أحضان أوربا مليئة بالأشواك

أحضان أوربا مليئة بالأشواك

برغم العيش الآمن الذي تتمتع به دولة كوسوفا حاليًا بعد تاريخ حافل بالحروب التي تعرض لها هذا البلد المسلم، إلا أن الهوية الإسلامية هناك لا تزال محل صراع حقيقي في ضوء التدخلات الغربية المباشرة في نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذا البلد الصغير.

شكلت كوسوفو في مختلف فترات التاريخ موقعًا مهمًا من الناحية الجيوستراتيجية، وهو ما جعل منها هدفًا للعديد من الدول، ومحطة لسلسلة حروب وعمليات إبادة جماعية وترحيل قسري واغتصاب ومقابر جماعية، لكن انتهاء هذه المعاناة لم يكن مؤشرًا لتوقف التدخلات الخارجية التي لا تزال تستنزف الهوية الإسلامية حتى الآن.

كان اسم «كوسوفو» عنوانًا تاريخيًّا للصراع على النفوذ حتى اندلعت الحرب بين الجيش العثماني والجيش الصربي الألباني بقيادة ملك الصرب أوروك الخامس، حيث تحولت كوسوفو من ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية إلى إقليم يخضع لمملكة الصرب والكروات والسلوفينيين، ومن ثَمَّ أصبحت جزءًا من فيدرالية السلوفينيين الجنوبيين التي كانت لا تزال حينها مقاطعة صربية قبل أن تتحول إلى وحدة فيدرالية ضمن جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية؛ وفقًا لدستور 1974م ومرورًا بإلغاء الحكم الذاتي لكوسوفو عام 1989م وانسحاب القوات الصربية ومنظومتها الإدارية من هناك عام 1999م.

كل هذه الحروب شكلت في ظاهرها حروبًا عسكرية للاستيلاء على الأراضي الكوسوفية لكنها كانت تستهدف في حقيقتها الهوية الإسلامية، وتمهد لنوع جديد من التأثير الحالي على هذه الهوية من خلال تدخل المجتمع الدولي في هذا البلد، وذلك بعد قيام قوات حلف شمال الأطلسي بهجمات جوية على أهداف عسكرية داخل الأراضي الصربية، وصولًا إلى إصدار القرار الأممي رقم 1244 الذي وضع كوسوفو تحت وصاية دولية، وحتى إعلان استقلال كوسوفو في 17 فبراير 2008م.

الهوية تنزلق من نار صربيا إلى جنة الغرب:

لم يكن انسحاب صربيا الكامل من كوسوفو وإعلان استقلالها خطوة نحو استقلال الهوية، بل كان خروج الإدارة والمؤسسات الصربية من البلاد فرصة لتدخلات مباشرة من منظمات دولية مختلفة هيمنت على الأوضاع السياسية والاجتماعية وأسست لإعلان مرحلة جديدة من التأثير على هوية هذا البلد، لاسيما بعد خضوعه لمهمة بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو «يونيميك»، ومهمة بعثة الشرطة والقضاء لتطبيق القانون التابعة للاتحاد الأوربي المعروفة باسم «يوليكس».

بعد استقلال كوسوفو تحولت صلاحيات بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو (يونيميك) إلى المؤسسات الكوسوفية، كما انتقل جزء آخر إلى بعثة الاتحاد الأوربي (يوليكس)، لتعيش البلاد في حالة من الازدواجية، سواء فيما يخص القرارات السياسية أو أسلوب إدارة المؤسسات، وهو ما أثر على قدر كبير من شكل الهوية الإسلامية، فعلى سبيل المثال مثلت نوعية وهوية القوانين المستخدمة حالة من الاضطراب داخل البلاد، حيث يعمل جهاز الشرطة الكوسوفية إلى جانب جهاز آخر تابع لبعثة الاتحاد الأوربي، فضلًا عن أن سلطة القضاء والعدالة في هذا البلد أصبحت في أيدي قضاة تابعين أيضًا لبعثة الاتحاد الأوربي إلى جانب القضاة الكوسوفيين.

إلى ذلك، كان بجانب مؤسسة الادعاء العام الكوسوفية مؤسسة ادعاء عام مماثلة من بعثة الاتحاد الأوربي، في ظل حضور مزدوج أيضًا لمنظومتين أمنيتين تتبع إحداهما كوسوفو في حين تتبع الأخرى بعثة حلف الناتو، ومن ثم خلفت هذه الازدواجية في تطبيق وتنفيذ القانون حالة من عدم الاستقرار المجتمعي أثرت بشكل سلبي على الهوية الخاصة بهذا البلد، ووصلت إلى حد اختفاء الهوية الإسلامية في حياة الشعب الكوسوفي الذي تم دفعه أكثر فأكثر نحو الحضارة الغربية.

كوسوفو الخط النهائي «للحزام الأخضر» للعالم الإسلامي:

بعد انتهاء الفترة التي كانت فيها كوسوفو تخضع للحماية الدولية (1999-2011م) بدأت العديد من المساعي الداخلية لتوسعة قدرات الدولة ومؤسساتها بهدف تنظيم الحياة السياسية، وهو أمر بدا إيجابيًّا من خلال إجراء عدة انتخابات في عملية ديمقراطية تشهد تعددًا حزبيًّا، لكن كل ذلك لم يُبعد المؤسسات الكوسوفية عن الإدارة الغربية، فقد ظل التأثير الغربي مهيمنًا على التحركات السياسية لدولة كوسوفو في إطار سعيها لنيل الاعتراف الدولي ورغبتها في الحصول على مساعدات اقتصادية من الاتحاد الأوربي الذي توسط في أبريل 2013م لتوقيع اتفاق لتطبيع العلاقات بينها وبين صربيا.

في الوقت نفسه، تبذل كوسوفو جهودًا حثيثة لتأسيس شراكة مع القوى العالمية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوربي، إلى جانب إنجاز اتفاق شراكة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) للحفاظ على وضعها الأمني.

خلال المساعي الكوسوفية، نالت تلك الجمهورية اعتراف أكثر من مائة دولة عضو في الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتحاد الدولي للطرق والنقل، ومجلس التعاون الإقليمي، ومجلس مصرف التنمية الأوربي، والبنك الأوربي للإنشاء والتعمير.

وبرغم أن معركة نيل السيادة والاعتراف الدولي من جانب كوسوفو هي الخطوة الأهم نحو الاستقلال وبسط سيادتها على كامل ترابها لاستكمال عملية بناء المؤسسات الوطنية الكوسوفية، إلا أن الهوية الإسلامية في كوسوفو تبتعد في الوقت نفسه عن محيطها الإسلامي من خلال الانجذاب السياسي والاقتصادي للغرب والتطبيع مع صربيا.

وضع كوسوفو في منطقة البلقان على المستوى الجيوسياسي يُطلق عليه «الخط النهائي للحزام الأخضر» الذي يضم الأراضي التي تعيش عليها أغلبية مسلمة، وذلك إلى جانب البوسنة والهرسك التي تعد الدولة الثانية في أوربا التي تعيش فيها أغلبية مسلمة. وعلى ضوء تدشين شكل جديد للتطبيع بين كوسوفو وصربيا، فإن هذه الأخيرة ستعاود العزف على وتر «الحزام الأخضر» لتجعل منه أولوية في الترويج مجددًا لفكرة أن كوسوفو دولة مسلمة وأن صربيا هي القادرة على منع تمدد ذلك الحزام وقطع الطريق أمام وصوله إلى الدول الغربية المسيحية.

عجلة التاريخ تعود بالصراع بين الغرب وتركيا وروسيا في إقليم كوسوفو:

لا يمكن إغفال حقيقة أن كوسوفو دولة مهمة بالنسبة لعدد كبير من اللاعبين الدوليين حاليًا، مثل: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وأن هناك ما يشبه الحرب الباردة للاستحواذ على كوسوفو منذ انهيار الدولة العثمانية، في وقت تظهر تركيا حاليًا كلاعب إقليمي قوي في منطقة البلقان يحاول استعادة مده الحضاري هناك أمام رغبة روسيا التاريخية في هذا البلد.

ومنذ الحروب البلقانية (1912-1914م) كان لروسيا على أيدي الصرب طموح جامح للوصول إلى مياه البحر الأدرياتيكي الدافئة، وكان الطريق إلى تلك المياه يمر عبر كوسوفو وألبانيا اللتين كانتا حينها تشكِّلان إقليمًا ترابيًّا موحدًا تحت سلطة الإمبراطورية العثمانية، وهو ما جعل كوسوفو تحتل موقعًا مهمًّا يثير لعاب روسيا التي تحاول أيضًا استعادة هيمنتها ونفوذها على هذا الممر المحوري لعبور البضائع عبره من روسيا وإليها.

يحاول الغرب توزيع الأدوار بين بلدانه لكبح جماح روسيا ورغبتها في بسط نفوذها على هذه البقعة من البلقان، وهو ما يضع كوسوفو عنوانًا عريضًا لهذه المعركة على المسرح الجيوسياسي العالمي منذ ما يزيد عن قرن من الزمان.

على خلفية كل هذه الصراعات المتداخلة والمتشابكة في كوسوفو، لا يخلو المشهد من محاولات لجذب المواطنين الكوسوفيين إلى ثقافات وحضارات مختلفة، من خلال منظمات المجتمع المدني التي نشطت في كوسوفو منذ إعلان استقلالها بموازاة عمل البعثتين الأممية والأوربية، أمام نشاط مكثف من الأئمة لصد محاولات سلب الهوية الإسلامية في كوسوفو، لكن يبقى حجم الاندفاع نحو مغريات الحياة الغربية المرفهة جليًّا وواضحًا في نمط الحياة الأوربية الذي بات السمة الغالبة للمجتمع الكوسوفي في هذه الفترة من التاريخ.

:: مجلة البيان العدد  342 صـفــر 1437هـ، نوفمبر  2015م.

أعلى