لقد التقت إرادة روسيا والولايات المتحدة وحلف الناتو على صناعة هذه الأزمة ولم تتخلف الدولة الأوكرانية عن اللحاق بالموقف الأمريكي بطبيعة الحال. وإن بقي من هو معني بالصراع وهو أوروبا، فهي الوحيدة بين الأطراف التي تنظر للأزمة باعتبارها خطراً على مصالحها
تصاعدت حدَّة التصريحات والتهديدات الصادرة عن روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة
وحلف الناتو خلال الآونة الأخيرة بشأن النزاع في أوكرانيا. وجرت تحركات عسكرية وحشد
للقوات، سواء على حدود التماس بين القوى المتصارعة في داخل الأراضي الأوكرانية، أم
على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، أم في داخل البحر الأسود، حيث تحتشد القوات
الأمريكية وقوات الناتو والقوات الأوكرانية في مواجهة القوات الروسية.
وهو ما دفع الخبراء للتحذير من أن الأرض الأوكرانية والبحر الأسود، يشهدان حالة حشد
عسكري ووضعية توتر واستنفار غير مسبوق، قد تتسبب في اندلاع الحرب بين الطرفين إذا
وقع حادث عارض أو حدث سوء تقدير لنوايا أحد الطرفين تجاه الطرف الآخر.
مَن صنع الأزمة ولماذا؟
هي الجولة الثانية من جولات الصراع على أوكرانيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
كانت الجولة الأولى في عام 2014م، حين تفجر تمرد داخلي انتهى إلى إطاحة الرئيس
الموالي لروسيا (فيكتور يانكوفيتش) وفراره إليها، فاستثمرت روسيا هذه الفوضى وتدخلت
عبر شركتها الأمنية (فاغنر) وبالاعتماد على حاملي الجنسية الروسية من الأوكرانيين،
وانتزعت شبه جزيرة القرم وضمتها لأراضيها، كما شكلت ما سمي بالجمهوريتين المستقلتين
في شرق أوكرانيا وموَّلت ودعمت الميليشيات المسيطرة عليها، تماماً كما حدث في
جورجيا حين شكلت جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا.
وفي الجولة الحالية تبرز رؤيتان:
الأولى روسية: تتحدث بأن روسيا تحشد قواتها في داخل حدودها للردِّ على هجوم عسكري
أوكراني متوقع مدعوم من الولايات المتحدة وحلف الناتو لإنهاء وجود ما يسمى بجمهورتي
دونتسك ولوجانسك.
وإن الحشد الروسي في البحر الأسود هو رد فعل احترازي لاحتمال تمدد الهجوم العسكري
الغربي إلى شبه جزيرة القرم التي سبق أن ضمتها روسيا لأراضيها، وما تزال الولايات
المتحدة وحلف الناتو وأوروبا والأمم المتحدة يرفضون الاعتراف بهذا الضم.
والثانية غربية: تتحدث بأن روسيا هي التي تتحضر لشن هجوم كاسح على أوكرانيا
لحرمانها من حقها في تقرير سياستها الخارجية وحرمانها من الالتحاق بحلف الناتو. وأن
الغرب لا نوايا هجومية لديه، فقط هو يعمل للحفاظ على سلامة أوكرانيا ويمدها بالسلاح
لكي تكون قادرة على الدفاع عن نفسها. وأن وجود قوات الناتو في البحر الأسود هو لمنع
روسيا من الاستفراد بأوكرانيا ولمنعها من فرض سيطرتها على هذا البحر وبشكل خاص على
بحر أوزوف.
وفي الروايتين ما هو مشترك؛ وهو أن هناك تهديداً متبادلاً بالحرب عبر الاعتراف
بحشدٍ للقـوات. أما الخلاف بين الرؤيتين، فيدور حول من لديه نوايا هجومية وما هي
أهدافه وفي أي اتجاه ستجري العمليات وما هي حدود تلك الحرب، إن اندلعت.
وواقع الحال أن الأزمة الراهنة جرت صناعتها بإرادة جميع الأطراف المنغمسة فيها، إلا
أوروبا.
لقد التقت إرادة روسيا والولايات المتحدة وحلف الناتو على صناعة هذه الأزمة ولم
تتخلف الدولة الأوكرانية عن اللحاق بالموقف الأمريكي بطبيعة الحال. وإن بقي من هو
معني بالصراع وهو أوروبا، فهي الوحيدة بين الأطراف التي تنظر للأزمة باعتبارها
خطراً على مصالحها.
سعت روسيا للأزمة اختباراً لإدارة بايدن ولاستخلاص المعنى الدقيق لمواقفها ولمضمون
ما يقصده بايدن بعودة أمريكا للعالم مرة أخرى. وأرادت روسيا تعميق الشرخ السياسي
الحادث في حلف الناتو بعد أزمة إلغاء عقد تصنيع وتوريد الغواصات الفرنسية لأستراليا
وما ارتبط بها من تسريع إنفاذ فكرة بناء جيش أوروبي موحد. وأرادت روسيا قطع الطريق
على تنامي الدعم العسكري الذي يقدمه الناتو لأوكرانيا تمهيداً لضمها للحلف، وعلى
المحاولة التي بدأتها بريطانيا وتبعتها فيها الولايات المتحدة في تصعيد الوجود
الغربي في البحر الأسود.
وفي ذلك حددت روسيا لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي بشكل
قاطع خطوطها الحمراء (تحت ظلال التعبئة العسكرية) بشأن انضمام أوكرانيا لحلف
الناتو.
وفي المقابل، أرادت الولايات المتحدة إرسال رسالة واضحة لروسيا، بأن ما جرى من
تراجع في الموقف الأمريكي من روسيا خلال حكم ترامب قد انتهى، وأن الولايات المتحدة
التي سلكت سلوكاً انسحابياً أمام روسيا خلال الحرب مع جورجيا وخلال أزمة أوكرانيا
الأولى في عام 2014م، قد تحولت الآن إلى الهجوم. واستهدفت الولايات المتحدة شيطنة
روسيا أمام أوروبا وتحويل تعاونهما المتنامي إلى صراع، فإذ كان ملف خط الغاز من
روسيا إلى ألمانيا (نورد استريم 2) هو محور الحوار الأوروبي الروسي على أرضية
التعاون، فقد أصبح الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا والتهديد بالحرب طاغياً.
كما استهدفت الولايات المتحدة التأكيد (بقوة) على رفضها ضم روسيا لشبه جزيرة القرم،
ووقوفها في وجه تقسيم أوكرانيا وسيطرة روسيا على بحر أوزوف. وأرادت الولايات
المتحدة تأكيد أهمية الناتو عملياً لتقليل آثار ما فعله ترامب من جهة، ولإظهار أن
تشكيلها لحلفي (أوكوس) و (أكواد) في المحيطين الهادي والهندي لا يعني ضعف دعمها
للناتو.
كما أرادت الولايات المتحدة التحضير الاستباقي لاحتمالات اندلاع أزمة في منطقة
البلطيق (لاتفيا، وليتوانيا، وإستونيا) إذ تتوقع تقارير استخبارية أن تتدخل روسيا
هناك بالطريقة نفسها التي جرت في أوكرانيا وجورجيا من قبلُ عبر تعبئة وتجييش السكان
الناطقين بالروسية والحاصلين على جنسيتها في دول البلطيق. وربما استهدفت الولايات
المتحدة أيضاً اختبار إمكانية تبادل المصالح مع روسيا بشأن المواقف من إيران
وأوكرانيا، وتايوان وبحر الصين الجنوبي، بما لذلك من تأثير على التحالف الروسي -
الصيني، الذي تعمل الولايات المتحدة على إضعافه أو تفكيكه.
أما أوكرانيا - وهي الطرف الأضعف في معادلة الصراع - فقد رأت في الأزمة فرصة لحشد
مواقف مساندة لها، والحصول على تأكيد غربي بعدم قانونية تقسيم أوكرانيا، وعلى رفض
استيلاء روسيا على القرم. ورأتها فرصة للحصول على الدعم المالي والتسليحي من
الولايات المتحدة لتوفير قدرة أعلى في مواجهة الوجود والتوسع الروسي في أراضيها.
ونظرت أوكرانيا للأزمة على أنها طريقة عملية لتطوير علاقتها بالناتو، وفرصة مواتية
لحصار المواقف الأوروبية الرافضة لتسليحها وانضمامها للناتو؛ خاصة الموقفين
الألماني والفرنسي.
التقت مواقف تلك الأطراف على النفخ في الأزمة، لكن أوروبا أظهرت موقفاً مختلفاً.
وجدت أوروبا نفسها مطالبة بالانغماس في أزمة يتناقض تصعيدها مع توجهاتها
الاستقلالية، ومع رغبتها وطموحاتها في بناء إستراتيجية شاملة لتحوُّلِها إلى قطب
دولي موازٍ للولايات المتحدة وروسيا والصين والهند وغيرها. وهو ما لا يتم إلا
بالإفلات من قبضة الوصاية الأمريكية، التي استهدفت الولايات المتحدة التشديدَ عليها
عبر تصعيد أزمة المواجهة مع روسيا.
تحركت أوروبا في مساحة الوسط (عملياً) وكرست جهودها لنزع فتيل الأزمة ورفضت التصعيد
سواء بتسليح أوكرانيا بأسلحة هجومية أو بإرسال إشارات على احتمال ضمها لحلف الناتو.
أبعاد الأزمة في المدى المتوسط والبعيد:
في تلك البقعة من أوروبا تجري معركة إستراتيجية من طراز رفيع. هناك يتحدد مصير
التوازنات المستقبلية بين روسيا والناتو. وهناك يتحدد مصير الدور الدولي لروسيا،
وطبيعة العلاقات الحالية والمستقبلية بينها وبين أوروبا، والأشد أهمية أن ما يجري
هو حركة إستراتيجية على خط الصدام الدولي الكبير، الأكثر شمولاً وعمومية.
على صعيد الأهداف متوسطة المدى، تدفع روسيا بخطواتها التصعيدية لتحديد ملامح جديدة
للعلاقات مع الناتو، وبين روسيا وأوروبا وبين روسيا والولايات المتحدة وتعمل
للانتقال من مرحلة تقليص الخسائر التي ألـمَّت بها ما بعد انهيـار الاتحاد
السوفييتي، إلى مرحلة فرض توازنات جديدة من موقع قوة.
روسيا تستهدف وقف تمدد حلف الناتو تجاه الحدود الروسية، ومواجهة حالة الضغط الغربية
على حركتها الإقليمية والدولية المتصاعدة. وروسيا تسعى لتوسيع مساحة الابتعاد بين
أوروبا والولايات المتحدة. ومن قبلُ ومن بعدُ، فإن روسيا تسعى لتأكيد وتطوير ما
حققته في البحر الأسود بعد ضم القرم وأجزاء من شرق أوكرانيا في حركتها الإستراتيجية
الأولى خلال عام 2014م.
وفي المقابل وعلى المدى المتوسط أيضاً، تسعى الولايات المتحدة لتقليص ما حققته
روسيا في أوكرانيا ولإشغالها بأزمة إقليمية في محيطها تؤثر على قدرتها ودورها
الدولي. كما تسعى الولايات المتحدة إلى فصل المسارين الروسي والأوروبي وتعميق
الصراع بينهما وتقليص التواصل والتعاون بينهما بشكل تصاعدي، كما تسعى لتعطيل وإعطاب
الحركة الأوروبية المتصاعدة للخروج من تحت المظلة الأمريكية، أو لإجهاض الاتجاهات
الاستقلالية لأوروبا عن النفوذ الأمريكي.
أما على صعيد الاتجاهات الإستراتيجية العليا للطرفين، فأزمة أوكرانيا منذ بدايتها
وحتى الآن هي حركة تجري على خط الصدام الإستراتيجي الذي يجري التحرك عليه منذ عام
2001م، والذي يمتد من جنوب الكرة الأرضية وحتى شمالها. فالحروب وأعمال الاحتلال
وحالة تفكيك الدول الجارية منذ عام 2001م وحتى الآن، تُظهِر أن الحركة العليا
للصدام الدولي تجري حول الخط الواصل بين أستراليا جنوب الكرة الأرضية ودول البلطيق
في أعلى شمال الكرة الأرضية مروراً بالهند وباكستان وأفغانستان وإيران والعراق
وسوريا ولبنان وتركيا وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا والبحر الأسود وأوكرانيا.
هذا الخط الطويل هو محور الصدام الدولي الشامل لإعادة ترتيب التوازنات وعوامل القوى
بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الغربية من الجهة
المقابلة. وهو ما سينتج عنه إعادة تشكيل النظام الدولي الجديد.
من يتابع مجريات الحروب والاضطرابات طوال تلك الفترة، يجد أنها جرت على امتداد هذا
الخط، وأنها وإن جرت في أوقات متفاوتة - وهذا طبيعي فلسنا بصدد حرب عالمية - إلا
أنها حركات تجري ضمن إستراتيجية متكاملة.
لقد جرت على هذا الخط عمليتا الاحتلال الأمريكي المباشر في أفغانستان والعراق. كما
جرت الحرب في اليمن والعراق، وكذا الحرب في سوريا ولبنان، وبين أرمينيا وأذربيجان،
ومن قبلُ في جورجيا، وفي أوكرانيا، والآن تأتي الأخبار حول احتمالات تفجر الصراع
بين روسيا والغرب في منطقة البلطيق.
كما يجد المتابع أن صراعات أشد تعقيداً من الحروب ذاتها تجري حول هذا الخط
الإستراتيجي، كما هو الآن بشأن باكستان والهند، وكذلك بشأن تركيا وإيران وحول البحر
الأحمر ومضيق هرمز، والبحر الأسود وبحر قزوين... وغيرها.
والحاصل أن الغرب حدد هذا الخط الإستراتيجي للصراع الدولي، لمواجهة إستراتيجية
التمدد الصيني وقطع الطريق عليها أو لمواجهة خطة الحزام والطريق التي تحمل الصين
عبرها نفوذها إلى إفريقيا وأوروبا. وأن هذا الخط نفسه والصراعات الجارية على طول
امتداده هي أعمال متكاملة لمواجهة التمدد الروسي الذي انتقل عبر هذا الخط إلى سوريا
وليبيا وإفريقيا... وهنا يمكن فهم أزمة أوكرانيا السابقة والحالية واللاحقة.
فالصراع حول أوكرانيا والبحر الأسود يحمل أهمية إستراتيجية بعيدة المدى لطرَفَي
الصراع؛ خاصة الولايات المتحدة وروسيا. البحر الأسود هو المحور البحري الأهم لمرور
التمدد والنفوذ الروسي الدولي والإقليمي. وأوكرانيا هي نقطة إشغال إستراتيجية في
محيط روسيا ونقطة ارتكاز لوقف تمددها تجاه أوروبا الشرقية وأوروبا عموماً.
أوكرانيا بالنسبة للناتو هي نقطة الصراع ونقطة الصد، كما كانت تركيا مع الاتحاد
السوفييتي خلال الحرب الباردة.
وأوكرانيا بالنسبة لروسيا هي خط الدفاع المتقدم عن جغرافيتها المباشرة، وهي نقطة
مرور تحركها تجاه أوروبا.
السيناريوهات المتوقعة:
في السيناريوهات المتوقعة تبدو الاحتمالات متنوعة للغاية بحكم هذه الأبعاد الكبرى
متعددة الاتجاهات.
فهناك سيناريو محتمل، بأن يحقق التهديد بالحرب بعض أهداف للطرفين فيكتفيان بما
يتحقق مؤقتاً. وأن تنتهي الأزمة الراهنة بالعودة لتسكين الصراع والعمل بالاتفاقيات
التي جرت وحافظت على بقاء الوضع وَفْق ما كان قبل التصعيد الراهن، مع البدء بإجراء
مفاوضات جديدة. هذا السيناريو يستند إلى ما طرحته روسيا مؤخراً من مفاوضات للحصول
على ضمانات أمنية بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا للناتو في مقابل وقف الحشد العسكري
والتصعيد. وهذا السيناريو يمكن أن يلقى دفعاً ألمانياً فرنسياً.
وهناك سيناريو الحرب المتحكَّم فيها، بأن يدعم الناتو أوكرانيا دون تدخل مباشر وأن
تدعم روسيا حلفاءها على الأرض الأوكرانية دون تدخل مباشر أيضاً، وأن يُترَك الأمر
جزئياً لساحة المعركة، مع تغطية سمائها بالاتهامات المتبادلة بين الناتو وروسيا،
لينقشع غبار المعركة عن نتائج غير مؤثرة فعلياً، وتبدأ المفاوضات بعدها.
وهو سيناريو يستهدف خروج الطرفين من الأزمة دون تصعيد أخطر، وتوفير فرصة للتسوية
بعد إفراغ شحنات التوتر الحالية على الأرض، إلا أنه يقدم وصفة عجيبة لاحتمالات
تداعي الأحداث وتوسُّع الحرب.
وهناك سيناريو ثالث يقوم على إعلان المدن المتعاونة مع روسيا الانضمام إليها، وأن
تطلب دخول الجيش الروسي لحمايتها، فتتدخل روسيا بجيشها وتحتل كامل الجزء الشرقي من
البلاد تحت عنوان حماية السكان المدنيين وحماية استقلال المدن التي أعلنت الانفصال.
وهو السيناريو ذاته الذي اعتمدته روسيا في صراعها مع جورجيا، إذ دخلت القوات
الروسية في الحرب تحت ادعاء طلب جمهوريات من داخل جورجيا تدخُّلها العسكري، ووقتها
وقف الغرب متفرجاً، وانتهى الحال إلى تقسيم جورجيا.
ويتوقف باقي السيناريو على ردِّ فعل الناتو: فإما أن يتدخلَ بإنزال قواته في
أوكرانيا لنكون أمام تجربة كوريا المقسَّمة مجدداً. وإما أن يحوِّل المعركة إلى حرب
استنزاف لروسيا، أو يكتفي الغرب بإنزال عقوبات اقتصادية وسياسية، مع إنذار روسيا
بعدم التقدم نحو العاصمة كييف.
وفي كل الأحوال فإن الأهمية الإستراتيجية لأوكرانيا قد تُدخل العالم في مأزق حرب
كبرى.