التطبيع الإعلامي مع الكيان الصهيوني

التطبيع الإعلامي مع الكيان الصهيوني


التأصيل المفاهيمي للتطبيع:

 التطبيع كما هو متعارف عليه دولياً هو: إعادة علاقات طرفين معينين إلى وضعها الطبيعي الذي كانا عليه قبل أن يطرأ موقف صراعي بينهما. وهذا المفهوم يعني إعادة العلاقات إلى طبيعتها بين طرفين طرأ بينهما موقف غير طبيعي، أي موقف صراعي سواء بلغ حده الأعلى بإعلان الحرب أو الحد الأدنى من الصراعات العادية[1].

وهناك أنواع مختلفة من التطبيع تبدأ من التطبيع السياسي كنافذة مهمة للتطبيع الاقتصادي، ثم التطبيع الثقافي والإعلامي لتغيير صورة العدو في الوعي الباطن للشعوب؛ ينتج عنه الاعتراف رسمياً بالعدو ورفع مستويات التعامل السياسي والدبلوماسي بعد توفر الحاضنة الشعبية من خلال التطبيع الإعلامي والثقافي بصفته أخطر أنواع التطبيع، خصوصاً أنه يستهدف جيل الشباب بالدرجة الأولى.

يعرف العالم العربي عودة قوية لخطاب التطبيع مع العدو الصهيوني، خصوصاً مع موجة الثورات المضادة وانتشار فكر جديد لدى الشباب بداعي التعايش والأنسنة، في محاولة لتبخيس الصراع العربي الصهيوني إلى نزاع سياسي حول مناطق جغرافية ينتهي بحدوث تصالح بين الأطراف المتنازعة وإيجاد مصالح مشتركة[2].

في الحالة العربية - الصهيونية التطبيع يعني إنهاء حالة المقاطعة بكل أشكالها، السياسية والاقتصادية والثقافية التي كان العرب يفرضونها على الاحتلال الصهيوني. وربما كان الاحتلال الصهيوني قادراً على تحمل المقاطعة الاقتصادية، لاعتماده في كل ما يحتاجه على الغرب، وعلى غالبية دول العالم، وما كان يخسره الكيان الصهيوني من المقاطعة العربية تعوضه عنه أمريكا وبأموال عربية، لذلك كانت المقاطعة السياسية والثقافية أخطر على الاحتلال الصهيوني من المقاطعة الاقتصادية، بمعنى أن الاحتلال الصهيوني كان يجد من يعوضه عن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن المقاطعة العربية ولكنه لا يستطيع إيجاد من يعوضه عن حالة العداء العربي وعدم الاعتراف به، فالمقاطعة السياسية والثقافية الشعبية هي ما يثير الاحتلال الصهيوني ومعه الولايات المتحدة[3].

التأصيل التاريخي للتطبيع مع الكيان الصهيوني:

منذ معاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيوني، وردة الفعل العربية بمقاطعة مصر، ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس، وبعد الاتفاقات الفلسطينية والأردنية مع الكيان الصهيوني والتغير الحاصل في الموقف والخطاب العربي، والتحرك الشعبي العربي في مسألة المواجهة مع العدو الصهيوني والمقاطعة ومقاومة التطبيع؛ بدأ صراع بين خطابين عربيين يتوجهان في الوسائل الإعلامية إلى الرأي العام الغربي[4]:

الخطاب الأول: قاده دعاة الصلح مع الكيان الصهيوني، وتطابق فيه إعلام دعاة الصلح من العرب مع إعلام الكيان الصهيوني في نسج أطر التعاون، وضرورة إنهاء الحرب وكل أوجه المقاومة والانتقال إلى تحديد مراحل التطبيع، والدعوة إلى مساندة مصر والكيان الصهيوني في مسيرة السلام.

أما الخطاب الثاني، فقد قاده الرؤساء والملوك العرب في دعوة لتحصين المجتمعات العربية من مخاطر التطبيع، وفرض الأمر الواقع، وفي محاولة لكسر طوق الإدارة الأميركية في تعميم النموذج المصري - الصهيوني في اتفاقات صلح منفردة جديدة.

وفي تسعينات القرن الماضي، بعد مؤتمر مدريد للسلام، واتفاق أوسلو وما بعده، حصلت إعادة قراءة عربية رسمية لمسألة الصراع مع العدو الصهيوني، لعبت على فكرة تقادم الزمن، وعمدت إلى رمي ذاكرتنا حول حقنا في فلسطين، والصراع الوجودي مع العدو وراء ظهورنا، وسعت إلى تحسين شروط الهزيمة، والتعاطي مع الكيان الصهيوني بوصفه كياناً طبيعياً في المنطقة فرضه الأمر الواقع علينا. وهكذا، شهدنا مظاهر التطبيع مع الكيان الصهيوني على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية، وصولاً إلى الإعلام العربي الذي تخلى عن اللغة الخشنة في مواجهة «الكيان الغاصب»، وبدأ في التلطف معه، مستخدماً عباراتٍ تكرس وجوده بشكل عادي في أرضنا، باعتباره فاعلاً طبيعياً ضمن معادلات المنطقة[5].

وبدأنا نرى على قنوات إخبارية عربية وضع اسم «إسرائيل» على خريطة فلسطين، بكل ما تعنيه هذه المسألة من رمزية، ومن لعبٍ على الوعي والذاكرة لأجيال عربية جديدة يراد لها أن تنسى قضيتها، وألا ترث مسؤولية مواجهة عدوها الوجودي، حيث يتحول هذا العدو إلى «دولةٍ طبيعية» في المنطقة، لها علم وخريطة، ولها أيضاً من يتحدث باسمها، ويعبر عن وجهة نظرها داخل هذه القنوات الفضائية. هذه القنوات استضافت على مدار السنوات الماضية محللين وصحافيين وسياسيين وعسكريين، ينتمون لهذا الكيان الغاصب، وحاورتهم بشكل اعتيادي، تحت شعار سماع الرأي الآخر، في وقت لا يمكن لهذه القنوات أن تسمح بالرأي الذي يعارض توجهها داخل الوطن العربي[6].

وفي نهاية عام 2012م واجه الكيان الصهيوني إشكالية كبيرة في ارتباطه ذهنياً بـ«الدولة المجرمة» لدى الجيل الغربي والأمريكي الجديد بعد انطلاق عصر «صحافة المواطن» مع بدايات العام 2006م، نتيجة سهولة الوصول إلى الصورة والمعلومة، وفي عصر الإغراق المعلوماتي الكبير، حيث بقي الكيان الصهيوني في حروبه الثلاث 2006م ضد لبنان، و2008 و2012م ضد غزة، في ظل فترة الهدوء التي سادت العالم بعد الانتهاء من تبعات حرب العراق؛ الكيان الوحيد الذي يخوض حرباً شرسة، والوحيد الذي يخوض حروباً يستخدم فيها القصف العشوائي بأسلحة محرمة دولياً لعبت الصورة دوراً مهماً في إظهار عدوانيته.

ونظراً للمخاوف الصهيونية من صورته أمام الجيل الجديد سعى الكيان الصهيوني بالتعاون مع وزارة الخارجية الأمريكية في عام 2012م وعبر خطة منظمة لخطوات سريعة في علاج المشكلة، حيث انتشرت صور لحسناوات صهيونيات يعملن في الجيش الصهيوني على المجلات الأمريكية الأكثر انتشاراً أهمها مجلة «مكسيم» الإباحية، لتظهر نعومة هذا الجيش وأهمية القوة المفرطة التي استخدمها لحماية القوة الناعمة لديه مستخدماً أسلوب الإثارة والإغراء ومعتمداً على «الفانتازيا» في محاولة تحسين صورة الجيش الصهيوني في أذهان الجيل الجديد.

انتقل بعدها للتعامل الرسمي مع الإعلام العربي، من خلال الضغوطات التي مارستها الولايات المتحدة على الأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتوقيع اتفاقيات سلام وعقد مؤتمرات دولية تضم مسؤولين عرباً وصهاينة، وكانت مبادرة السلام العربية عام 2004م برعاية الرباعية الدولية، وبدعم المستوى العربي الرسمي هي آخر الأبواب المغلقة لبداية عصر التطبيع مع الكيان الصهيوني في المستوى الرسمي وبمعزل عن المستوى الشعبي، لتبدأ مرحلة التطبيع الإعلامي وبكل صراحة بين الكيان الصهيوني والإعلام العربي الرسمي لما له من تأثير واضح في الوعي الشعبي العربي.

الأسباب الكامنة وراء التطبيع الإعلامي المقصود وغير المقصود مع الكيان الصهيوني:

أدى ضعف الإعلام العربي في صناعة الخبر وسرعة الوصول لمصادره الحقيقية، واعتماده على عنصري الإشاعة والتهويل في تحويل بعض الهزائم والمواقف السياسية المرنة لانتصارات وبطولات، إلى فجوة كبيرة في الثقة بينه وبين المواطن العربي الذي اتجه لقنوات ومواقع غربية للوصول إلى المعلومة وتدعيمها كوكالة رويترز، أو قناة BBC، وإذاعة مونتي كارلو، وCNN، التعاطي مع أخبارها والتي تنحاز بسياسة واضحة للكيان الصهيوني ضد العرب والفلسطينيين، وتطبع إعلامياً مع الكيان الصهيوني بشكل واضح.

استدعى هذا الضعف وغياب الرؤية الإعلامية الموحدة لمقاومة التطبيع استضافة صهاينة من مستويات مختلفة على قنوات التلفزة العربية في السنوات الأخيرة، وقد تزايد ظهور هذه الشخصيات في السنوات القليلة الماضية على قناتي الجزيرة والعربية الأكثر مشاهدة في الوطن العربي، خصوصاً «أفيخاي أدرعي» الناطق باسم الجيش الصهيوني، مما يعني إدخال الرواية الصهيونية وتبريرات الجرائم المرتكبة من قبل الكيان لكل بيتٍ عربي.

إن حجم التعاطي الشعبي العربي بالسلب أو الإيجاب مع التصريحات التي يدلي بها «أفيخاي أدرعي» الناطق الرسمي باسم الجيش الصهيوني على صفحات التواصل الاجتماعي يثبت حجم الجريمة التي ارتكبتها وسائل الإعلام العربية في شرعنة الكيان من خلال التعاطي مع شخصياته الرسمية إعلامياً.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل بدأت وسائل الإعلام العربي بتصنيفاتها المختلفة من تلفزيونية وإذاعية وإلكترونية ترويج الروايات الصهيونية على لسان الصهاينة، ونقل وجهات نظرهم للمتلقي العربي، دون مناقشة المتحدثين الصهاينة في كلامهم، بل ونقله من مصادر صهيونية.

نماذج حديثة في التطبيع الإعلامي مع الكيان الصهيوني:

سنأخذ نموذجين للدولتين المركزيتين في الوطن العربي، مصر والسعودية، في التطبيع الإعلامي مع الكيان الصهيوني.

أولاً: مصر: احتفلت سفارة مصر في الكيان الصهيوني بمرور 64 عاماً على ثورة 23 يوليو، وبحضور رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتيناهو، ورئيس الكيان ريفلين ريبلين، حيث هنأ نتنياهو الشعب المصري بعيد الثورة، وقال: «إن مصر دولة رائدة في الشرق الأوسط، وتلعب دوراً محورياً في القضية الفلسطينية». بعدها صافح السفير المصري حازم خيرت رئيس الكيان الصهويني، لم يثر الإعلام العربي، ولم يَنل الحدث نصيبه من المساءلة، والصورة التي جمعت خيرت مع نتنياهو وريبلين مرت وكأن شيئاً لم يكن[7].

حاول الإعلام المصري إعادة تعريف الصراع بين الاحتلال ومصر على أن الكيان الصهيوني «واحدة من دول الجوار» دون إضافات أو هوامش قومية أو تاريخية، وبدأ بتطبيع كافة المصطلحات السياسية ابتداء من تحويل لفظة «العدو الصهيوني» إلى لفظة «دولة إسرائيل» وليس انتهاءً بتعريف الشخصيات السياسية الصهيونية والتعريج على اللقاءات المصرية معهم باعتبارها إنجازاً سياسياً عبر عديد من قنوات التلفزة الحكومية.

ثانياً السعودية: أثارت زيارة اللواء السعودي المتقاعد أنور عشقي للكيان الصهيوني في يوليو الماضي رفضاً شعبياً ودبلوماسياً سعودياً، حيث اعتبر عشقي أن الشعوب العربية تتعامل بعاطفتها مع الكيان الصهيوني، برغم أنه بات أمراً واقعاً.

ذروة تصريحات «عشقي» كانت خلال حوار أجراه مع قناة «فرانس 24»، حينما تقمص دور وزير الخارجية السعودي، قائلاً إن «المملكة تريد تحقيق تعايشاً بين العرب وإسرائيل، وإن المنطقة بحاجة إلى رجل قوي ومنطقي مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو»[8].

الكاتب السعودي جمال خاشقجي رد على زيارة عشقي قائلاً: «إن السعودية ليست بحاجة من الأساس إلى التطبيع مع إسرائيل»، وأشار إلى أن التطبيع مع الكيان الصهيوني لن يقدم شيئاً للمملكة بل سيكون عبئاً عليها، وأسوأ ما تفعله الرياض في معركة علاقاتها العامة مع العالم الإسلامي أن تظهر بمظهر المتحالف مع الكيان الصهيوني ضد إيران، وستكون هذه الهدية التي تنتظرها طهران.

ورد الكاتب السعودي جاسر الحربش على زيارة عشقي في مقال له بعنوان «التطبيع من المحظور إلى المستباح»، أنه «لو طبعت الحكومات لن تطبع الشعوب... الحكومات قد تطبع علاقاتها مع عدو لدواع أمنية أو حسابات سياسية... الشعوب لا تطبع مع عدو يتسلى جنوده بالتبول على عجوز فلسطينية ملقاة على الرصيف، ويتحرشون بالفتيات ثم يطلقون عليهن الرصاص لأنهن قاومن التحرش، ويقتلون الأطفال بعد صلاة الجمعة على أبواب المساجد، ويحرقون الرضع في بيوتهم ويقصفون المدينة بقنابل الفوسفور الحارق... إسحاق رابين كان يعتبر عند قومه من الحمائم فقتلوه، برغم أنه قال يوماً ما: سوف نكسر عظام العرب ونحطم جماجمهم ونريهم النجوم في عز الظهيرة».

في مقاومة التطبيع الإعلامي مع الكيان الصهيوني:

التوقف الفوري عن استضافة الشخصيات الصهيونية والتعاطي معها في الإعلام العربي، ودعم وجهة النظر السياسية العربية المفندة لادعاءات الصهاينة، وتعميقها في الوعي العربي، والتوقف عن ذكر الأخبار الصادرة من الصحف والقنوات التابعة للكيان الصهيوني دون تفنيدها وتقديم وجهة النظر العربية لها.

زيادة حجم الصورة في المحتوى العربي للسينما العربية والمهرجانات العربية المتخصصة في الأفلام الوثائقية عن خطورة الاحتلال الصهيوني في المنطقة العربية، وإظهار جرائمه بحق الفلسطينيين، والمقدسات الإسلامية، والتركيز من خلال الفيلم الوثائقي كمحطة جديدة لعبور العالم الجديد على سياسات الاحتلال الصهيوني من الاستيطان ومحاولة تهويد المقدسات الفلسطينية من خلال تحويل الإعمار فيها.

إنشاء مجموعات متخصصة في الإعلام الجديد مناصرة للقضية الفلسطينية قادرة على إدارة حملات المقاطعة الإعلامية مع الكيان الصهيوني، ونشر جرائم هذا الكيان وخطورة التطبيع بأشكاله المختلفة معه على المنطقة العربية، من خلال الصورة والمعلومة السريعة الموثقة وباستخدام لغات مختلفة.

تعرية المطبعين مع الكيان الصهيوني في كافة المجالات من خلال ذكر أسمائهم وفضح آرائهم وتفنيدها للمواطن العربي في كافة وسائل الإعلام وبتصنيفاتها المختلفة، وفي هذا السياق كان لموسوعة التطبيع والمطبعون: العلاقات المصرية - الإسرائيلية 1979-2011م» لمؤلفها رفعت سيد أحمد، مدير مركز يافا للدراسات، دور مهم في إظهار الأضرار والمخاطر التي تعرضت لها مصر بسبب التطبيع مع الكيان الصهيوني في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية، والكشف بالأسماء والوثائق عن أسماء المطبعين، وفضحهم، والجرائم التي ارتكبوها في حق القضية الأولى.


 

:: مجلة البيان العدد  355 ربيـع الأول  1438هـ، ديـسـمـبـر  2016م.


[1] هشام البستاني، مقاومة التطبيع: ورقة مفاهيمية، صحيفة الأخبار اللبنانية، 19 أبريل 2016م.

[2] يونس بلفلاح، عودة خطاب التطبيع، صحيفة العربي الجديد، 23 يونيو 2016م.

[3] إبراهيم أبراش، العرب من مقاطعة إسرائيل إلى التطبيع المجاني معها، الحوار المتمدن العدد 4108، مايو 2013م.

[4] مؤتمر «كلمة سواء» السنوي السابع: «الذات والآخر في الإعلام المعاصر»، الجلسة الثانية، الإعلام والصراع العربي الإسرائيلي، بيروت، 2002م.

[5] بدر الإبراهيم، عن التطبيع الإعلامي مع إسرائيل، الغد العربي، لندن، يناير 2016م.

[6] المصدر السابق.

[7] رامي كوسا، السفير، 22-8-2016م.

[8] فاطمة عامر، الإعلام السعودي يروج للتطبيع مع إسرائيل.. فهل المملكة بحاجة لذلك؟ صحيفة الخليج العربي، الإمارات، سبتمبر 2016م.

أعلى