مقدمة.. رؤية فقهية لتحديد النسل

مقدمة.. رؤية فقهية لتحديد النسل

إن الدعوة إلى تنظيم النسل دعوة عالمية، يرعاها صندوق الأمم المتحدة للسكان، وغيره كالمنظمات الحقوقية المستقلة أو التابعة للأمم المتحدة، وقد أعلنت الأمم المتحدة عام 2012م أن تنظيم النسل حق من حقوق الإنسان، وتنظيم النسل عندهم ليس بمطابق لتنظيم النسل الذي ينادي به بعض المسلمين، إذ هو في تعريف منظمة الصحة العالمية: قدرة الأفراد (أي غير الأزواج) والأزواج على توقع وتحقيق ما يرغبون فيه من عدد الأطفال، مع المباعدة بين الولادات وتوقيتها. ويتحقق ذلك من خلال آليات نصوا عليها من نحو تقنيات تحديد النسل، وإشاعة الثقافة الجنسية، وإدارة العقم، والمباعدة بين الولادات، وتوقيتها[1].

ومن مقصودهم بذلك سواء المنظمات الحقوقية أو منظمة الصحة العالمية أو صندوق السكان، الحد من الفقر[2]، وتحسين رعاية الأطفال حديثي الولادة[3].

ومما تقدم يعلم أن تنظيم النسل في الاصطلاح الأممي يراد به أمر يرونه حقاً من الحقوق الإنسانية، لا أمراً إنما تبيحه الضرورة أو يقف على الحاجة فقط، بل هو حق واجب وقصاراه أن يكون جائزاً، وهذا الحق يتحقق عندهم بالتعقيم وتحديد أعداد المواليد، وإباحة الإجهاض بل كفالته حقاً آمناً، وكذلك إباحة إقامة العلاقات لإشباع النزوات خارج إطار الزوجية وتبعاتها، كما قد يتحقق بعلاج العقم غير الاختياري، وبالمباعدة بين الولادات وتوقيتها، وذلك كله يهدف إلى تحقيق جملة أمور منها مكافحة الفقر، وتحسين الرعاية.

وإذا تبين الفقيه هذا لم يخفَ عليه ما في الدعوة إلى تنظيم النسل من إجمال مُضَلِّل، فهل يريد الدعاة إليه من المسلمين الاصطلاح الأممي؟ أم يريدون معنى خاصاً بهم؟ وما حكم التنظيم بالاصطلاح الأممي.. هل يُقبل كله أم يُرد برمَّتِه أم فيه تفصيل؟

وأياً ما كان فمن المهم أن نعي أن تنظيم النسل الذي يصوره بعض المثقفين على أنه مجرد مباعدة بين الولادات للمصلحة وليس هو بتحديد للنسل، تصور خاص، لا يطابق تنظيم النسل وبرامجه التي تدعو إليها المنظمات الأممية والحقوقية، التي تراه حقاً سواء اقتضاه مقتضى أم لا، وسواء كان بتحديد النسل والتعقيم أو بغيره، بل ما كان بغيره قد لا ينسجم مع بعض أهدافهم كمعالجة الفقر بتخفيض نسبة السكان.

ولما سبق تجد في فتاوى الراسخين التنبيه والتفصيل في حكم تنظيم النسل، فتراهم إذا سئلوا عن تنظيم النسل قالوا نحواً من قول العلامة عبد العزيز بن باز: «مسألة تنظيم النسل كلمة مجملة قد تحتمل أنواعاً من التفسير»، ثم يبينون التفسير المقبول منها، وجملته المباعدة بين الولادات بقدر ما يفي بالحاجة أو يحقق الضرورة. وينصون على حكم ما خالف ذلك، كقول الشيخ رحمه الله في تمام جوابه: «أما ما قد يفسر به تنظيم النسل بأنها تتعاطى أدوية تمنع الحمل بعد ولدين، أو بعد ثلاثة، أو بعد أربعة هذا ليس بتنظيم، ولكنه قطع للنسل وحرمان للزوجين من النسل وهذا لا يجوز؛ لأن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالحث على تعاطي أسباب الولادة، وكثرة النسل للأمة»[4].

ومن فطنة أكابر فقهائنا ملاحظتهم ما تقدم حتى وسموا الدعوة إلى تنظيم النسل بلا تمييز تضليلاً. وحق لهم إذ الدعاة إليه في الدول الإسلامية من الموظفين الأمميين يروجون برامجهم بلفظ فيه تمويه يريدون مدلولاً فيه ما لا يوافقهم عليه العلماء، لينطلي على بعض المثقفين والأدعياء، فلا غرو أن نص قرار مجمع الفقه الإسلامي على أن تسمية تلك الدعوة بـ«تنظيم النسل» تضليلٌ، حيث جاء في قرار المجمع ما نصه: «فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثالثة المنعقد في مكة المكرمة في الفترة من 23 إلى 30 ربيع الآخر سنة 1400هـ في موضوع تحديد النسل أو ما يسمى تضليلاً (تنظيم النسل)»[5].

وعلى المسلم أن يتبصر فيميز بين الدعوة إلى سياسات صحية وتعليمية توافق ما قررته الشريعة من الحض على النسل وتكثير الذرية، ويعتبر مع ذلك ما رخص فيه العلماء من التنظيم الجائز، مفرقاً بينه وبين ما يخدم تحديد النسل وإن سمي تضليلاً بتنظيم النسل! والمحك هو المقصد الذي يراد بالتنظيم: هل هو مكافحة الفقر وتحسين المعيشة خشية الإملاق؟! أم هو خوف الضرر على الوالدة والعجز عن القيام بواجب الرعاية والتربية؟ وهل جعلوا تدابيره حقاً مفروضاً أو مباحاً أم جعلوها مخرجاً للمضطر أو العاجز عن القيام بأعباء التربية؟

ورعاية المقصد مؤثرة في الحكم، إذ من كان قصده بالتنظيم تحسين نمط التربية وإغناء الذرية، فهو مصدق إيعاد الشيطان له بالفقر وتخويفه بشح المصادر الطبيعية على وجه البسيطة، وتنظيمه يهدف في نهاية المطاف إلى تحديد النسل بحيث لا يزيد عن التزاماته وحساباته وأقساطه ومصروفات مرتبه أو تجارته! يرى أن من حقه إسقاط جنين لئلا يتأخر قسط السيارة مثلاً! بخلاف من لم يكن منه ذلك على بال لكن اضطره إلى التنظيم ضرر صحي أو عجز عن الرعاية والتربية إما لضعف أو مرض فيه أو في بنيه أو غير ذلك، وهو واثق في وعد ربه حيث يقول: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، متوكلاً عليه في رزقه، مصدقاً بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، منتهياً عن نهيه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام: 151]، {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31].

ومما تقدم يعلم أن بعض من يدعو إلى تنظيم النسل ويرفع عقيرته بأنه يريد التنظيم لا التحديد إما مُضَلِّل كذاب، أو مُضَلَّل يهرف بما لا يعرفه، ولا يتصور عواقبه.

إشكالية التفريق بين التنظيم والتحديد

من الملاحظات في هذا الصدد أن كثيراً من الفقهاء والباحثين ينصون على التفريق بين تنظيم النسل وتحديده، وهذا جارٍ على رعايتهم لاصطلاحٍ خاص، ومرادٍ يُعلم من قرنهم بين تحريم تحديد النسل وإباحة تنظيمه للحاجة لا للفضول والترف، أما من زعم أن تنظيم النسل غير تحديده مطلقاً فهذا مخطئ أو خاطئ مضلل، إذ المدلول اللفظي لتنظيم النسل أو تخطيطه بالعربية والأعجمية يدخل فيه تنظيمه بتحديده ويدخل فيه ما دونه، وعلى هذا جرى الاصطلاح الأممي، الذي أنشئت له هيئات وأقيمت من أجله برامج نفذ كثير منها في بلدان كثيرة قتلت بسببها أجنة، ووئد بفعلها بنين وبنات في الشهر السادس والسابع! وعقمت فيها أرحام ولودة، وزين الاكتفاء بالسفاح عن الزواج لما يجره الأخير من التبعات! ولا حول ولا قوة إلا بالله! تأمل كيف صدق عليهم وعد الشيطان، وكيف اتبعوا أمره: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268].

وإنك لتعجب من بعض المسلمين كيف جَروا على سَنن الملحدين الماديين القائم أمرهم على التغالب والأثرة لا التكافل والإيثار، فعدوا الفقرَ قرين التكاثر! والانحراف والجريمة نتيجةَ الفقر، متغافلين عن كتاب ربهم، بل عن واقعهم وتاريخ أسلافهم الذين ما زادت نسب الجرائم إلا مِن بعدهم؛ بعدما فتحت على أحفادهم الدنيا! وفي ذلك مصداق ما أقسم عليه نبينا صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[6]، وذلك أن الابتلاء بالنعم أعظم فتنة وأدعى للجريمة والانحراف من الابتلاء بالفقر، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، {كَلًّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6]، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]، ومن خطر الابتلاء بالنعمة أن كفرانها مؤذن بالعقوبة، وتأمل كيف كانت عاقبة خير جيل لما عصى بعضهم في أحد بعدما أنعم الله عليهم فأراهم ما يحبون!

وعوداً إلى الموضوع، فإن من مقاصد شريعتنا الغراء تكثير النسل[7] إبقاءً على النوع الإنساني[8]، وزيادةً لعُمَّار الدنيا بالإيمان والعمل الصالح[9]، ولهذا شَرَعت التعدد، ومنعت الاختصاء، وحضت على زواج الولود، وأبقت على سبي الكفار من النساء، وحرمت قتلهن في الحروب، إلى غير ذلك من الأحكام التي يذكرها الفقهاء، وكل ما عارض هذا المقصد جملة فهو فاسد عقلاً وشرعاً، وما عارض بعضه فإنما يسوغ بقدر الحاجة أو الضرورة على اختلاف الأحوال؛ فمن التدابير ما لا تبيحه إلا الضرورة ومنها ما تبيحه الحاجة، ومصلحة البشرية في تكثير النسل مع تحسين إدارة الموارد الطبيعية والبشرية، فتنمّي هذه وتُنمَّي هذه، ومن الخلل بل من الجشع أن ينظر المرءُ إلى شح الموارد الطبيعية فيدعو إلى تنميتها بسحق نسب النمو البشري! غير عابئ بما يتهدد القوميات الإنسانية من الزوال الحقيقي أو الخلقي جراء تدابير ما أنزل الله بها من سلطان! إن الإحصاءات الأممية تسفر عن انخفاض مُريع في نِسَب النمو البشري، فبينما بلغ معدل النمو عام 1962-1963م نسبة 2.2% وهي النسبة التي تؤهل المجتمعات للمحافظة على هويتها، إذ ينتج كل زوجين نحواً منهم، عادت لتنخفض إلى قرابة 1% في السنوات الأخيرة! ولا يزال يتوقع لها مزيد انخفاض.

كل ذلك جراء جشعِ الماديين الذين لا دين لهم، وطمعِهم في الرفاه! ولله ما أعظم جناية تنظيمهم الضال على البشرية! فكم من فاحشة زينوا، وكم من موؤدة بغير ذنب تقف بين يدي الله يوم القيامة تسائلهم، وما أعظم ضلال من وافقهم أو وقف معهم!

وقى الله المسلمين شرَّهم، وجعل تدابير أعدائهم وبالاً عليهم، والحمد لله ربِّ العالمين.


 

:: مجلة البيان العدد  351 ذو القعدة  1437هـ، أغسطس  2016م.


[1] يمكن الرجوع لموقع منظمة الصحة العالمية:

http://goo.gl/KkDufu .  

والموسوعة الحرة:

http://en.wikipedia.org/wiki/Family_planning .

 

[2] انظر موقع الصندوق:

http://www.unfpa.org/about-us 

[3] انظر موقع منظمة الصحة: (http://goo.gl/4hEkK8 ).

 

[4] تنظر فتواه في موقعه رحمه الله:

http://www.binbaz.org.sa/mat /20074.

 

[5] انظر نص القرار في مجلة البحوث الإسلامية، العدد الثلاثون، من ربيع الأول إلى جمادى الآخرة، 1411هـ، ص285.

[6] متفق عليه انظر صحيح البخاري (3158)، ومسلم (2961).

[7] انظر الموافقات للشاطبي 1/133، والإعلام بما في دين النصارى للقرطبي ص421، وإعلام الموقعين لابن القيم 2/127.

[9] أشار إليه القرطبي في الإعلام ص455.

أعلى