• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
قراءة في صدر سورة العلق

قراءة في صدر سورة العلق


رجح كثير من المفسرين أن صدر سورة العلق هو أول ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ من الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى فجأه الوحي وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، حَتَّى بَلَغَ: مَا لَمْ يَعْلَمْ... وفتر الوحي» (أخرجه الشيخان: البخاري رقم 3، ومسلم رقم 160)؛ قال ابن كثير بعد أن ذكر هذا الحديث: «فَأَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ، وَهُنَّ أَوَّلُ رَحْمَةٍ رَحِمَ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَأَوَّلُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ».

لا شك أن أول ما نزل من الوحي واستهل به له أهمية خاصة، ومعانٍ ودلالات يجب الوقوف عندها، وتدبرها، وإلقاء الضوء عليها؛ وذلك فيما يلي:

 لقد كان بدء نزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم آخر حدث كوني في هذه الدنيا وليس بعده إلا قيام الساعة وانتهاء أمر وعمر هذه الحياة، ففي الخبر الصحيح: «عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ)، قَالَ: وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى» (رواه والبخاري 6504، ومسلم 2951)، وقد ذكر كثير من المفسرين هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: ١].

 وفي قوله تعالى: {أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] من قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا 42 فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 42، 43]؛ لما سئل رسول الله عن الساعة؛ كان الإنكار عليهم «فِيمَ»؟! أي: فيم هذا السؤال؟ ثم ابتدئ: {أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا}: أي: أنت يا محمد من علاماتها؛ فهي قريبة، وإرسالك دليل على قربها. (انظر إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين أحمد مصطفى درويش المتوفى 1403هـ، دار ابن كثير، دمشق بيروت، ط4، 1415هـ).

وفي قوله تعالى في مستهل سورة القمر: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: ١] ذكر المفسرون أنه من باب التقديم والتأخير؛ أي انشق القمر واقتربت الساعة. ومعلوم أنه إذا كان الفعلان متقاربان متلازمان جاز تقديم أحدهما على الآخر (كما في قوله تعالى {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا} [هود: ١٧]؛ ومعنى «ضحكت»: حاضت؛ ذكره القرطبي عن مجاهد وعكرمة، فالمعنى: فبشرناها فضحكت، وقيل هو من الفرح والسرور، وهو في القرآن كثير)؛ أي لم يبق بعد انشقاق القمر إلا قيام الساعة؛ قال ابن كثير: «وقد وردت الأحاديث بذلك، روى الحافظ أبو بكر البزار، عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أَصْحَابَهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلا شيء يَسِيرٌ فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ) وما نرى من الشمس إلا يسيراً»؛ وهذه هي الدلالة الأولى.

دلالة البدء: «اقرأ»: لقد نزل القرآن بلغة العرب في زمن كانوا فيه بأعلى درجات الفصاحة والبلاغة والرقي الأدبي. وللعرب في لغاتهم ولهجاتهم شؤون ومذاهب؛ فلكل لفظ مدلولات ومعانٍ؛ فما هي مدلولات ومعاني «اقرأ»؟

 بعد مطالعة بعض معاجم اللغة كلسان العرب وغيره تبين أن لتلك الكلمة أربع مجموعات من المعاني: الأولى: «اقرأ»: تفقه (من تقرّأ: تفقّه)، تدبّر، تفهّم، تعلّم، تتبّع. الثانية: تنسّك، تعبّد؛ (فلان قارئ وقرّاء: ناسك عابد). الثالثة: بلّغ؛ يقال: قرأ عليه السلام: أبلغه؛ كأقرأه، ولا يقال أقرأه إلا إذا كان مكتوباً (الفيروزآبادي في القاموس المحيط). الرابعة: تحمّل؛ فالعرب تقول: ما قرأت هذه الناقة في بطنها سلا قط؛ أي ما حملت في بطنها جنيناً قط، يقال: قرأت الناقة: حملت، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ} [المزمل: ١]، أي: المحتمل؛ زمل الشيء إذا حمله، قال القرطبي: «عن عكرمة: يا أيها الذي زمل هذا الأمر؛ أي: حمله ثم فتر: (قم الليل)»؛ فقيام الليل سيعينك على التحمل؛ حيث قال بعد ذلك {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: ٥]. وهو معنى لطيف دقيق رائع وخطير. ولذلك سمى بعض العلماء «اقرأ»: عنوان القرآن؛ خطاب للنبي الأمي أن يقرأ، ولأمة النبي الخاتم؛ فهي أمة عاقلة مفكرة فاقهة فاهمة، أمة عابدة متنسكة بقرآن ربها، أمة حاملة للأمانة؛ أمانة العلم، أمانة الدين، الدعوة، أمانة القرآن؛ تعلمه وتعليمه، نشره وتبليغه وتحكيمه؛ فالحمد لله الذي جعل معجزة هذه الأمة عقلية لفرط ذكائها، ومعجزة الأمم السابقة حسية لفرط بلادتها.ولما كان البدء: «اقرأ» كان الختام هو النصر، فسورة النصر آخر ما نزل؛ فالقراءة طريق النصر! وفي ذلك إشارة إلى أن أمة الإسلام أمة متعلمة معلمة لغيرها، تحمل مهمة إخراج الناس من ظلمات الجهل والتخلف والفقر إلى نور العلم والمعرفة، وقيادة البشرية والترقي بها إلى مكارم الأخلاق وإلى الحياة الكريمة، ولقد أقام المسلمون حضارة قوامها العلم مع العدل والرحمة، واحترام الإنسان؛ تلك المقومات التي تشدقت بها وافتقدتها الحضارة الغربية.

لماذا كان أول الخطاب {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] ولم يكن: اقرأ بسم الله؟

 إنها عناية الرب ورعايته وتعهده لخلقه؛ فمن فضائل ربوبيته سبحانه أنه ما خلقهم عبثاً ولم يتركهم سدى، بل رباهم تربية أخلاقية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، كما رباهم تربية خلقية من الإيجاد والتكوين والإنماء والإنبات، وتسهل المعايش وتقدير الأقوات، وهو أيضاً خطاب الربوبية التي يقرون بها؛ وهذا من باب مراعاة مقتضى الحال أو ما يقال عنه «مراعاة أحوال المخاطبين»؛ فمن الخطر على الدعوة وصاحبها أن يحدث التصادم مع الخصم أو «المدعو» من أول وهلة، والدعوة وليدة لا تحتمل المواجهة، ولا ردود الأفعال الانتقامية أو التشنجية؛ إنهم يقرون بالرب الذي خلق الإنسان من علق، لكنهم يكفرون بالرب الإله المعبود المطاع؛ الذي له الخلق والأمر، هكذا فعل أبوه إبراهيم عليه السلام في مجادلة عبدة الكواكب في قوله «هذا ربي»؛ فقد أفقدهم حجتهم وأسقطها في مناظرته «الاستدراجية»... ولقد كان هذا هو فحوى الخطاب المكي؛ وهو خطاب الربوبية وإثبات «الألوهية «بالحجج والأدلة، وأن الرب الخالق المتفضل بالنعم هو الأحق أن يعبد، لا تلك الأصنام المصنوعة، ولا صناديد التشريع، ولا طواغيت الحكم، وذلك بمخاطبة العقل والفطرة للعودة بها إلى عهدها الأول، من خلال الجدال بالتي هي أحسن للتي هي أحسن وأقوم منذ أن نزلت «اقرأ بسم ربك» إلى أن ترك مكة صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة وبدأ خطاب الألوهية: «يا أيها الذين آمنوا...»، فكان من فضائل ربوبيته سبحانه: بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنزال الوحي، وهذا التوجيه الرباني «اقرأ باسم ربك».

هل قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل تعلم القراءة في أول لقاء بالوحي؟

 هل ظل على أميته؟ ذهب فريق المستشرقين إلى أنه تعلم القراءة والكتابة، وانتصروا لهذا الرأي، لكن غرضهم خبيث؛ وهو قولهم إن القرآن من عند محمد [صلى الله عليه وسلم] وقد كتبه وأعانه عليه قوم آخرون، قد يكونون من أهل الكتاب السابق أو غيرهم، ولا مشاحة في أنه قبل البعثة كان لا يقرأ ولا يكتب، لكن بعد الوحي هل ظل كذلك؟ بالطبع لا، فقد زالت أميته؛ لِم لا وقد أمره ربه أن يقرأ! وكرر عليه الملك الأمر؛ وهو يغطّه ثلاث مرات، ويقول له: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١]، فربك هو الذي يأمرك، وربك الذي يعلمك، وعلمك ما لم تكن تعلم؛ علم الناس بالقلم وعلمك بغير قلم، «وكان فضل عليك عظيماً»، وتلك من فضائل ربوبيته عليك وعلى أمتك. إن للأمية معاني كثيرة؛ منها: عدم تعلم القراءة والكتابة، ومنها: الأمة التي لا تحسب؛ أي لا تأخذ بالحساب في الشهور ومعرفة الأهلة: «قال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» (ذكره البخاري1913، ومسلم 1080 في كتاب الصوم. باب رؤية الهلال والعيد)، ومنها: من ليس له كتاب منزل (قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، ومنها المنسوب إلى أمه، وقيل لأصل فطرته.. ومع أن من العرب من كان يكتب ويقرأ؛ وكانوا يرتجلون الأشعار ويكتبون المعلقات، ويقيمون الأسواق الأدبية؛ لكنهم كانوا يعتمدون على قوة الحفظ والذاكرة. لقد تكرر الأمر: «اقرأ»، وربه يعلم أنه حتى هذه اللحظة لم يكن يقرأ، ومع هذا يقول له «اقرأ»؛ حتى قرأ وتعلم، فهو الذي {عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ٥]؛ علم آدم وعلمك يا محمد ما لم تكن تعلم، وعلم الناس بالقلم، وعلمك بغير قلم، وما كنت تعلم قبل ذلك: قال الله عز وجل: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]، أما بعده فقد علمك أن تقرأ وتكتب وتخط؛ وهذا ما ثبت في الصحیح عن البراء بن عازب رضي الله عنهما؛ وفیه: «ثم قال: لعلي: (امح رسول الله)، قال لا والله لا أمحوك أبداً فأخذ رسول الله. الكتاب فكتب» (حديث رقم 2699، ذكره البخاري في كتاب الصلح، باب: كيف یكتب: هذا ما صالح به فلان)؛ وفي الشرح ذكر ابن حجر قول أبي الولید الأبجي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن یحسن یكتب، وما أخرجه ابن أبي شیبة من طریق مجاهد عن عون بن عبد الله قال: «ما مات رسول الله حتى كتب وقرأ» ثم ذكر ابن حجر قول عیاض: «هذا وإن لم یثبت أنه صلى الله عليه وسلم كتب فلا یبعد أن یرزق علم وضع الكتابة؛ فإنه أوتي من كل شيء»، وفي تفسیر قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]؛ قال القرطبي في مسألته الثانیة: ذكر النقاش عن الشعبي أنه قال: «ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب.. ثم قال القرطبي بعد أن ذكر حدیث البراء في صلح الحدیبیة السابق وذكره روایة مسلم: قال علماؤنا رضي الله عنهم: وهذا أنه علیه الصلاة والسلام محا تلك الكلمة التي هي «رسول الله» بیده وكتب مكانها «ابن عبد الله»، وقد رواه البخاري بأظهر من هذا، ورأوه زیادة في معجزاته، واستظهاراً على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب من غیر تعلم لكتابة، ولا تعط لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على یده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها «ابن عبد الله» لمن قرأها. فكان بذلك خارقاً للعادة؛ كما أنه صلى الله عليه وسلم عُلم علم الأولین والآخرین من غیر تعلم ولا اكتساب؛ فكان ذلك أبلغ في معجزاته، وأعظم في فضائله، ولا یزول عنه اسم «الأمي» بذلك.

 يشير خطاب «اقرأ» بصيغة الأمر إلى وجوب القراءة والفهم والتدبر في صفحة الكون الفسيح لمعرفة قدرة الله وعظمته ووحدانيته، وفي صفحات الكتاب العزيز الحكيم الذي أحكمت آياته، وتمت كلماته صدقاً وعدلاً؛ للاهتداء به في عمارة الأرض وهداية الخلق، وإقامة الحق العدل، وصيانة الفطرة من الانحراف؛ فإن معرفة الله تعالى كما تثمر الخشية منه؛ تثمر العمل الصالح الذي يعود بالنفع والخير على البشرية بأسرها، غير أن أمماً سخرت عقولها وعلومها ومواردها لقهر الشعوب، وظلم العباد والطغيان في البلاد؛ وتلك من عواقب طغيان الغنى والاستغناء عن منهج الله: {كَلَّا إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى 6 أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: ٦، ٧] وللطغيان عواقب وخيمة!

إن العلم والقراءة والتدبر وسائل تخضع وتسير وفق منهج الله عز وجل، كما أن لها أهدافاً، وكلها تخضع لضوابط الشرع الحنيف؛ فنحن متعبدون بالوسائل الشرعية والأهداف النبيلة التي دعا إليها الشارع الحكيم؛ فكل ذلك {بِاسْمِ رَبِّكَ} أي على منهج ربك الذي خلق، وابتغاء مرضاته؛ وهما ركنا العمل الصالح؛ كما قال أهل العلم «أخلصه وأصوبه» أي الإخلاص والمتابعة؛ وهما شرطا العبادة؛ فكان من معاني {اقْرأْ} تفقه وتدبر وتعبد وتنسك بسم الله ولله وبحسب كلام الله خير الكلام وأصدق الكلام.

ليعلم كل عالم في مجاله أن فوق كل ذي علم عليم، وأن علم الإنسان مهما بلغ فهو كما أخذ العصفور بمنقاره من ماء البحر، وأن علم الله لا نهاية له؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]، وليعلم علماء الأرض أن ما شيدوه من حضارة، وما وصلوا إليه من اكتشافات وقدرات وتقنيات هو إلى زوال ودمار، وأن الكل راجع إلى الله للحساب والجزاء؛ قال تعالى: {إنَّ إلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: ٨]؛ تنبيه على تعلق العلم والحضارة والعمارة وارتباط ذلك بالله واليوم الآخر، وهو ما تقرر في مواضع كثيرة؛ ففي قصة ذي القرنين؛ ذلك العالم العامل الملك الممكن؛ الذي سخر علمه وقدراته في عمل الخير والتعبد لله بالأسباب الصحيحة التي علمه ربه إياها، ولم يطلب مالاً ولا مقابلاً من البشر؛ بعد أن علمهم كيف يبنون السد بجهدهم وما يملكون من موارد وإمكانات؛ أعطى للناس درساً في الإيمان بالله واليوم الآخر، وألا يغتر الناس بقوتهم ولا بعلمهم ولا بصناعاتهم ولا بأدوات الفتك وآلات التدمير التي لا ترحم؛ في قوله: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا 98وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا 99} [الكهف: 98، ٩٩]. ولا شك أن الحضارة التي تقوم على العلم المجرد من الإيمان بالله واليوم الآخر هي حضارة ساقطة، وآيلة إلى السقوط؛ قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: ١]؛ وتلك سنة الله؛ فكم من حضارات سقطت، وكم من أمم أبيدت وذهبت غير مأسوف عليها، وكم من جبابرة غرتهم قوتهم وصاروا عبرة وأحاديث، وكم من معاد للخير لم ينفعه علمه، ولم ينفعه سلطانه، وكم من صاد معاند لدين الله ولعباده المؤمنين أخذه الله؛ كما أخذ فرعون موسى، وكما أخذ فرعون مكة، وهي سنة الله في كل طاغٍ ضال مغرور بعلمه أو بسلطانه.

:: مجلة البيان العدد  345 جمادى الأولى  1437هـ، فـبـرايـر  2016م.

googleplayappstore

أعلى