الأدب والتغـيير

الأدب والتغـيير


لعب الأدب – بأجناسه المختلفة – منذ نشأته عند جميع الأمم والشعوب دوراً مؤثراً فعالاً في غرس القيم والأفكار والمفاهيم التي تساهم في بناء النفوس وتغييرها، أو حفزها – على الأقل – لاتخاذ مواقف معينة تجاه كثير من القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الدينية أو غير ذلك.

بدا الأدب دائماً – وبصور مختلفة إيجابية أو سلبية - سلاحاً من أسلحة التحفيز والتحريض اللذين ينتهيان بالنفوس إلى التغيير، واتخاذ مواقف مغايرة.

 وما كانت هذه القوة للأدب إلا بسبب ما يمتلكه من التأثير والجاذبية؛ إذ ليس هو كلمة عادية، ولكنه كلمةُُ منمَّقة جميلة، كلمة تشبه السحر. وهذا ما عبَّر عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن من الشعر لحكمة، وإنَّ من البيان لسحراً»[1].

وفي تراثنا العربي الإسلامي كان الأدب (بشعره ونثره) دائماً سلاحاً في الدعوة، وخدمة الجماعة، والتعبير عن قضاياها وهمومها.

ومنذ نشأة الشعر عند العرب كان له الأثر الفعال في تحفيزهم وتحريضهم: على العفو أو الثأر، على الحرب أو السلم، على الشجاعة أو الجبن. وكان صوت الشاعر مسموعاً مدوياً يصوغ وجدان الناس ومشاعرهم على نسق ثقافيٍّ معيَّن.

وما كان الحثُّ الدائم على حفظه إلا من قبيل الإيمان بدوره التربوي والنفسي، وبقدرته على التغيير، ونقل النفوس من حال إلى حال.

فهذا معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – يشير إلى دور الشعر، عندما يكتب إلى واليه زياد معاتباً؛ لأنه لم يعلِّم ابنه الشعر، ولم يروِّه إياه. قال له: «ما منعك أن تُروِّيَه الشعر؛ فوالله إنْ كان العاقُّ ليرويه فيبرَّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل»[2].

ويتحدث معاوية كذلك عن تجربته الشخصية، وما أحدثه الشعر من تغيير في موقفه حتى انقلب إلى النقيض؛ من الفرار إلى الثبات.

يقول معاوية: «اجعلوا الشعر أكبر همِّكم، وأكثر دأبكم؛ فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين، وقد أُتيتُ بفرس أغرَّ محجَّل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب من شدَّة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:

أبتْ لي همتي وأبى بلائي

وأخذي الحمد بالثمن الرَّبيحِ

وإقحامي على المكروهِ نفسي

وضربي هامة البطلِِ المشيحِ

وقولي كلما جشأت وجاشت:

مكانَك! تُحمدي أو تستريحي

 لأدفع عن مآثرَ صالحاتٍ

وأحمي بَعْدُ عن عرضٍ صحيحِ[3]

وفي الإسلام جُنِّدَت الكلمة الأدبية المؤثرة منذ انطلاق دعوته، في الدعوة والتغيير، وفي الإثارة والتحريض. كانت سلاحاً جهادياً قوياً. كان صلى الله عليه وسلم يقول لشعرائه المنافحين عن الإسلام: «إن المؤمن ليجاهد بسيفه ولسانه».

وكان الشعراء والخطباء وأرباب الكلمة المعبرة ينطلقون مع الجند في ساحات المعارك، فيشجعون المجاهدين، ويبثون فيهم روح الحماسة والعزيمة والإيمان، فينطلقون غير هيابين ولا وجلين.

في معركة القادسية جمع سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – طائفة من الشعراء والخطباء والحكماء والقراء، ثم خطبهم يحثهم على أداء وظيفتهم في هذا اليوم الحاسم. قال لهم: «انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم، ويحق لهم عند مواطن اليأس. إنكم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس فذكِّروهم وحرضوهم على القتال»[4].

وأشار صلاح الدين الأيوبي (بطل الحروب الصليبية) إلى دور الأدب في المعركة، فتحدث عن رسائل القاضي الفاضل والعماد الأصبهاني، التي وصفت للمسلمين الأخطار التي تتهدد الدين والبلاد على يدي الغزاة الصليبيين، وحثتهم على الجهاد، وبذل المال، والانضباط والطاعة للسلطان. وقد بلغ من تأثير هذه الرسائل في تغيير النفوس وحشدها أن يقول صلاح الدين الأيوبي – رضي الله عنه – إنه فتح البلاد برسائل القاضي الفاضل.

تجنيد الأدب:

وبسبب قدرة الأدب على التغيير، ودوره المؤثر الفعال في حفز النفوس على الثورة والعمل وتبنِّي المواقف، اصطنعته الطوائف المختلفة في القديم والحديث سلاحاً هاماً من أسلحتها في الدعوة وصياغة الأحاسيس والوجدانات؛ فكان واحدٌُ مثل ستالين يقول: «الأدباء مهندسو البشرية».

 وأشار أحد النقاد الغربيين إلى اصطناع الطوائف المختلفة: من سياسية، وفكرية، وأيديولوجية للأدب في حمل رسالتها، وتغيير المجتمع والناس إلى الصورة التي يريدون.      يقول ريا نوف: «إن التاريخ لم يعرف طبقة واحدة سيطرت في المجالات السياسية والاقتصادية وأهملت مسألة الفن، فإن كل واحدة من الطبقات التي سيطرت – اقتصادياً وسياسياً – سعت بالسبل كلها إلى الاستفادة القصوى من ثمار ونتائج الإبداع الفني، خدمة لمصالحها الطبقية... إنَّ الفنَّ أصبح سلاحاً للسياسة والأيديولوجيا، كما أن السياسة بدورها صارت مادة لكثير من الأعمال الأدبية والفنية...».

دور القصة في التغيير:

 وإذا كان دور الشعر في التأثير والتغيير قد تراجع كثيراً في العصر الحديث عمَّا كان عليه في القديم لأسباب كثيرة لا مجال لتفصيل القول فيها؛ فإن الأدب ما يزال مؤثراً فعَّالاً، ولكن دوره في التغيير قد انتقل الآن – بشكل خاصٍّ – إلى القصَّة.

  إنَّ القصَّة اليوم – بأشكالها المختلفة - هي سيِّدة الفنون الأدبية الحديثة، حتى حمل ذلك بعض النقاد على أن يسمِّي هذا العصر بـ «عصر الرواية».

  إن القصة اليوم لم تعد مجرَّد كلام أدبيٍّ يُقرأ بين دفتيْ كتاب، بل تحوَّلت – بما هيأته لها التقانات الحديثة - إلى أشكال فنية مختلفة.

  إنَّ القصة تدخل اليوم إلى كل بيت؛ وذلك لأنها قد تحولت إلى فيلم ومسلسلة ومسرحية و تمثيلة، فصارت شديدة الإغواء والإغراء، ومضت - بسبب ما تملكه من التشويق والإمتاع، ومن الجاذبية والإثارة - ترسِّخ كثيراً من المبادئ والأفكار والقيم: عن الدين والأسرة والسياسة والعادات والتقاليد وما شاكل ذلك. وقد كان بعض تأثيرها إيجابياً قاد إلى تغيير حميد، فوعَّى الجماهير، وفتح عيونهم على كثير من سلبيات مجتمعهم، والخلل في حياتهم السياسية والاجتماعية، وأيقظ فيهم روح الثورة والتحدي، والمطالبة بالحرية والعدالة، مما نشهد بعضاً من ثمراته في هذا الربيع العربيَّ الذي نعيش خضرته.

 ولكنَّ القصَّة لم تكن دائماً ذات دور في تغيير حميد، بل كثيراً - وكثيراً جداً - ما حملت القصة قيماً سلبية، مسَّت العقيدةَ والدينَ، ومسَّت ثوابت فكرية تمثِّل هوية الأمة وشخصيتها، فصاغت وجدان كثير من طوائف المجتمع على نسق ثقافيٍّ معيَّن.

 إنَّ الأدب فنٌّ غير محايد، ومهما حاول أن يتجرَّد من انتمائه السياسي أو العقدي أو الأيديولوجي؛ فإنه غير قادر على ذلك. إنه دائماً تعبير عن رؤية فكرية، عن تصور للكون والإنسان والحياة، وهو دائما طمَّاح إلى ترسيخ مفاهيم أو تغيير مفاهيم، مستغلاً قدراته النفسية والجمالية لإحداث هذا التغيير.

 ولكن التغيير نحو الأرقى والأسمى هو مطمح كل أدب عفٍّ نظيف، كالأدب الإسلامي، الذي هو نتاج الكلمة الطيبة التي ذكر الله - تعالى - أن أثرها لا ينتهي، ونفعها لا ينقضي، وهي خالدة ما بقي الزمان.

{ألمْ تر كيْف ضرب اللّهُ مثلاً كلِمةً طيِّبةً كشجرةٍ طيِّبةٍ أصْلُها ثابِتٌ وفرْعُها فِي السّماءِ} [إبراهيم: 24].



[1] رواه البخاري في الأدب المفرد، ص 375.

[2] العقد: 5/ 274.

[3] تاريخ الطبري: 3/ 274.

[4] انظر: كتاب «الفن والأيديولوجيا» ف – ريانوف، ترجمة خلف الجراد، ص7.

 

 

أعلى