الآثار الاقتصادية لاتفاقية كامب ديفيد

الآثار الاقتصادية لاتفاقية كامب ديفيد

 لم تكن اتفاقية كامب ديفيد أقل وطأةً على الشعب الفلسطيني من هزيمة عام 1967م؛ فإن كان الاحتلال الشكلي لأراضي الضفة وغزة قد تم بعد النكسة، فإن الاحتلال الفعلي قد بدأ بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد وتنازل مصر الدولة العربية الكبرى وحاضنة المشروع الفلسطيني عن حقوق الفلسطينيين في حدثٍ هو الأول من نوعه عربياً وإسلامياً. 

بدأت مفاوضات كامب ديفيد في 5 سبتمبر 1978م واستمرت ثلاثة عشر يوماً، حاولت الولايات المتحدة خلالها أن تجد حلاً وسطاً بين مطالبة الرئيس المصري أنور السادات بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وتمسك رئيس وزراء الكيان الصهيوني مناحيم بيجن بالسيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة وعدم منح سكانهما أي مظهر من مظاهر الاستقلال، ففي بداية الأمر رفض الجانب المصري طرح الكيان الصهيوني المتعلق بالقضية الفلسطينية، وأصر الوفد المصري على أن أي حل للقضية المصرية يجب أن يكون مرتبطاً بقضية الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، وبرغم إصرار أنور السادات على ذلك الموقف في بداية المفاوضات إلا إنه سرعان ما تنازل أمام موقف الكيان الصهيوني المتعنت، وتحت وطأة التعنت الصهيوني والتركيز المصري على تقديم المصالح المصرية (المتمثلة في انسحاب الكيان من شبه جزيرة سيناء)، تم اعتماد الحكم الذاتي الذي اقترحه بيجن، وقد هدف بيجن من مقترح الحكم الذاتي إلى منح سكان الضفة والقطاع سلطةً إداريةً محدودة لا تفضي بأي حالٍ من الأحوال إلى إقامة الدولة الفلسطينية. وقد نجح بيجن من خلال أسلوب المماطلة والتسويف الذي اتبعه في تفادي التعهد بأية التزامات، فتهرب من مناقشة القضايا الحيوية المتعلقة بالقضية الفلسطينية ولم تتطرق الاتفاقية إلى مستقبل القدس والمستوطنات وصلاحيات المجلس الإداري التابع للحكم الذاتي، كما لم تنص المعاهدة على وقف الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

 وعليه يمكن القول: إن توقيع اتفاقية كامب ديفيد قد أهدر الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني والتي أقرتها المواثيق والقرارات الدولية، بالإضافة إلى ذلك فقد حيدت الاتفاقية جمهورية مصر العربية من الصراع العربي الإسرائيلي حيث جاء في المادة الأولى في البند الأول من نصوص الاتفاقية «تنتهي حالة الحرب بين الطرفين»، مما لا يسمح لمصر بالدفاع عن أية دولة عربية يقوم الاحتلال بالاعتداء عليها، وتم التوقيع على المعاهدة في ظل اعتداءات الاحتلال المستمرة على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعليه فقد فقدت القضية الفلسطينية دعم أكبر وأقوى الدول العربية، وترك الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع وحيداً ليواجه محاولة التهويد ومشاريع السيطرة الصهيونية.

بعد أن تمكن الكيان الصهيوني من نزع اعتراف أكبر وأقوى الدول العربية بشرعية احتلاله لأراضي الضفة وغزة وبعد أن عزل مصر عن التدخل الفعلي في الشئون الداخلية الفلسطينية قام بجملة من الإجراءات بغية إحكام السيطرة على الفلسطينيين بعيداً عن التدخل المصري، وقد ركزت تلك الإجراءات بشكلٍ معمق على الجانب الاقتصادي، حيث هدف الاحتلال من خلال تلك الإجراءات إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني ومن ثم السيطرة عليه وجعله تابعاً لاقتصاد الكيان، وذلك بغية تركيع الشعب في الضفة وغزة والتحكم في قوت أبنائهم، وقد استغل الكيان بعض بنود اتفاقية الحكم الذاتي الإداري التي أفضت إليها اتفاقية كامب ديفيد في هدم أهم أعمدة الاقتصاد الفلسطيني متمثلاً بالقطاع الزراعي، حيث نصت الاتفاقية على منح سكان الضفة الغربية وغزة حق الاختيار بين الجنسيتين الإسرائيلية والأردنية وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات ولاسيما حق اليهود في امتلاك أراضٍ في تلك المناطق، وهو ما سهل سيطرة الاحتلال على الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات عليها.

إضافةً إلى ذلك فقد فشلت الاتفاقية في تجميد الاستيطان في الضفة وغزة، وعليه فقد قام الكيان الصهيوني بعد اتفاقية كامب ديفيد بمصادرة مساحات واسعة من الأراضي الخصبة المزروعة بالخضراوات والنخيل، حيث سيطر على ما يقرب من ثلث مساحة قطاع غزة في الفترة الممتدة ما بين اتفاقية كامب ديفيد واتفاقية أوسلو عام 1993م، ولم تتوقف جهود الكيان الصهيوني في تدمير القطاع الزراعي وربطه بالاقتصاد الإسرائيلي عند ذلك الحد، فقد عمل على تشجيع المنتجات الزراعية الفلسطينية المكلمة للمنتجات الإسرائيلية والقضاء على المنتجات الزراعية المنافسة لها، وقد وصل الأمر بالكيان الصهيوني في سبيل ذلك إلى استيراد القتلة والمحترفين التابعين للمافيا، وذلك لدعم مليشيات المستوطنين في غاراتها العدوانية على القرى الزراعية الفلسطينية، حيث قامت بإحراق مئات الهكتارات من المزارع ورشها بالمواد الكيماوية السامة، وقد بلغت الحرب الإسرائيلية على القطاع الزراعي آنذاك ذروتها من خلال السيطرة على الموارد المائية وتقليص كميات المياه المخصصة للضفة وغزة، ويذكر أن التوريد المائي في الضفة الغربية بلغ 700 مليون متر مكعب وفي غزة 600 مليون متر مكعب في الفترة الممتدة بين اتفاقية كامب ديفيد واتفاقية أوسلو، نقل إلى المستوطنات من تلك المياه ما بين 515-530 متر مكعب أي ما نسبته 68%، مما أدى إلى ضعفٍ شديد في موارد المياه الفلسطينية التي تمثل شريان الحياة للمزارع الفلسطيني والقطاع الزراعي، وبناء على ما سبق يمكن القول إن سلطة الاحتلال قد اجتهدت في وضع أكبر قدر من المعوقات أمام القطاع الزراعي وقد هدفت من خلال ذلك إلى أمرين:

 أولاً: دفع المزارع الفلسطيني إلى ترك العمل في زراعة وفلاحة الأرض في الضفة وغزة، وبالتالي تدمير ارتباط المزارع الفلسطيني بأرضه وهو ما يسهل عملية شرائها، وهو ما أتاحته اتفاقية كامب ديفيد، ومن ثمة السيطرة عليها.

 ثانياً: هجرة الأيدي العاملة الفلسطينية في الضفة وغزة من العمل في القطاع الزراعي الوطني والتوجه للعمل في الداخل المحتل في سوق العمالة الإسرائيلية بأجور زهيدة، وبذلك تكون سلطات الاحتلال قد نجحت من جهة في تجفيف أهم روافد الاقتصاد الفلسطيني من خلال تدمير القطاع الزراعي ومن جهة أخرى فقد جعلت الاقتصاد الفلسطيني تابعاً لاقتصاد الكيان الصهيوني من خلال استيعاب الأيدي العاملة التي تم تهجيرها للعمل في الداخل المحتل بعد تدمير القطاع الزراعي الفلسطيني.

ومن الملاحظ أن جميع تلك الإجراءات ما كانت لتكون لولا توقيع اتفاقية كامب ديفيد بما تحتويه من بنود تخول الاحتلال فعل ذلك إضافةً إلى عزلها مصر بشكل كامل عن التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي.

ولم تقتصر إجراءات الاحتلال على الجانب الزراعي فقط بل تعدته إلى الجانب الصناعي حيث عملت سلطات الاحتلال على تدمير البنية الصناعية للاقتصاد الوطني الفلسطيني بهدف ربطه باقتصاد الكيان الصهيوني وجعله تابعاً له، وذلك من خلال عدد من الإجراءات منها استمرارية فرض حالة حظر التجوال على السكان في الضفة وغزة، وهو ما حال دون وصول العمال إلى أماكن عملهم، كما حال دون وصول الإنتاج إلى أماكن التسويق ولم تكتف سلطات الاحتلال بذلك بل عملت على فرض العديد من المعوقات على حركة الأموال، حيث منعت دخول الأموال من الخارج سوى بمقدار 200 دينار فقط لكل فرد وهو ما أثر على قدرة أرباب الحرف على استيراد المواد الخام، إضافةً إلى معوقات أخرى متعلقة بحركة تصدير البضائع للخارج وعرقلة حركة المواصلات بين المدن ومنع تزويد الضفة الغربية وقطاع غزة بالوقود، وبالإضافة إلى هذا وذاك فقد عملت سلطات الاحتلال على إثقال كاهل الاقتصاد الفلسطيني بالضرائب، فاتخذت من سياسة فرض الضرائب معول هدم تدمر به أسس الاقتصاد الوطني الفلسطيني، ففرضت الضرائب الباهظة على المنتجات الوطنية، كضريبة القيمة المضافة والتي وصلت إلى 18%، وضريبة الدخل والتي زادت في بعض الأحيان عن 38.5%، بالإضافة إلى الرسوم الجمركية على المواد الخام والآلات والمعدات المستوردة، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وتدني الأرباح وبالتالي العجز في الاستمرار في السوق فضلاً عن استخدام أساليب الإرهاب ضد المواطنين في جلب الضرائب من خلال المداهمات الليلية ومصادرة بطاقات الهوية لأصحاب المصانع للضغط عليهم لدفع الضرائب، وقد ارتفعت قيمة ما يحصله الكيان الصهيوني من ضرائب في الضفة الغربية من 59 مليون دولار عام 1980م إلى 195 مليون دولار عام 1992م.

وقد أدت جميع تلك الإجراءات القاسية والتي لم يكن يستطيع الاحتلال اتخاذها لولا تحييد مصر من التدخل في الشأن الفلسطيني بفعل اتفاقية كامب ديفيد إلى إغلاق الكثير من المصانع والمتاجر والتأثير سلباً وبشكل جوهري على الصناعات المحلية ومن ثم على الإنتاج المحلي في الضفة وغزة، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة وضعف القدرة الشرائية وتدمير الاقتصاد الوطني الفلسطيني.

ومن الملاحظ أن اتفاقية كامب ديفيد وقانون الإدارة الذاتية قد نصا على ضرورة موافقة كل من الأردن والمجلس الإداري الفلسطيني والكيان الصهيوني بالإجماع على أي قرار كي يصبح نافذاً، وعليه فقد استغلت حكومة الكيان الصلاحيات الممنوحة لها بموجب الاتفاقية في رفض قيام العديد من المشاريع الاقتصادية الوطنية الكبرى التي تقدم للفلسطينيين في الضفة وغزة تحت ذريعة الدواعي الأمنية، وذلك بغية تدمير القطاع الصناعي.

ويلاحظ أن الكيان الصهيوني قد سعى من خلال إجراءاته التي أدت إلى إغلاق المصانع وكساد التجارة إلى تحقيق هدفين رئيسين، الأول تمثل في جعل الضفة وغزة أشبه بالسوق الاستهلاكية لمنتجاته الصناعية والتجارية بالإضافة إلى جعله سوقاً تابعاً ومكملاً لسوق الكيان الصهيوني، وذلك من خلال تشجيع الصناعات والمحاصيل التي لا يوجد لها منافس إسرائيلي والقضاء على الصناعات والمحاصيل التي تنافس مثيلتها في الداخل المحتل، وقد نجحت فعلياً في ذلك، ففي عام 1985م تلقى الكيان الصهيوني 82.2% من صادرات قطاع غزة، وزودته ب 91.9% من وارداته. أما الهدف الثاني فقد تمثل في دفع الأيدي العاملة الفلسطينية الحرفية إلى الهجرة باتجاه العمل في الكيان الصهيوني بأجرة زهيدة مقارنة مع الأيدي العاملة اليهودية، حيث بلغ معدل أجر العامل اليهودي ضعفي معدل أجر العامل الفلسطيني، وعليه فقد نجح الكيان الصهيوني من خلال ذلك في استغلال الأيدي العاملة الفلسطينية إضافة إلى تحويل الفلسطينيين من أرباب حرف ومزارعين إلى أجراء يعملون في الداخل المحتل، وهو ما وضع الفلسطينيين في كثير من المواقف تحت سيف الابتزازات الصهيونية في أرزاقهم وقوت يومهم.

وبناءً على ما سبق يمكن القول إن الكيان الصهيوني قد نجح بفعل تحييد مصر من خلال اتفاقية كامب ديفيد واستناداً إلى بعض بنودها التي تمنح الاحتلال صلاحيات واسعة في الضفة وغزة في تدمير أركان الاقتصاد الفلسطيني وجعله اقتصاداً تابعاً للاقتصاد الصهيوني ومعتمداً عليه من حيث استيعاب الأيدي العاملة واحتكار التصدير والاستيراد من وإلى السوق الفلسطينية، وقد تجلى واضحاً مدى تشوه الاقتصاد الفلسطيني مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م حيث عمد الاحتلال إلى منع استيراد أي من المنتجات الفلسطينية سواء الزراعية أو الصناعية والتي كانت تنتج خصيصاً للسوق الإسرائيلية، بالإضافة إلى منع العمال الفلسطينيين في الضفة وغزة من العمل داخل الكيان الصهيوني، وهو ما أدى إلى زيادة نسبة البطالة وانخفاض الدخل وارتفاع نسبة الفقر إلى مستويات قياسية في الضفة وغزة، وعليه فقد بات واضحاً أن الآثار الاقتصادية المدمرة لاتفاقية كامب ديفيد ما زالت تلقي بظلالها على الاقتصادي الفلسطيني حتى يومنا هذا.

 

 

أعلى