• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ما أحوجنا إلى واعظ صدوق!

ما أحوجنا إلى واعظ صدوق!

«إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق ويفيض بالنور، ويرف كالشعاع، فإذا طال عليه الأمد بلا تذكر ولا تذكير تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلابد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولابد من الطرق عليه حتى يرق ويشف»[1].

في هذا العصر الصاخب بالقيل والقال، والحافل باتباع الملذات، والغارق في أتون الشهوات، والسادر في ركام الغفلات، كم نفتقر إلى تحريك قلوبنا الشاردة في بيداء مقفرة، قد غابت فيها المواعظ الصادقة، وأجدبت فيها العيون الباكية، فطالما استحوذ الران على القلوب، وتوالت عليها الصوارف والحجب التي حالت دون الإقبال على المواعظ والانتفاع بالزواجر. فهل الانهماك بالقضايا الذهنية، والإفراط في مسائل التفكير المجرد، والتوسع في تحريك كوامن الاعتداد بالقدرات والمهارات، و«صناعة» الظهور الإعلامي وأشباه ذلك.. هل ذلك كله أفضى إلى الزهد في المواعظ والنفرة من الرقائق؟!

إن المواعظ الإيمانية توجب الزهد في الشهرة والظهور، وتقضي على آفات المباهاة والتزين - بما عند الأشخاص - في اللقيا والاجتماع، وتستلزم محاسبة النفس ومراقبتها، وزجر اللسان عن تزويق الكلام، والانقباض من التكثر في العبارات وتشقيقها، فهذه الأحوال المصاحبة للمواعظ قد لا تروق لفئام أدمنوا على فضول الخلطة وكثرة الكلام والالتفات إلى قدرات الذات!

ومهما يكن فإن في النفس البشرية آفات وحظوظاً، وأدواءً وأهواءً لا يصلحها إلا زواجر المواعظ، ولا يزكيها إلا التذكير بالله تعالى والدار الآخرة، ولا يوقف جماحها إلا التخويف والترهيب، والتأليف والترغيب. وكم في كتاب الله من المواعظ المحرّكة، والزواجر الموقظة: قال تعالى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِـمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ 6 وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 7تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ 8} [ق: ٦ - ٨].

قال ابن تيمية في شأن هذه الآيات: «الآيات المخلوقة والمتلوة فيها تبصرة، وفيها تذكرة، تبصرة من العمى، وتذكرة من الغفلة، فيبصر من لم يكن عرف حتى يعرف، ويذكر من عرف ونسي، والإنسان يقرأ السورة مرات، حتى سورة الفاتحة، ويظهر له في أثناء الحال من معانيها ما لم يكن خطر له قبل ذلك، حتى كأنها تلك الساعة نزلت»[2].

وقرر الحافظ ابن رجب أن مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مجالس عظة وتذكير وترقيق للقلوب فقال: «كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة وتعليم ما ينفع في الدين، كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكّر ويعظ ويقصّ، وأن يبشر وينذر، فلذلك كانت تلك توجب لأصحابه رقة القلوب والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة»[3].

ومن تلك المواعظ النبوية البليغة ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعتُ مثلها قط، فقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا»، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، ولهم خَنين[4].

وكذا ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنعم[5] وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ» فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل[6]. قال النووي: القرن هو الصور الذي قال الله فيه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق: 20]  كذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم[7].

وتأمل تأثر الصحابة وأحوالهم، وما اعتراهم من رقة وإنابة، وبكاء وخنين، وكما يجليه حديث العرباض رضي الله عنه لما قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة، وَجِلت منها القلوب، وذرفت منها العيون»[8].

لقد أدرك أئمة السلف حاجة الأمة إلى الوعاظ، حتى قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: «ما أحوج الناس إلى قاصّ صدوق»[9]، وكان الوعاظ في تلك العصور المتقدمة علماء وفقهاء[10] ثم إن مواعظهم ربيع للقلوب، ويقظة للغافلين، فموعظة الحسن البصري - مثلًا - لحبيب الفارسي نقلته من صخب الأسواق إلى سكينة الإيمان والإقبال على الآخرة والتجافي عن دار الغرور[11].

وجاءت امرأة إلى سفيان الثوري، تشكي ابنها، فوعظه سفيان فصار عابداً قانتاً لا ينام الليل، ويصوم النهار، ويشتغل بطلب العلم والحديث[12].

لكن كما طال الأمد، وتصرّمت القرون الفاضلة، استحوذت الغواية، ونفقت الجهالة، وحصل الفتور والإعراض عن الوعظ المشروع، فاستعاضوا عنه بالوعظ المبتدع الممنوع، أو كما عبّر ابن الجوزي بقوله: «ثم خسّت هذه الصناعة»[13]، وكان الوعاظ الأوائل يريدون وجه الله والدار الآخرة بمواعظهم، ويصطادون القلوب الشاردة ويأطرونها أطراً على التوبة والإنابة، والعبادة لله والاستعانة، ثم خلف من بعدهم وعاظ يسترزقون بمواعظهم، ويصطادون الأموال بمظاهرهم ورسومهم! حتى إن أميراً ظالماً وعظه صوفي، فأعطاه مالاً، فقَبِل الواعظ ذلك، فقال الأمير: كلنا صيادون، وإنما الشباك تختلف، وقال النضر بن شميل لبعض الصوفية: تبيع جبتك الصوف؟ فقال: إذا باع الصياد شبكته بأي شيء يصطاد؟[14].

وتفاقمت أدواء الوعاظ وأمراضهم، حتى أفرده بعضهم بكتاب سمّاه «آفات الوعاظ»[15]، وأضحت مجالس الوعظ حلبة للتكثر من الأتباع، والمباهاة بأعداد التائبين، والمفاخرة بمن يُصعق فيها! كما في هذه الحكاية المؤسفة، وخلاصتها: أن أبا الفرج الشيرازي الحنبلي (ت 486هـ) وعظ الناس في مجلسه، فصاح رجل متواجداً فمات في المجلس، فقال المخالفون في المذهب: كيف نعمل إن لم يمت في مجلسنا أحد، وإلا كان وهناً. فعمدوا إلى رجل غريب، ودفعوا له مالاً، وقالوا: احضر مجلسنا. فإذا طاب المجلس فصح صيحة عظيمة، ثم لا تتكلم حتى نحملك، ونقول: مات.. فلما صنع ذلك، جاء رجل من الحنابلة، وعَصَر على خُصاه، فصاح الرجل فقالوا: عاش، ثم عاش، وأخذ الناس في الضحك![16].

ومهما قيل في حق الوعاظ في العصور المتأخرة، وما لحق الوعاظ ومجالسهم من شطحات وتجاوزات، فإن هذا لا يغير من الحاجة إلى الوعظ المشروع، ولا يكون مبرراً لمجافاة الواعظ، والنفرة من الزواجر، والتململ من الرقائق، فالمتعين أن تبعث مجالس الوعظ المشروع، وتعمر بها البلدان والأوطان، وأن يستصلح حال الوعاظ، وأن تعد البرامج الصادقة لتأهيل الوعاظ وإعداد القصاص، فطالما أقفرت القلوب، وأصابها الشعث والشتات في أودية الدنيا والمال والجاه، وأعظم سبيل إلى مدافعة هذه الغفلات، والخلوص من تلك الغمرات هو تحريك القلوب بالمواعظ الإيمانية التي تقوي الإيمان بالله واليوم الآخر، كما كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم يفعلون، فعمر الفاروق رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله عز وجل[17]، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لصاحبه: اجلس بنا نؤمن ساعة[18]، وأما عبد الله بن رواحة فيأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: تعالوا نؤمن ساعة، تعالوا فلنذكر الله ونزدد إيماناً تعالوا نذكره بطاعته، لعله يذكرنا بمغفرته[19].

قناة البيان المرئية


 

 

:: مجلة البيان العدد  350 شــوال  1437هـ، يـولـيـو  2016م.


[1] في ظلال القرآن لسيد قطب 6/ 3489.

[2] الإيمان الكبير ص224،223، وينظر: ص21، والرد على المنطقين ص341.

[3] لطائف المعارف ص26،25 = باختصار، وينظر: جامع العلوم والحكم 2/111.

[4] الخنين: هو البكاء مع غُنّة وانتشاق الصوت من الأنف.

[5] أي كيف أفرح وأسرّ وقد اقتربت الساعة.

[6] رواه أحمد والترمذي، وقال حديث حسن.

[7] رياض الصالحين، باب الخوف.

[8] رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

[9] تلبيس إبليس لابن الجوزي ص134.

[10] ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص135.

[11] ينظر: حلية الأولياء 6/149.

[12] انظر: حلية الأولياء 7/66،65.

[13] تلبيس إبليس ص135.

[14] ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص222،207 ، والمنظم لابن الجوزي 14/12.

[15] ينظر: طبقات السبكي 8/127.

[16] ينظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/70، 71.

[17] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (31003).

[18] أخرجه البخاري تعليقاً في صحيحه في أول كتاب الإيمان.

[19] أخرجه ابن أبي شيبة (31065).

 

قناة البيان المرئية

أعلى