأسيس تحالف شباب الدول العربية للسكان والتنمية خلال اجتماع أكثر من 70 شخصية شبابية من جميع الدول العربية بالقاهرة في نوفمبر 2012. وتابع بقوله «فيما يتعلق بالصحة الجنسية والإنجابية، طالب تحالف الشباب العربي بالالتزام بتأمين وصول الشباب لمجموعة شاملة من خدمات الصحة الجنسية والإنجابية عالية الجودة، صديقة للشباب، مراعية للخصوصية والسرية، ومصممة خصيصاً لاحتياجاتهم، والخالية من كافة أشكال الوصم والتمييز، وتوفير منهج تعليمي شامل عن الصحة الجنسية والإنجابية في المدارس وخارجها على حد سواء، والالتزام بالقضاء على ختان الإناث وتجريمه، وتجريم جميع أشكال العنف الجنسي والاتجار بالبشر، وزيادة التمويل والموارد الموجهة نحو الأبحاث العلمية المتعلقة بالصحة والحقوق الجنسية والإنجابية على المستوى الوطني والإقليمي.. وطالب تحالف الشباب العربي للتنمية والسكان الدولَ العربية بإشراك المجتمعات، متضمنة الفئات المهمشة على المستوى الشعبي، لحشد الدعم واكتساب مزيد من الزخم لقضايا المساواة بين الجنسين، وإدماج المساواة بين الجنسين وقضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي في برامج التعليم للشباب في المدارس وخارج المدارس».

ومما يدل دلالة صريحة على تطويق العمل على بنود دون أخرى، ما جاء في وثيقة مؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة، حيث احتوت الوثيقة على 121 صفحة متضمنة 16 فصلاً، استحوذ الجنس والحقوق التناسلية الإباحية وتعليم الجنس للمراهقين والإجهاض على 100 صفحة، أما الـ 20 صفحة المتبقية فهي لقضية التنمية!

وكانت غاية هذه المؤتمرات هي المرأة التي أولوها عناية كبيرة لمدى علمهم بمكانة المرأة المسلمة ودورها العظيم المنوط بها في تربية النشء وإعداد جيل متسلح بقيمه وثوابته الدينية ليكون قوة بشرية هائلة رائدة في التقدم والتطور.

فقام المؤتمر ببنوده وتوصياته على تحدي الأديان والثقافات في فرض هيمنة نمط معين لحياة المرأة، والذي بدوره يقوض نظام الأسرة المسلمة لتعيش حالة من الضياع الفكري والخواء الروحي، ومن أجل هذا ابتُدع مؤتمر السكان والتنمية.

ولقد أدرك الغرب أن التغيير الصريح لنظام الأسرة المسلمة ما هو إلا إيذان بالرفض القاطع، فعمد إلى خلق مصطلحات ذات دلالة مبهمة فضفاضة تحوي الكثير من الخداع والتضليل لتسويق البنود بذكاء وخبث لتنطلي على الكثير من الدول النامية.

لكن الأمة الإسلامية على قدر كبير من الوعي والمسؤولية، وقد تصدت لتلك المؤتمرات الدخيلة التي حملت في طياتها العبث بثوابت الأمة، في محاولة لانتزاع القيم والمبادئ الدينية، وإن انطلت بعض الاتفاقيات والوثائق على من لم يهتدِ سبيلاً، إلا أن السواد الأعظم سيدرك مدى خبثها ونفاقها، وسيركل كل ما ترنو إليه بكلتا قدميه، وهذا سيتأتَّى عند المواجهة الفعلية لمخططات مؤتمرات السكان والتنمية، وبخطى مدروسة وبفاعلية في المجتمع. وللمواجهة عدة مسارات وبرامج، منها:

- دور العلماء وطلبة العلم في إيضاح وإصدار الفتاوى للحكم الشرعي المفصل لكل بند مما له عظيم الأثر في بيان الحق وردع الباطل. ولا بد من أن تسبق الفتاوى هذه المؤتمرات بكشف زيغها والتحذير من الانسياق خلفها، ومن ثم تعقبها فتاوى تأصيلية تفصيلية لما ورد فيها من بنود تهدف إلى تكريس وفرض العولمة البغيضة في بلاد المسلمين. ولقد كان لهيئة كبار العلماء في السعودية بيان حول المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد عام (1415هـ ـ 1994م) رقم (179) وتاريخ 23/3/1415هـ. ومن حق الأمة على علمائها بيان الحق في أوانه ولو بتكراره.

- إنشاء مراكز تتكوّن من عدة لجان تخصّصية في الجانب الشرعي والنفسي والاجتماعي، وكذا الصحي؛ لرصد وقراءة نتاج تلك المؤتمرات قراءة نقدية للمد التغريبي لدول المنطقة من مؤتمرات وملتقيات وإعلام رسمي وغير رسمي.

وتكوين فريق ميداني تشارك فيه كوكبة من المستشارين يقومون بعمل برامج ميدانية تثقيفية وتوعوية من خلال (مؤتمرات، ملتقيات، محاضرات، دورات، وورش عمل).

- استنطاق الكتّاب والمثقفين والمتخصصين في الجانب الشرعي والنفسي والصحي لعقد المحاضرات والندوات وإصدار المؤلفات وكتابة المقالات ونشرها على أوسع نطاق.

- استقطاب منظمات ومفكرين غربيين مناهضين للعولمة والفكر التغريبي ومن اكتوى بسياط هذا الفكر المنحل والتحرر المزعوم، واستضافتهم في مؤتمرات ولقاءات إقليمية، وتسليط الضوء على أقوالهم.

- المشاركة في هذه المؤتمرات ومزاحمتها بطرح البديل الإسلامي وبيان مدى إكرام الإسلام للمرأة ومقارنتها بالمرأة الغربية التي تئن تحت وطأة الإباحية المطلقة.

- إعداد دورات تثقيفية للخطباء والدعاة والمعلمين والمربين عن ماهية تلك المؤتمرات وخططها الاستراتيجية التغريبية، وتفعيل آليات لمواجهة هذا الخطر المحدق بالمجتمع المسلم لبناء جيل واعٍ، وتوعية الجماهير بمقاصد تلك المؤتمرات.

- تأسيس تحالف للشباب المسلم ينطلق من برامج التواصل الاجتماعي ويكون له دور توعوي فعّال في التحذير من هذه المؤتمرات التغريبية بين الأوساط الشبابية، وأيضاً يكرس أهدافه على غرس المفاهيم والقيم الدينية والاعتزاز بها بأطر تقنية حديثة.

- تأسيس مناهج تعليمية متخصصة في نظام الأسرة المسلمة تمتاز بالشمولية والتنوع الموضوعي مستمدة من الكتاب والسنة تدرج ضمن مناهج التعليم العام.

- إقامة مناشط متنوعة وبشكل دوري في الجامعات والملتقيات الكبرى والمدارس ودور التحفيظ، لتوعية النشء بما يحاك حوله، فهو المستهدف في تلك القضايا، وتعزيز دوره في صد تلك الهجمات الشرسة.

- كشف ستر المؤتمرات الإقليمية العربية حول السكان والتنمية والحركات النسوية والمنظمات المشبوهة في دول العالم الإسلامي، ومقارعتهم بالحجج والأدلة، والتشهير بهم في الإعلام الحر.

- إصدار منشورات تتضمن محتوى تفصيلياً لبيان وشرح المصطلحات الأممية الواردة في بنود الاتفاقيات والمؤتمرات، وتوضيح مقاصدها الحقيقية وأهدافها التي لا تتفق مطلقاً مع ثوابت الدين، وإبراز الآثار المترتبة عليها.

- الأسرة الحاضن الأول للطفل، ومنها يستقي القيم والمبادئ، فدور الأبوين لا يقل أهمية عن الأدوار الأخرى، وتقع على عاتقيهما مسؤولية التربية والتوجيه، فقد قال رسول الله #: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) أخرجه البخاري.

وهذه المواجهة لن تؤتي أكلها ما لم تتكاتف الجهود وتنخرط في مسارين أساسيين، هما: العمل المؤسسي والعمل الفردي، ولكل منهما دوره المنوط به. والرجل والمرأة على حد سواء في وجوب صدّ هذه الهجمات التغريبية التي لم تعد خافية على أحد من أجل تعزيز وتفعيل قيمنا ومبادئنا، والدعوة للتمسُّك بالإسلام.

** المؤمرات على السكان :: ملف العدد :: (323) رجب 1435هـ

:: مجلة البيان العدد  323 رجب 1435هـ، مايو  2014م.

 

أعلى