(ملحق باريس الاقتصادي) اقتصاد فلسطيني في جوف الاحتلال الصهيوني

(ملحق باريس الاقتصادي) اقتصاد فلسطيني في جوف الاحتلال الصهيوني


حينما وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية في 13 سبتمبر 1993م اتفاق أوسلو المشؤوم أو ما يسميه الفلسطينيون «النكبه الثانية»؛ كان اتفاقاً مؤقتاً أو مرحلياً ينتهي بعد ستة أعوام بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة ومقومات اقتصادية؛ فالنواة السياسية للدولة الفلسطينية صاحَبَها أُخرى اقتصادية تمثلت في بروتوكول أو ملحق باريس الاقتصادي الذي وقَّعه الجانبان الفلسطيني والصهيوني في 29 أبريل 1994م.

شكَّل تنظيم العلاقات الاقتصادية الفلسطينية - الصهيونية أمراً بالغ الأهمية للطرفين كليهما؛ فالسلطة الفلسطينية الوليدة لم تكن تتطلع لسلبيات الملحق الاقتصادي وتداعياته الخطيرة مستقبلاً بقدر ما كانت تنظر إلى إعادة حقوق وتجاوز المرحلة الانتقالية التي تتحول معها من مجرد سلطة حُكم ذاتي إلى دولة مُكتملة السيادة، وعلى الجانب الآخر كانت الرؤية الصهيونية مختلفة تماماً، فدولة الاحتلال التي حَمَّلت السلطة الفلسطينية ثمن احتلالها للأراضي الفلسطينية لسلطة أوسلو سياسياً وأمنياً، وتخلصت من أي عبء اقتصادي كانت مُجبَـرة على دفعه قبل اتفاق أوسلو.

في هذه الظروف جاء بروتوكول باريس الاقتصادي الذي احتوى في مجمله على 82 نصاً قانونياً شملت عدة جوانب رئيسية، أبرزها ربط ضريبة القيمة المضافة بين المناطق الفلسطينية والصهيونية دون الأخذ بعين الاعتبار تلك الفروقات الكبيرة بين الاقتصادَين، فَنِسَب الضريبة في المناطق الصهيونية تصل إلى أكثر من 18% لكنها تتلائم مع مستوى الدخل المرتفع لدى المواطن الصهيوني الذي يزيد دخله عن ثلاثة أضعاف دخل المواطن الفلسطنيي، بينما تتساوى تقريباً هذه النسبة مع مناطق السلطة الفلسطينية ذات الدخل المنخفض، وهو ما تسبب في ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق مع دخول السلطة إلى الأراضي الفلسطينية، كما يستمر الارتفاع في الأسعار مع كل تعديل ضريبي تجريه الحكومة الصهيونية، لأن الحكومة الفلسطينية تكون ملزمة بالتعديل؛ فملحق باريس سمح بفرق 2% فقط بين معدلات الضريبة داخل الكيان وداخل أراضي السلطة الفلسطينية.

من ناحية أخرى تظهر أهم كوارث ملحق باريس في أسعار المحروقات التي لا تراعي أي فروق بين الاقتصادَين الصهيوني والفلسطيني؛ فالمواطن الفلسطيني مُلزمٌ بالتسعيرة الصهيونية، ولم يُعطِ ملحق باريس نسبة فروق سوى 15%؛ غير أن الأخطر من ذلك يكمن في ضرائب أخرى تُقرُّها الحكومة الصهيونية على المحروقات (المواد البترولية) الموجهة إلى أراضي السلطة الفلسطينية، حيث تحصل الحكومة الصهيونية على ضريبة أخرى تُسمى (بلو) تصل إلى دولار أمريكي عن كل لتر بترول واحد، ومعنى ذلك أن قيمة الضريبة الإجمالية تصل إلى 50% لكل لتر بترول يصل إلى المستهلك الفلسطيني وهي الأعلى على مستوى العالم.

لا يحتاج المتتبع إلى كثير من الجهد والبحث لمعرفة أهم أزمات السلطة الفلسطينية؛ فمنذ السنوات الأولى على نشأتها وهي تعاني من أزمة مالية تتكرر كلما ساءت الأحوال السياسية والأمنية في الأراضي الفلسطينية، والسبب هنا يعود إلى ابتزاز سلطات الاحتلال للسلطة الفلسطينية سياسياً عبر استغلالها لملحق باريس الذي يمكِّنها من التحكم في الأموال التي تُعتبر مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى خزينة السلطة الفلسطينية، فسلطات الاحتلال هي المخوَّلة - حسب ملحق باريس - بجمع وتحصيل كافة الضرائب والجمارك على الواردات الفلسطينية وعلى المبيعات الصهيونية في الأسواق الفلسطينية، ومن ثَمَّ تحويل تلك الأموال إلى حساب السلطة الفلسطينية، وهذه الأموال تمثل نحو 70% من مجموع الأموال التي تجمعها خزينة السلطة الفلسطينية سنوياً، غير أن تحويل تلك الأموال لا يتم بشكل منتظم، فتحويل هذه الأموال بشكل شبه طبيعي يحتاج دائماً إلى هدوء سياسي وأمني نسبي ينبغي أن توفره السلطة الفلسطينية عبر التنسيق الأمني.

من جانب آخر يستخدم الاحتلال هذه الأموال للضغط على السلطة الفلسطينية ويسلبها أي قرار سياسي أو أمني، فإذا كان اتفاق أوسلو قد منح الاحتلال الإسرائيلي اعترافاً فلسطينياً رسمياً مجانياً، فإن ملحق باريس حَوَّل السلطة الفلسطينية إلى أداة تستخدمها سلطات الاحتلال للحفاظ على أمنها وأمن مستوطناتها مقابل الإفراج عن جزء من أموالها التي تُنتزَع من دماء الشعب الفلسطيني!

رُغم مرور أكثر من ربع قرن على ملحق باريس الاقتصادي، إلا أن الاقتصاد الفلسطيني لم يجد طريقه بعدُ للانطلاق نحو التنمية أو حتى التحول من اقتصاد قائم على المساعدات إلى اقتصاد مستقل، لأنه ظل مرهوناً بالاقتصاد الصهيوني؛ فأي محاولة للتنمية في الاقتصاد الفلسطيني تبقى مرهونه بقرار الاحتلال الذي يحدد حجم ونوع السلع التي ستدخل إلى الأراضي الفلسطينية؛ فحاجة السوق الفلسطيني لا تحددها قاعدة العرض والطلب كما هو معروف عالمياً؛ إنما يتم تحديدها صهيونياً، وملحق باريس هنا يتحكم في عدد السعرات الحرارية التي تدخل إلى جسد المواطن الفلسطيني؛ فالعامل الأمني هنا يسبق كافة العوامل الأخرى؛ أي أن السوق الفلسطيني يُحرَم من عشرات السلع لأسباب أَمْنية، وهذا بفعل ملحق باريس الذي منح الاحتلال تحديد نوعية السلع وما يحتاجه السوق الفلسطيني منها، فلا يحق - مثلاً - للتاجر الفلسطيني استيراد ما يحتاجه من كميات إلا حسب المتفق عليه بين الجانبين الصهيوني والفلسطيني. لكن هذا نظرياً، لأن وجود جانبين فلسطيني وصهيوني يحددان احتياجات السوق الفلسطيني ويجريان بعض التعديلات بات شيئاً من الماضي، لأن اللجنة المشتركة التي وردت في ملحق باريس توقف عملها منذ عام 1999م، وهو العام الذي كان يُفترض معه أن ينتهيَ اتفاق أوسلو وكذلك ملحق باريس وتتحول السلطة الناشئة إلى دولة، غير أن توقف اللجنة الاقتصادية المشتركة يستمر إلى وقتنا الحالي ويحدد الاحتلال منفرداً احتياجات السوق الفلسطيني ويتحكم في مستوى العمالة والنظام الضريبي والمصرفي والاستيراد والتصدير.

حتى على مستوى علاقة السلطة الفلسطينية الاقتصادية بالدول الأخرى؛ فهي أيضاً مرهونه بملحق باريس؛ فالدول التي لا تقيم علاقات مع دولة الاحتلال تُحرَم السلطة الفلسطينية أو التجار الفلسطينيون من عقد أي صفقات تجارية معها حتى لو كانت سلعها أكثر جودة أو أقل تكلفة؛ فالاقتصاد الفلسطيني غير مسموح له بالتوسع والتطور إلا بموافقة الاحتلال. ويظهر هنا ضعف القِطاعات الاقتصادية الفلسطينية بشكل جليٍّ في العديد من الشركات، أبرزها قطاع الاتصالات، فتكنولوجيا الجيل الثالث لم تصل إلى المستهلك الفلسطيني إلا قبل سنوات قليلة بسبب رفض الاحتلال إدخال معدات وأجهزة خاصة بشركات الاتصالات في قطاع غزة، كما أن كميات الوقود التي يسمح الاحتلال بدخولها إلى الأراضي الفلسطينية محددة من قبل الاحتلال ولا تراعي الزيادة السكانية والتطور الحضري في الأراضي الفلسطينية، وذلك في ظل غياب أي لجان مشركة كانت قد وردت في ملحق باريس.

يمكن ملاحظة تدهور الاقتصاد الفلسطيني بفعل ملحق باريس من خلال مراقبة معدلات التنمية في الأراضي الفلسطينية، وقد شهد الاقتصاد الفلسطيني تطوراً ملحوظاً في السنوات الأولى للسلطة الفلسطينية؛ فقد ارتفع الناتج المحلي الفلسطيني إلى أكثر من 42%، لكنه تراجع إلى نحو 30% عام 2002م، غير أن هذا الارتفاع كان وهمياً ولا يدلل على أي تحسن حقيقي، لأن السلطة الفلسطينية تلقَّت كثيراً من المساعدات الخارجية خلال سنواتها الأولى ووظفت عشرات الآلاف من الشباب الفلسطيني في مؤسساتها الأمنية والمدنية، لكن مع مرور الوقت كان التردي الاقتصادي مُخيفاً وغير مسبوق، فمعدلات الفقر والبطالة في الأراضي الفلسطينية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة؛ ففي قطاع غزة تصل نسب البطالة إلى أكثر من 45% بينما تصل إلى 25% في الضفة الغربية، وقد تجاوز معدل الفقر العام في الأراضي الفلسطينية أكثر من 30% وهو ما أكد عليه تقرير البنك الدولي عام 2018م، حيث اعتبر التقرير الأراضيَ الفلسطينية أكثر المناطق العربية فقراً.

وهنا يمكن توضيح مخرجات ملحق باريس أو تداعياته على الاقتصاد الفلسطيني من خلال الإشارة إلى دراسة نشرها معهد أبحاث السياسات الاقتصادية (ماس) عام 2013م، حيث أوضحت الدراسة أن بنود ملحق باريس الاقتصادي عامه جداً ويعتمد تطبيقها بشكل أساسي على الالتزام الأخلاقي من الطرفين، وفعالية اللجنة المشتركة المغيبة أصلاً، ومع تدهور الوضع السياسي وفشل العملية السلمية وتوسع الاستيطان في الضفة الغربية وتراكم الحواجز إلى جانب فرض الحصار على قطاع غزة، وسيطرة الاحتلال على كافة منافذ التصدير والاستيراد، فإن عبء ملحق باريس آخذ في التزايد على الاقتصاد الفلسطيني.

هذه التداعيات الخطيرة على الاقتصاد الفلسطيني عبَّرت عنها قيادة السلطة الفلسطينية مراراً، لأن العجز مستمر في الميزان التجاري الفلسطيني إلى جانب تراجعٍ كبيرٍ في مستوى التنافسية بالنسبة للشركات الفلسطينية التي باتت غير قادرة على دفع هذه الرسوم والضرائب المضاعفة، الأمر الذي وجه السوق الفلسطيني إلى الاعتماد على الشركات الصهيونية التي تعتمد على السوق الفلسطيني في ظل تغييب أي مناخ للإنتاج والتنمية في الأراضي الفلسطينية، لكن مطالبة السلطة الفلسطينية بتعديل بنود هذا الاتفاق لم تعد قابلة للتطبيق؛ فالسلطة تنادي بتعديل الاتفاق منذ عام 2012م، لكن الخلل الذي يكمن في نصوص ملحق باريس لا يُقارَن بتلك السياسات والقرارات الصهيونية التي تتجاوز تلك النصوص وتتعامل مع الاقتصاد الفلسطيني بآليه تعاملها السياسية والأمنية نفسها، فالإدارة الفلسطينية هنا تُطالب بتعديل اتفاق تجاوزه الاحتلال كما تجاوز اتفاق أوسلو.

وهنا يُجمِع الباحثون والمتخصصون الفلسطيينون على أن الانسحاب من اتفاق أو ملحق باريس هو الخيار شبه الوحيد في ظل الوضع الراهن، لأن نصوص الاتفاق لا تُطبق عملياً، والمطالبة بتعديل النصوص معناه اعتراف فلسطيني باستمرار المرحلة الانتقالية الذي قام عليها ملحق باريس واتفاق أوسلو، لذا فإن الدراسات الفلسطينية الصادرة في هذا الخصوص وأبرزها دراسة مركز (ماس) 2017م طالبت بتأسيس نظام تجاري فلسطيني جديد ينطوي على منطقة تجارة حرة أو سياسة تجارية غير تمييزية، غير أن هذا الطرح الفلسطيني يحتاج إلى تحولات سياسية جذرية في العلاقات الفلسطينية الصهيونية.

ختاماً: بإمكان الجانب الفلسطيني القيام ببعض الإجراءات المهمة للخروج من جوف الاحتلال الصهيوني، وذلك عبر بناء علاقة جديدة بين القطاعين الحكومي والخاص، لأن ترك باب القطاع الخاص مفتوحاً أمام الإجراءات الاقتصادية الصهيونية وتعاملها المباشر مع الشركات الخاصة الفلسطينية خلق جواً من عدم الثقة بين المؤسسة الرسمية الفلسطينية والقطاع الخاص، كما أن صياغة علاقات اقتصادية جديدة مع بلدان مختلفة من العالم بعيداً عن دولة الاحتلال يبقى ضرورة مُلِحة، وهذا يحتاج إلى جهود سياسية وقانونية تجاه المنظمات الدولية وخصوصاً منظمة التجارة العالمية ومنظمة الجمارك والتنمية والتعاون الاقتصادي؛ وخاصةً أن الإجراءات الصهيونية تجاه الاقتصاد الفلسطيني لا تراعي أيّاً من القوانين والتشريعات الدولية.

 


أعلى