• - الموافق2024/04/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أنماط المتعلمين في الحلقات القرآنية

أنماط المتعلمين في الحلقات القرآنية

زيد بن ثابت-  رضي الله عنه - الطالب الناجح:

سنستعرض سيرة زيد بن ثابت التعليمية والإنتاجية بوصفه مُخْرَجًا تعليميًّا، لنستضيء من هذه السيرة في مسألة أنماط المتعلمين. ويجدر التنويه بأن هذه السيرة يمكن أن يُنظَر لها من زاويتين: الطلاب الموهوبون، والمخرجات التربوية.

مات ثابت بن الضحاك، والدُ زيدٍ، قتيلًا يوم بُعاث قبل الهجرة النبوية الكريمة، فعاش زيد بن ثابت يتيمًا، حيث كان عمره حين قُتل أبوه ست سنين[1]، وبدت أمارات النجابة عليه في صغره، حيث تحلى بالقدرة التعليمية الرائعة.

ولما بلغ الحادية عشرة من عمره قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان زيد حينها يحفظ بعض سور القرآن مما لا يتمكن أقرانه من حفظه، لسبب أو لآخر، وكان ذلك سببًا في احتفاء الناس به كطفلٍ يحفظ من القرآن. يقول: أُتي بي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمَه المدينة، فقالوا: يا رسول الله! هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أُنزل عليك سبع عشرة سورة. فقرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه ذلك، وقال: «يا زيد! تعلَّمْ لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمنهم على كتابي». قال: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كتب إليهم[2]. وقد تعلَّم زيد السريانية في مدارس اليهود، وتسمى «ماسكة»[3].

لقد احتفى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الغلام، واستطاع بحاسته التربوية أن يحدد مسار هذه الشخصية وقدراتها وميولها، فأمره أن يتعلم لغة اليهود، فصدقت فراسة النبي صلى الله عليه وسلم في زيد، فحذقها في نصف شهر فقط. وبهذا نستطيع تحديد أي نوع من الذكاءات تميز به زيد بن ثابت: إنه الذكاء اللفظي.

لم تنتهِ قصة الذكاء اللفظي لدى زيد هنا، فقد كان - كما قال الذهبي - ذكيًّا ثقفًا[4] ، أي حاذقًا، متقنًا لما يتعلمه، فطنًا. وهذا يعني أن نوعًا آخر من الذكاءات كان يتحلى به زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو الذكاء المنطقي الرياضي، وكان من نتائج الاهتمام بهذه الشخصية في ذكاءاتها المتنوعة أن برع زيدٌ في ثلاثة أمور: حفظ القرآن وضبطه، وتعلم اللغات، وعلم الفرائض.

استثمر النبي صلى الله عليه وسلم فرصة وقوع عدد من مشركي قريش في الأسر في غزوة بدر، فجعل فداءهم أنْ يعلِّموا أولاد الأنصار الكتابة[5]، قال الشعبي: كان فداء أهل بدر أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علَّم عشرة من المسلمين الكتابة، فكان زيد بن ثابت ممن عُلِّم[6].

كتب زيد رضي الله عنه الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وشهد العرضة الأخيرة للقرآن[7]، وشارك في الجهاد ابتداء من غزوة الخندق[8]، وفاته الجهاد في بدر وأحد لصغر سنه، وكانت مدة بقائه مع النبي صلى الله عليه وسلم منكبًا على التعلم وحفظ القرآن وضبطه والمشاركة مع عموم الصحابة في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا فصَّلنا قليلًا في الأمور التي برع فيها زيد بن ثابت رضي الله عنه فإننا سنجد إنجازًا غير عادي:

ففي جانب تعلُّم اللغات: أجاد زيدٌ لغة اليهود (السريانية) في مدارسهم في نصف شهر، كما تعلم اللغة الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يومًا، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خُدَّام رسول اللهصلى الله عليه وسلم[9]. وهنا تتجلى القوة الإبداعية لشخصيته في كيفية تعلمه للغات، واستثماره للفرص المتاحة.

وفي جانب علم الفرائض: فتح الله تعالى على زيد بن ثابت في هذا العلم حتى حذقه وأصبح المقدم فيه بين أصحاب النبي بشهادته صلى الله عليه وسلم، حيث قال في الحديث المتقدم ذكره: «أفرضهم زيد بن ثابت».وحين أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة إلى الأمصار يعلمون الناس نهاهم أن يفتوا برأيهم وأبقى زيد بن ثابت بالمدينة ليفتي أهلها واستعمله على القضاء وفرض له رزقًا. قال الشعبي:غلب زيدٌ الناس على اثنتين: الفرائض والقرآن. وبلغ من سعة علمه بالفرائض أنَّ مسروقًا وهو أحد أصحاب ابن مسعود النجباء الخلص عوتب في تركه لقول ابن مسعود في إحدى المسائل الفرضية إلى قول زيد، فقال:أتيت المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم[10].

أما جانب حفظ القرآن وضبطه: فقد بلغ الثريا فيه، وهو من القلائل الذين أتموا حفظ القرآن الكريم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قرأه عليه واحتفى به النبي صلى الله عليه وسلم كحافظٍ للقرآن، ومما يدل على ذلك أنه في غزوة تبوك كانت راية بني مالك بن النجار مع عمارة بن حزم، فأدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذها منه ودفعها إلى زيد بن ثابت، فقال عمارة: يا رسول الله! بلغك عني شيء؟ قال: لا، ولكن القرآن يقدَّم وكان زيد أكثر أخذًا منك للقرآن[11]. وقرأ عليه من الصحابة ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما، ومن التابعين أبو عبدالرحمن السلمي[12]. وتصدَّر للأداء[13]، فعن سليمان بن يسار قال: ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيدٍ أحدًا في الفرائض والفتوى والقراءة والقضاء[14]. واعتمد عليه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه في كتابة القرآن العظيم في الصحف، وجمعه من أفواه الرجال، ومن الأكتاف والرقاع، وبقيت هذه الصحف عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة بنت عمر رضي الله عنهم، إلى أن ندب الخليفة عثمان زيدَ بن ثابت ونفرًا من قريش إلى كتابة هذا المصحف العثماني الذي لا يوجد في الأرض قرآن سواه[15].

إن المواقف التي تصدر من الناس ونوعية الإنتاج الذي يقدمونه في سبيل خدمة دينهم ومجتمعهم تدلُّ على مستوى المخرج التربوي ونوعه.

 دعونا نرصد أهم المواقف التي ذكرها أصحاب السِير لزيد بن ثابت وأهم الإنتاجات:

الإنتاج: كان جامعًا القرآن في مراحله الثلاث: حَفِظه في صدره على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبه في الصحف على عهد أبي بكر، وكتبه في مصحف إمام موحد على عهد عثمان بن عفان. وهذه من أعظم الأعمال والمشاريع التي قدمها جيل الصحابة رضي الله عنهم لهذه الأمة.

وكان المصدَّر في فتيا الفرائض حتى مات رضي الله عنه.

المواقف: كانت له مواقف عظيمة تدل بلا ريب على التربية الرائعة التي خرّجته، حيث الاستثمار الأمثل لمُشَكِّلات شخصيته.

لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار فتكلموا، وقالوا: رجل منا ورجل منكم، فقام زيد بن ثابت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، ونحن أنصاره؛ وإنما يكون الإمام من المهاجرين ونحن أنصاره. فقال أبو بكر رضي الله عنه: جزاكم الله خيرًا يا معشر الأنصار، وثبَّت قائلكم، لو قلتم غير هذا ما صالحناكم[16] فهو هنا يحسم المسألة بشكل منطقي عقلي، بلغة فصيحة وبعبارة موجزة.

ولما حُصر عثمان بن عفان رضي الله عنه في داره أتاه زيد بن ثابت فدخل عليه الدار، فقال له عثمان: أنت خارجَ الدار أنفعُ لي منك ها هنا؛ فذبَّ عني. فخرج، فكان يذب الناس، ويقول لهم فيه، حتى رجع أناس من الأنصار. وجعل يقول: يا للأنصار! كونوا أنصار الله مرتين، انصروه، والله إن دمه لحرام[17]. وقدِم رضي الله عنه ومعه ثلاثمائة من الأنصار، فدخل على عثمان فقال: هذه الأنصار بالباب قالوا: جئنا لننصر الله مرتين، فقال عثمان: أمَّا القتال فلا[18].

تلاحظ فيما سبق الاستثمار الموفق لمكونات شخصية زيد بن ثابت رضي الله عنه وتوجيهه في المسارات الملائمة لشخصيته، كما تلاحظ أيضًا الرسوخ المنهجي في مواقفه الذي يؤشِّر إلى عمق العملية التربوية التي تعاطاها في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم. لا شك أن هذا التزاوج بين عناصر الشخصية والمنهجية التربوية يُحدِث هذا الأثر الكبير وأكثر.

التنوع سنة كونية وواقع تربوي:

التنوع سنة كونية، أوجده الله في البشر والحجر والشجر وفي سائر مخلوقاته: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِمَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْـجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ 27 وَمِنَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:27، 28].

وكما يقع التنوع في الأشكال، فكذلك يقع في الجوهر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»[19].

وحين تطالع سِيَر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك تجدهم مشارب شتى وشخصيات متنوعة، فلم يكونوا على هيئة واحدة ولا على اهتمام واحد ولا على عمل واحد، كانوا رضي الله عنهم يتنوعون في الأعمال الصالحة التي تقربهم من الله كما يتنوعون في طرق معاشهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلميدعم هذا التنوع بتوجيهاته المتنوعة التي غالبًا ما كانت تناسب حال السائل أو المستفيد من هذا التوجيه.ومن توجيهاته الجامعة قوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خلق له»[20].

كان زيد بن ثابت رضي الله عنه شخصية تنفيذية تميزت بالإنجاز والإتقان فيما يوكل إليها من المهام ذات الشأن العام، لكنه لم يكن من الشخصيات الملهِمة أو الإستراتيجية كشخصية أبي بكر الصديق أو شخصية عمر بن الخطاب، لا لقصور فيه، وإنما الشخصيات هكذا: أنماط مختلفة متنوعة لحِكَمٍ يريدها الله تعالى، ومن هذه الحِكم: التكامل والشمول اللذان يتوافران مع التنوع. أمَّا على الشأن الفردي فقد كان زيد ينجز إنجازًا فوق المتوقع من أمثاله وأقرانه.

شخصية زيد بن ثابت يمكن تشبيهها بمنجمٍ للذهب والجواهر، لكنك لا تستفيد من هذا الذهب وتلك الجواهر إلا إذا أطلقت عليه العمال المهرة ليخرجوا كنوزه. يتضح ذلك جليًّا من استفادة الخلفاء الراشدين منه واستثمارهم لطاقاته، وكلام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين عنه يصب في هذا المعنى.

كما يمكن تشبيهها بعقارب الساعة في سيرها المنتظم الدقيق والمحكم، والمنطلقة أيضًا إلى الأمام. وهذا النمط من الشخصيات هو القادر على الإنجاز في الأعمال الخطيرة والكبيرة، لارتباطها بالوقت والهدف ومنهجية العمل، لكنه بحاجة ماسة إلى أن يعمل في ظل إدارة شخص آخر، على أن تكون هذه الإدارة تحمل رؤى إستراتيجية.

الجدير بالذكر أن الناس ليسوا كلهم على هذه الصفات أو بعضها، لذا حين عزم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على جمع المصحف اختار زيدًا لهذه المهمة المعقَّدة، وقال له: «إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي للنبي  فتتبع القرآن فاجمعه». لم تكن المهمة سهلة على زيد، يقول: «فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن»[21]. فزيدٌ يعلم ماذا يعني نقل جبل! إنه يعني نقل صخوره وحجارته، دون إنقاص منها، ووضع كل من هذه الصخور والحجارة في مكانها الصحيح الذي كانت عليه ليبدو الجبل المنقول كهيئته قبل أن يُنقَل. لقد كانت مهمة جمع القرآن وتتبعه أشبه بذلك، ولا يجيد هذا المستوى من الدقة والإنجاز والإتقان والضبط أحدٌ كما يجيده زيد بن ثابت رضي الله عنه.

لكل شخص مساره الذي هيأه الله له، وإنَّ على المربي أن يتعرف هذا المسار ويضع أقدام الطالب عليه، لينطلق في أمان ونجاح.

كتاب مثان

وقد تطرق فقهاء التربية الإسلامية إلى الاهتمام بهذه المسألة، أعني تنوع المتعلمين، قال الخطيب البغدادي: من الناس من يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا ذهب الذي مقدار حفظه نصف صفحة يروم أن يحفظ عشر ورقات تشبهًا بغيره لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، ولم ينتفع بما سمع[22].

وأشاروا إلى أن يتفهم المعلم شخصية الطالب، قال ابن جماعة: ولا يشير [أي المعلم] على الطالب بتعلُّم ما لا يتحمله فهمه أو سنه، ولا بكتاب يقصُر ذهنه عن فهمه، فإن استشار الشيخَ من لا يعرف حاله في الفهم والحفظ في قراءة فن أو كتاب لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه ويعلم حاله[23].

ويحذر ابن حزم قائلاً: نشرُ العلم عند من ليس من أهله مفسدٌ لهم، كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى، أو كتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء[24].

وأيًّا ما كان الأمر، فإن اختلاف أنماط المتعلمين أمر واقع وله حقيقة ملموسة، وإن الحلقة الناجحة هي تلك التي تراعي هذا الاختلاف، وتستطيع أن تجعل منه مدخلًا صالحًا من مدخلات العملية التربوية؛ ذلك أن النفس الإنسانية تتأثر بالدرجة الأولى بعاملين رئيسيين: البيئة والوراثة، وكل شخصية من شخصيات الطلاب هي عبارة عن خلطة معقدة من هذين المكونين، اللذين هما في كل منهما عبارة عن خلطة بذاتها، لتُخرج لنا في نهاية المطاف شخصيةً ذات بصمة خاصة تميزها عن غيرها، ولو اشتركت معها شخصيات أخرى في بعض القواسم.

وفي حال تمكنت الحلقة من توجيه الطالب توجيهًا صحيحًا يوائم نمط شخصيته فإن النجاح سيكون حليفًا لهذا العمل التربوي، ودليل هذا النجاح أن تنظر الحلقة إلى عموم طلابها بصفتهم أذكياء!

الذكاء هو القدرة على حل المشكلات أو إبداع نتاجات ذات قيمة في بيئة ثقافية أو أكثر، كما يعرِّفه صاحب نظرية الذكاءات المتعددة «هوارد قاردنر»[25]. فهو مفهوم أوسع يشمل العنصر الإنساني إذا أحسنَّا توجيهه، وبهذا المفهوم ترتفع نسبة الطلاب الأذكياء في الحلقة الواحدة ارتفاعًا كبيرًا.

قاردنر يؤكد أيضًا على دور المحيط في الإنتاج، يقول: الابتكار لا ينبغي أن يُنظَر إليه على أنه مستقر أساسًا في الدماغ أو العقل أو شخصية إنسان بعينه، لكنه ينبغي النظر إليه بوصفه ينبثق من تفاعلات ثلاثة عقد:الفرد بهيئة كفاياته وقيمه، والميدان المتاح للدراسة والتمكن ضمن ثقافة ما، ثم الأحكام التي يطلقها حقلٌ معترف بتخصصه وكفايته داخل الثقافة[26]. قارن هذا بمشروعي جمع القرآن الكريم اللذين قام بهما زيد بن ثابت في عهدي أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وقبل ذلك قارنه بحفظ زيد بن ثابت للقرآن وتعلمه للغة اليهود وإتقانه لعلم الفرائض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

حين تكون الحلقة بيئة صحية سيكون الطلاب على اختلاف مشاربهم أذكياء، هذا ما حدث تمامًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، فقد كانوا أدوات إنتاج وإنجاز، سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي.وهذا يتفق تمامًا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : «كلٌّ ميسر لما خلق له».

إن الحلقات القرآنية اليوم بحاجة إلى أن تنظر بعمق إلى هذه المسألة باعتبارها من المدخلات العميقة للتربية.

ما هو الحفظ المطلوب في الحلقات؟

ليس كل الطلاب قادرين على حفظ القرآن الكريم، فإن الحفظ مترتب على ذكاء واستعداد ومناخ وظروف، ولهذه الأسباب فإن الذين حفظوا القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قليلون. قال قتادة: سألتُ أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي؟ قال: أربعةٌ، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. وعنه رضي الله عنه قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد[27].

وعدَّ الذهبي في الطبقة الأولى من القراء: الذين عرضوا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم سبعة من الصحابة هم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، ثم قال: هؤلاء هم الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأُخذ عنهم من بعدهم عرْضًا، وعليهم دارت الأسانيد بالقراءات العشر، وقد جمع القرآن غيرهم من الصحابة كمعاذ، وأبو زيد، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، ولكن لم تتصل بنا قراءتهم[28].

أيًّا ما كان الأمر فإن حفاظ القرآن الكريم من الصحابة قليل، كما أن صحابة أكابر لم يتموا حفظه، قال ابن سيرين: مات أبو بكر، ولم يختم القرآن[29]. ولا يعني ذلك قصورًا في من لم يتم حفظه، فكل الذين أتموا حفظ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغون رتبة أبي بكر الصديق في الإيمان والفضل، وبهذا تكون مسألة حفظ القرآن كاملًا مسألة تخصصية لها رجالها، ولا يطالب بها الجميع.

 نعم، يطالب الجميع بحفظ شيء من القرآن كالمفصَّل أو الزهراوين: البقرة وآل عمران، ونحو ذلك، كما كان مجموع الصحابة على هذا الحال، لكنَّ مسألة حفظ القرآن كاملًا لا يستطيعها إلا نخبة من الطلاب.

وعليه؛ يُقترَح أن تتوجه برامج الحفظ وفق هذا المنظور الذي أسلفناه إلى وضع حد أدنى من القرآن يطالَب به الجميع، وبرنامج نخبوي لحفظ القرآن كاملًا. عن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال: سألني عمر: كم معك من القرآن؟ قلت: عشر سور، فقال لعبيدالله بن عمر: كم معك من القرآن؟ قال: سورة. قال عبدالله: فلم ينهنا ولم يأمرنا غير أنه قال: وإن كنتم متعلمين منه بشيء فعليكم بهذا المفصل؛ فإنه أحفظ[30]. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمعتُ المُحكَم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سعيد:فقلت له: وما المحكم؟ قال: المفصل[31].

كما يُقترَح على الحلقة أنْ تكثف برامجها المعنيَّة بحفظ القرآن الكريم وضبطه للنخبة من الطلاب المهيئين لذلك، وفي المقابل تقوم بصناعة البرامج التربوية لأولئك الكثرة من الطلاب الذين لا تساعدهم قدراتهم على الحفظ الكامل للقرآن الكريم وضبطه، برامج تنمي مواهبهم وتصقل شخصياتهم وتعتني بقدراتهم وتجعل منهم أدوات إنجاز وإنتاج كلٌّ في مساره الشخصي.

دور الحلقات القرآنية في توجيه المتعلمين:

يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: ما هي الأدوار التي يمكن للحلقة تقديمها في إطار التوجيه للصحيح لأنماط المتعلمين المتنوعة؟

يمكننا القول إن الحلقة القرآنية بيئة مناسبة للتوجيه الصحيح لأنماط المتعلمين المتنوعة إذا قامت بالأدوار الآتية:

١- الاكتشاف:

أول دور ينبغي على الحلقة القيام به في واجبها التربوي تجاه أنماط المتعلمين المتنوعة هو السعي لرسم صورة نظرية للطالب تتضح فيها معالم شخصيته ومحدداتها وميولها وذكاءاتها، وتسليمه نسخة منها.برغم أنها الخطوة الأولى؛ إلا أنها تمثل حجر الأساس في التربية الرشيدة. إنها إجابة على السؤال الكبير للطالب: من أنا؟ حيث إن الكثيرين لا يعرفون ذواتهم في سن الطلب، ولا يدركون أبعاد نفوسهم ولا محدداتها، فتجدهم يتخبطون في التيه، وتطويهم سنوات عمرهم الذهبية دون تحصيل يُذكر أو إنتاج يستحق الإشادة. قال الماوردي: إذا كان العالم في توسم المتعلمين بهذه الصفة، وكان بقدر استحقاقهم خبيرًا؛ لم يضِع له عناء، ولم يخِب على يديه صاحب. وإن لم يتوسمهم، وخفيت عليه أحوالهم، ومبلغ استحقاقهم، كانوا وإياه في عناء مكْدٍ، وتعب غير مُجْدٍ، لأنه لا يعدم أن يكون فيهم ذكي محتاج إلى الزيادة، وبليد يكتفي بالقليل، فيضجر منه الذكي، ويعجز عنه البليد، ومن يردد أصحابه بين عجز وضجر ملُّوه وملَّهم[32].

٢- حرية التجريب:

طالب الحلقة بحاجة إلى مناخ تربوي محفزٍ وآمن، يستطيع فيه أن يجرِّب إمكاناته وقدراته دون لوم أو تقريع، بل دون أن يُشعِر المربي نفسه بتمردية الطالب وانفلاتيته، وعليه - أعني المربي - أن يطمئن لهذه الحالة ويحتويها ويشجعها وينميها باعتبارها صحية وليست مرضية؛ فإن الطالب يتوجه تلقائيًّا - إلى حدٍّ كبير - مع بوصلته الصحيحة إذا كان اختياره حرًا مجردًا من المؤثرات والضغوط. يحكي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حين كان يرعى الغنم لعقبة بن أبي معيط، وفيها أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني من هذا القول. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك غلام معلم»، قال: فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد[33]. وقوله صلى الله عليه وسلم:«معلَّم» يعني: ملهَم للصواب والخير[34].

لا مانع من تجريب الطالب لذاته بعد اكتشافه، على ألا تغفل عين المربي عن ملاحظته، فلعلَّ الله يفتح عليه ما لم يفتح على معلميه، أو يكون على يديه سد ثغرة لم يستطع معلموه سدها.

قد يخشى المربي من وقوع الطالب في الخطأ. هذا صحيح؛ قد يخطئ، ولكن الخطأ يستفاد منه تربويًّا في التصحيح والتوجيه، فلا داعي للقلق من الأخطاء ما لم تكن الأخطاء كارثية على البيئة التربوية أو على شخصية الطالب نفسه.

وعلى أية حال، فالحاجة ملحَّة في هذا الوقت لإعطاء الطلاب حريتهم التجريبية، لتأثير ذلك إيجابيًّا في نمو شخصياتهم الإنتاجية والإيجابية.

٣- التوجيه:

لا يزال بعض المربين يظن أنه في حلقته لاعب الشطرنج، فهو ينقل القطع بيده كيف شاء ووفق ما يمليه عليه تفكيره. ويا للأسف! فهو لا يزال يمارس هذا الدور بينما يرى بأم عينيه تساقط طلابه واحدًا تلو الآخر.والحقيقة أن من أدوار المربي المهمة: التوجيه، والمقصود بالتوجيه هنا أن يحافظ المربي على بوصلة الأهداف بغضِّ النظر عن المسارات. والتوجيه بهذا المعنى يعطي الطالب حرية الحركة، وفي الوقت نفسه يؤمنه من الانحراف، حيث يؤطر المربي هذه المسارات، فإذا ما حاد الطالب عن مجموعها وأصبح خارج مربع الاجتهادات السائغة، فإن دور المعلم التوجيهي الرفيق سيكون له تأثير إيجابي في بناء شخصيته وتنميتها.

٤- الاستثمار:

«تعلَّم لي كتاب يهود، فإني لا آمنهم على كتابي»، في هذا الأمر المعلل يتجلى استثمار الأنماط الشخصية في أروع صوره. إنه ليس مجرَّد توجيه نحو المسارات المناسبة، بل هو إفادة المربي من قدرات الطلاب المتنوعة، والتي بإمكان كل واحد منهم أن يقدم لدينه من خلالها.

على الحلقة القرآنية - اليوم - أن تتجاوز مسألة التوجيه إلى رتبة الاستثمار النافع لقدرات الطلاب واستعداداتهم لخدمة القرآن الكريم وخدمة الشريعة الإسلامية وخدمة المجتمع المسلم، أو على الأقل النفع الذاتي الموجَّه. وهذا لا يكون إلا بتوفير مناخ ملائم ومساحة حرة للتجريب والتوجيه الجيد.

:: مجلة البيان العدد  342 صـفــر 1437هـ، نوفمبر  2015م.


[1] سير أعلام النبلاء 2/433.

[2] سير أعلام النبلاء 2/428.

[3] الطبقات الكبرى 5/308.

[4] معرفة القراء الكبار 1/119.

[5] أخرجه الحاكم في المستدرك 2/152، كتاب قسم الفيء حديث رقم 2621 ووافقه الذهبي.

[6] الطبقات الكبرى لابن سعد 2/22.

[7] شرح السنة للبغوي 4/525، والبرهان في علوم القرآن 1/237.

[8] سير أعلام النبلاء 2/ 433.

[9] البداية والنهاية 8/28.

[10] انظر: سير أعلام النبلاء 2/432-437.

[11] الطبقات الكبرى 5/309.

[12] سير أعلام النبلاء 2/427.

[13] معرفة القراء الكبار 1/119.

[14] سير أعلام النبلاء 2/434.

[15] انظر: سير أعلام النبلاء 2/441.

[16] سير أعلام النبلاء 2/433، وقال الذهبي: هذا إسناد صحيح.

[17] سير أعلام النبلاء 2/435.

[18] الطبقات الكبرى 5/313.

[19] أخرجه الترمذي 5/665، كتاب المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت...حديث 3791، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي 3/478 كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر مناقب زيد بن ثابت حديث 5784.

[20] أخرجه مسلم 4/2040، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه... حديث 2647.

[21] صحيح البخاري 3/338، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، حديث 4986.

[22] الفقيه والمتفقه 2/215.

[23] تذكرة السامع والمتكلم ص149.

[24] الأخلاق والسير ص88.

[25] أطر العقل ص21.

[26] أطر العقل ص32.

[27] الحديثان أخرجهما البخاري 3/341، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي، رقم 5003 ، 5004.

[28] معرفة القراء الكبار 1/125.

[29] معرفة القراء الكبار 1/107.

[30] مصنف ابن أبي شيبة 6/135، كتاب فضائل القرآن، باب من كره أن يقول: المفصل، رقم 30087.

[31] أخرجه البخاري 3/348، كتاب فضائل القرآن، باب تعليم الصبيان القرآن، حديث 5036.

[32] أدب الدنيا والدين ص66.

[33] الطبقات 3/139.

[34] النهاية في غريب الحديث 3/292.

أعلى