• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الفهمَ الفهم!

الفهمَ الفهم!

لا شك أن من أعظم العِبَر وأشدِّها وَقْعاً على النفس التغيُّر المفاجئ للأحوال؛ فالموت أو المرض بعد الصحة، والفقر بعد الغنى، والذل بعد العز، والضعف بعد القوة، وعكسها كلُّها عِبَر، وما يَصْدق على الفرد يصح تطبيقه على الجماعة أو الحزب أو الدولة وعلى الأمة كذلك.

إن من تفكَّر في تعاقب الليل والنهار المستمر فَهِم أن تتابع الأضداد سُنة كونية ثابتة؛ فالتوحيد يعقبه الشرك، والتمكين يعقبه الذل والهوان، والغنى يعقبه الفقر عند التفريط في أسباب هذه النعم؛ فلا يركنَنَّ أحد إلى ما في يده؛ لأنها كلها على سبيل العارية والاختبار. وبالمقابل؛ فمن كان ابتلي بشيء من المصائب المؤلمة: من بدعة تلبَّسها، أو ذنب أدمن عليه، أو فقر، أو جهل، أو ذُلٍّ، فلا ييئس ولا يركن إلى واقعه الذي يمكن تغييره إذا اتخذ الأسباب والسبل التي بيَّنها الله لعباده وهداهم إليها. ومن أعظم الخزي أن يمهل الله العبد ويمد له في العمر ويبسط له في الدنيا ومع ذلك يتمادى في ظلم نفسه بالمعصية، بل يتعدى ظلمُه إلى الآخرين، بل يتجاوز إلى أن يتحمل وزر محاولة إضلال أمة وإبعادها عن منهج الله مستغلاً في ذلك ما أعطاه الله من جاه وسلطة.

 لقد وصل (بورقيبة) إلى الحكم في تونس وهو يحمل لقب المجاهد الأكبر، في مرحلة كان الشعار هو تصفية الاستعمار، ولم يكن أحد يتصور أن مرحلة ما بعد الاستعمار ستكون أشد وطأة وأكثر إيلاماً؛ فقد اختيرت تونس لتكون محلاً لتطبيق عملية إعادة التشكل الاجتماعي؛ فهناك شبه تقديس رسمي لرأس الهرم، وكان هناك تناقض بين الواقع والشعارات؛ فمن يتسمى بالمجاهد الأكبر يأمر العمال بالفطر في رمضان حتى لا يتأثر الإنتاج. وفي الواقع كانت نظرية النظام أن البقاء بالسلطة رهن بتكوين شعب فاقد للمبادئ وأن مظاهر التدين والانتماء تتناقض مع سمات الدولة المتحضرة؛ ولذلك فقد سبقوا الآخرين بشعارات تجفيف المنابع وتحرير المرأة وتكميم الأفواه والتضييق على رواد المساجد وترهيبهم... وتفاقَم الوضع مع عزل بورقيبة على يد ربيب نعمتـه (زين العابدين ابن علي) حتى تم تفريغ البلد من جميع قياداته التي لا تنتمي للحزب الحاكم. وكانت اليد الطولى في إدارة البلاد تقوم على استغلال النفوذ مع ما يصاحب ذلك من فساد مالي وإداري وقبضة أمنية حديدية، وهو ما يسمح لنا أن نطلق على تونس بحق أنها الدولة السجن؛ أي أنها مبنية على أساس أن النزلاء هم الأعداء وأنَّ التحكم بهم هو المهمة الرئيسة والوحيدة.

لقد تمتع النظام التونسي برعاية غربية وتغطية لكل الجرائم التي كان يرتكبها؛ لأنه يقود مسيرة التغريب: فالحرية هي الشعار، ويُقصَد بها الفهم الليبرالي للحرية، إنها حرية الانعتاق من كل الضوابط الشرعية والاجتماعية. أما الديمقراطية فهي الدثار؛ فهناك أحزاب ومجلس نواب ولكنَّ هناك فقط حزب واحد يحكم، وهناك نظام جمهوري معلَن ولكن البلد تحكمه أسرة رئاسية. وهذا كله لا بأس به عند الغرب بشرط النجاح في المهم؛ وهو كما قال السفير الأمريكي: «مكافحة التطرف». فحسب تسريبات ويكيليكس التي تحمل عنوان (تونس المضطربة... ماذا ينبغي أن نفعل؟)، والتي صدرت عن السفارة الأمريكية في تونس في 13/ 7/ 2009م، يقول السفير الأمريكي في تونس (روبرت جوديك): «التغيير الحقيقي في تونس سوف يحتاج إلى انتظار رحيل ابن علي» وأضاف جوديك في البرقية: «معظم المواطنين هناك (أي: في تونس) يشعرون بالإحباط بسبب غياب الحريات السياسية، وارتفاع مستوى البطالة، والفساد في السلطة، وعدم المساواة، بينما يشكل التطرف تهديداً متواصلاً، والرئيس ابن علي على أعتاب الشيخوخة، ونظامه متصلب، ولا توجد مؤشرات واضحة حول خليفته المنتظر، والنتيجة: تونس مضطربة، وعلاقاتنا معها أيضاً». إنها إشارة واضحة إلى أن الفساد والبطالة وغياب الحريات اجتمعت مع نمو التطرف وضعف رأس الهرم وعدم قدرته على مواجهة التحديات؛ ولذا فمن الأفضل غيـابه؛ فالفاشل أو العـاجز لا قيمة له. والمثير في الأمر أن الرئيس إلى آخر لحظه لم يتوقع تسلسل الأحداث؛ فردود أفعالة متأخرة دائماً؛ ففي البداية وصف المتظاهرين بالإرهاب، ثم وعد بتوفير العمل، ثم وعد بالحرية وعدم ترشيح نفسه مدى الحياة في تتابع سريع حسب سقف المطالب التي يرفعها المتظاهرون، وعندما هرب اتجه إلى من عمل من أجلهم وأفنى عُمُره في خدمة مصالحهم ولكن اكتشف متأخراً أيضاً أنه لا قيمة لشخص زين العابدين الذي تحول من رئيس إلى كبش فداء؛ لذلك فإن تدارُك الأوضاع وإنقاذَ ما يمكن إنقاذه يحتِّم أن يبقى النظام ويذهب الرئيس وتذهب عائلته؛ فلم يُسمَح لطائرته بالهبوط في باريس، بل طُلِب من عائلته اللاجئة المغادرة، وأخيراً اتجه الرئيس إلى الشرق في رحلته الأخيرة متذكراً أنه فهم الوضع في تونس بعد فوات الأوان، وقد يكون متحسراً على أن الشخصيتين الوحيدتين اللتين أشادتا به وتمنيَتا بقاءه علناً هما: (العقيد القذافي ونتنياهوا).

أعلى