العلماء وهموم الأمة

العلماء وهموم الأمة

 قُبَيل سقوط الاتحاد السوفييتي كانت بعض المؤسسات الخيرية الخليجية قد بدأت الدعوة والتواصل مع المسلمين في آسيا الوسطى وتتارستان وداغستان... وغيرها. وفي هذه الأثناء زار وزير العدل السوفييتي مدينة الرياض، فرأت إحدى المؤسسات الخيرية دعوته لحفل غداء، لعل في ذلك فرصة لتسهيل أعمالها الإسلامية في دولة معقدة جداً في أنظمتها وإجراءاتها القانونية، وتتوجس خيفة من المؤسسات الإسلامية خصوصاً.

فطلبوا مني أن أذهب إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى أدعوه لحضور هذه المناسبة، فلما كلمته أطرق برأسه مفكراً، ثم أخذ يسبح ويذكر الله تعالى - ثم قال: نعم سوف أحضر بإذن الله.

فاستغربت كثيراً من قبوله الدعوة، وقلت له: بصراحة يا شيخ دعوتك وكنت أظن أنك لن تقبل، فهذا الوزير يمثل دولة شيوعية معادية للمسلمين!

فسكت قليلاً ثم قال: هذا صحيح، ولكنها فرصة لمطالبته بحقوق المسلمين المصادَرة؛ فالحكومة السوفييتية استولت على المساجد والمدارس والأوقاف الإسلامية، وضيقت على المسلمين، وقتلت العلماء والخطباء والأئمة، وأخشى أن أعتذر عن الدعوة فنأثم جميعاً بسبب تقصيرنا في الدفاع عن حقوق المسلمين.

وفعلاً جاء سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى إلى الغداء، وجلس بجوار الوزير السوفييتي، وطلب المترجم، وتحدث معه أكثر من نصف ساعة.

وأحسب أن هذا الموقف من سماحة الشيخ - رحمه الله تعالى ليس موقفاً عابراً، بل يدل دلالة عميقة على ثلاثة أمور:

الأول: عمق البصيرة، وبعد النظر: فسماحة الشيخ تجاوز الرؤية القريبة من أجل تحقيق المصلحة البعيدة التي تقوم بها الحجة، وتبرأ بها الذمة، وهذا من فقهه وبُعْد نظره.

الثاني: الشعور بالمسؤولية، والغيرة على حرمات الأمة: فرغم كثرة أعمال الشيخ إلا أنه كان متابعاً جيداً لشؤون المسلمين في العالم، حريصاً على التواصل معهم ودعمهم، وأخبار الشيخ في هذا الباب أكثر من أن تحصى.

الثالث: الجرأة في الحق، والحرص على بذل النصيحة: فاللباقة والسياسة لا تمنع من المطالبة بالحقوق، والسعي لرد المظالم.

إن مسؤولية العلماء الربانيين كبيرة جداً، ولا يجوز اختزالها في بعض الشؤون المحلية مهما كانت كبيرة؛ فالأمة حينما تُنتقَص كرامتُها، ويتطاول البغاة والمفسدون عليها، فإن الأعناق تشرئب بحثاً عن العلماء الربانيين لتصدر عن رأيهم، وتسير في سبيلهم. وما أجمل قول العز بن عبد السلام: (ينبغي لكل عالم إذا أُذِلَّ الحقُ، وأُخمِل الصوابُ، أن يبذل جهده في نصرهما، وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أَوْلى منهما. وإنْ عزَّ الحق فظهر الصواب أن يستظل بظلهما، وأن يكتفي باليسير من رشاش غيرهما)[1].

 


[1] السبكي، طبقات الشافعية الكبرى. (8/245).

أعلى