• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الإبراهيمية الآثار والتداعيات الاقتصادية

من بين الأدوات التي يتم استخدامها في سبيل تحقيق أهداف هذا المخطط: ما يُسمَّى بالسياحة الدينية المشتركة، خاصةً أن دول المنطقة تضمّ جميعها مقدسات دينية تاريخية، وتعاني -في الوقت ذاته- من مشكلات اقتصادية جمَّة


إن الفكرة الأخطر التي يقوم عليها مشروع «الإبراهيمية» هي توظيف الشعارات الدينية، مثل: السلام العالمي والأخوة الإنسانية وحل النزاعات، وغيرها من المصطلحات التي يتم زَجّها بين الفَيْنَة والأخرى، لكنها في حقيقتها تأتي في سبيل تحقيق أهداف خطيرة، ويسعى مُروّجوها إلى تمزيق مكوّنات وروابط الهوية الإسلامية والعربية لدول المنطقة، وما يتبع ذلك من تداعيات لها آثارها ضدّ مصالح هذه الدول، لا سيما المصالح الاقتصادية.

واستكمالاً لمفهوم «الدبلوماسية الروحية»، الذي أشارت إليه الباحثة المصرية هبة جمال الدين؛ فإن مشروع الإبراهيمية يُمثّل مبادرة لتحقيق السلام العالمي، عبر التقارب بين الأديان السماوية للوصول للمشترك الديني، ليكون مستقبل العالم رَهْن قرارات تلك الآلية، التي ستكون هي أساس مركز الحكم العالمي، والتي ستدعمها المجتمعات المحلية عبر «أُسَر السلام» و«الحوار الخدمي»، أي الخدمات والمساعدات التي تُقدّم لجَذْب أتباع يشعرون بالامتنان لأصحاب هذا الفكر، ومِن ثَم يُصبحون أكبر الداعمين له.

ويؤكد ذلك أن أحد أبرز الأدوات التي يُوظّفها أنصار فكرة الإبراهيمية لوضعها موضع التنفيذ هي الأمم المتحدة؛ فقد تم ربط هذه الفكرة بأهداف التنمية المستدامة، باعتبارها تهدف لمكافحة الفقر العالمي عبر الحوار الخدمي، وكذا شمول أتباع الأديان السماوية الثلاثة، أي نصف العالم تقريبًا، خاصةً أن الأمم المتحدة تحظى بدعم النصف الآخر العلماني من العالم، وبتطبيق هذا الفكر سيتم استيعاب النصف المتدين، ومِن ثَمَّ ستتحقق الأهداف التنموية المرجوة، ولعل المتابع لمشروعات منظمات الأمم المتحدة سيُلاحظ تخصيص الدعم للأنشطة التي ترفع شعار السلام العالمي، مثل شعارات: «معًا نُصلي»، و«الأُخوَّة الإنسانية»، وغيرها.

كما يُروّج أصحاب فكرة «الإبراهيمية» إلى أنها ستُحْدِثُ طفرةً اقتصادية وتُحقِّق الاستقرار والازدهار الإقليمي، حيث صرح بذلك وزير الاقتصاد الإماراتي عبد الله بن طوق المري، مؤكدًا أن الاتفاق بين الإمارات و«إسرائيل» وَلَّد فرصًا اقتصادية واسعة ومتنوعة للدولتين -على حدّ تعبيره-، وتمثلت أبرز مظاهر ذلك الازدهار المزعوم في تطوير البحث العلمي في شتَّى المجالات، وإقامة المشروعات المشتركة، واتفاقات التجارة الحرَّة، وإزالة الحواجز والإعفاء من التأشيرات، وغيرها من المكاسب الاقتصادية التي يتم الترويج لها على أنها إحدى ثمار «الإبراهيمية»[1].

ومن بين الأدوات التي يتم استخدامها في سبيل تحقيق أهداف هذا المخطط: ما يُسمَّى بالسياحة الدينية المشتركة، خاصةً أن دول المنطقة تضمّ جميعها مقدسات دينية تاريخية، وتعاني -في الوقت ذاته- من مشكلات اقتصادية جمَّة، وتحتاج لتنشيط مصدر جديد يُدِرّ الدَّخْل كالسياحة الدينية المشتركة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث.

ومن جهة أخرى، تعد المؤتمرات والقمم الدولية من أبرز المحافل التي يتم توظيفها لخدمة أهداف هذا المخطط، ومن بين هذه المؤتمرات -على سبيل المثال- «مؤتمر دافوس» المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي تُعقَد على هامشه لجنة المائة التي تهدف بدَوْرها إلى الوصول للمشترك الإبراهيمي، والتقارب بين القيادات الروحية والساسة وتوفير سُبُل الدعم الممكن، و«الحوار الخدمي» الذي يمثل أداة لجذب المريدين والمؤيدين والداعمين من المجتمعات المحلية؛ حيث يتم نشر الأفكار والحوار بشأنها خلال تقديم خدمات تنموية على الأرض تكفل التخلص من الفقر العالمي عبر خلق دخل للأسر الفقيرة لتصبح من أصدقاء السلام العالمي.

ويضاف إلى ذلك أيضًا مشروعات ريادة الأعمال، التي تمثل مدخلاً لخَلْق دَخْل للأسر الفقيرة، وتحظى بقبول مجتمعي، بالنظر إلى مساهمتها في مكافحة الفقر وجَذْب المريدين على الأرض، فضلاً عن التعاونيات النسائية، باعتبارها من أهم السبل لتحرير المرأة في المنطقة، انطلاقًا من كونها تعاني من تهميش اقتصادي؛ حيث تحتل المرأة مكانة مهمة داخل هذا الفكر؛ لأنها أساس الأسرة، خاصةً بمنطقة الشرق الأوسط.

وفي السياق ذاته، أشارت عدة مصادر إلى بعض الملامح الاقتصادية لهذا المشروع، الذي كانت صفقة القرن حلقة مهمة فيه، فقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية قبل ثلاث سنوات عن استثمارات يشملها الشق الاقتصادي من خطة السلام الأمريكية بشأن القضية الفلسطينية، تحت اسم «السلام من أجل الازدهار»، وتضمن ذلك مشاريع بأكثر من 50 مليار دولار على مدى عشر سنوات، بغرض دعم اقتصاد الفلسطينيين ودول عربية مجاورة، من خلال إنشاء صندوق استثمار عالمي.

وكان «جاريد كوشنر» صهر ومستشار الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» قد أعلن آنذاك أن أكثر من نصف الاستثمارات ستذهب إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، مشيرًا إلى أن الخطة تهدف أيضًا إلى إنعاش اقتصاد الأردن ومصر ولبنان، انطلاقًا من أن رفع اقتصاد المنطقة بأكملها، واقتصاد «إسرائيل» القوي بطبيعة الحال، فإن دمج هذا التحسن  -على حد تعبيره- سيؤدي إلى ارتفاع كبير في الاستثمار في المنطقة، وخلق فرص عمل أكثر، ونوعية حياة أفضل، وبالتالي مزيد من السلام.

وخلال مؤتمر البحرين الذي عُقد في يونيو عام 2019م، الذي شهد مقاطعة واسعة وانتقادات شديدة، كانت أبرز العناوين العريضة للخطة التي قدّمها «كوشنر» حينها، هي: تحرير القوة الاقتصادية، وتمكين الفلسطينيين، وتعزيز الحوكمة، وتضمنت الخطة أيضًا تسهيل الربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة، من خلال إنشاء ممر بكلفة 5 مليارات دولار، وإلى جانب الشق الاقتصادي تضمّنت الصفقة أيضًا خطة سياسية، لكن البيت الأبيض لم يعلن عن تقديمها بوضوح.

لكن اللافت في الأمر، أن «كوشنر» كان قد أشار في إحدى المقابلات التلفزيونية إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن أيّ مخطط في هذه المنطقة يشمل جانبًا سياسيًّا وجانبًا اقتصاديًّا، وهما جانبان مهمّان جدًّا، إلا أن استيعابهما في وقت واحد سيكون صعبًا للغاية، لذلك فإن من الأهمية بمكان العمل على فَصْلهما، لكن إذا كان السؤال: «أيهما سنضع أولا؟»، فأجاب حينها أنه من الأفضل وضع الخطة الاقتصادية في المقام الأول؛ لأنها أقل إثارة للجدل، ليصف البعض هذه السياسة بأنها بَدَت أقرب إلى لغة السمسرة والاتجار بالأرض والبشر، واللعب بورقة الاقتصاد لتحقيق مآرب سياسية خطيرة.

وتكمن الخطورة هنا، في أن المخطط الاقتصادي والوعود بالمَنّ والسلوى، تُمثّل الجزرة التي يتم من خلالها اقتياد دول المنطقة لتنصهر في المسار المطلوب، كي تتجنَّب عصا الحصار الاقتصادي وقطع المساعدات في حال رفضت الانصياع، لذلك فليس مستغربًا أنه في كل مرة كانت إسرائيل تحصد ثمار أيّ اتفاق سلام، وتحسن اقتصادها بمعدلات عالية، فالخطة إذن تضمن إحكام السيطرة الإسرائيلية، ليس فقط على الأراضي التي احتلتها، بل تضمن تفوقها الاقتصادي على كافة دول المنطقة مجتمعة.

وبالرجوع إلى أغسطس عام 2008م، قدم وزير الأمن الصهيوني آنذاك آفي ديختر محاضرة في معهد أبحاث الأمن القومي «الإسرائيلي» عن الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، تناول خلالها الرؤية الاستراتيجية للكيان الصهيوني تجاه 7 دول، هي فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران ومصر والسودان، وقد لخَّص ديختر الرؤية الاستراتيجية الصهيونية تجاه هذه الدول في مقولته: «إن إضعاف تلك الدول واستنزاف طاقاتها وقدرتها هو واجب وضرورة من أجل تعظيم قوة «إسرائيل»، وإعلاء مَنعتها في مواجهة الأعداء، وهو ما يُحتّم عليها استخدام الحديد والنار تارة، والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى».

وحول السودان مثلاً، تشير التقارير الاستخباراتية والدراسات الإسرائيلية التي بدأت تظهر في الإعلام في السنوات الماضية أن تركيز «إسرائيل» على السودان منذ استقلاله في الأول من يناير عام 1956م؛ حيث ترى أن من أهم مهماتها في المنطقة هو عدم تمكين السودان من الاستقرار والتنمية الاقتصادية؛ حيث عملت «إسرائيل» وأجهزتها الاستخباراتية على إنشاء ما يُعرَف بالتحالف الدائري، وهو تحالف يستهدف استقطاب الدول المجاورة للدولة التي تُشكِّل لها قلقًا، وفي حالة السودان كان التحالف الدائري يتمثل في أوغندا وإثيوبيا وإرتيريا وزائير سابقًا «الكونغو الديمقراطية حاليًا»، ولعبت أوغندا دورًا بارزًا في ذلك، وخير دليل على ذلك أنها احتضنت أول لقاء رسمي سوداني إسرائيلي في فبراير عام 2020م.

ويُضاف إلى ذلك أن سدّ النهضة والتعنت الإثيوبي والوساطة الأمريكية ومحاولات إثيوبيا للوقيعة بين مصر والسودان كلها أمور تأتي في سياق ممنهج، يؤكد أن «إسرائيل» ترغب في تفتيت كل دول المنطقة العربية ثم الإفريقية، وتقسيمها لتكون دولة الأقليات الأولى في المنطقة، لتجمعهم تحت اتحاد فيدرالي، يتم التحكم خلاله مركزيًّا في موارد المنطقة، التي ستبدأ بالشرق الأوسط ثم القارة الإفريقية، وتتضمن الخطة النص على الموارد الأبرز المستهدفة، على سبيل الذكر لا الحصر، مثل النفط والماء والغاز.

وتأكيدًا لما سبق، كانت جامعة فلوريدا الأمريكية قد طرحت مشروع «الولايات المتحدة الإبراهيمية»، عبر مركزها البحثي (EMERGY)، المعني بدراسة القضايا البيئية والمستقبلية ومستقبل الطاقة واستدامة الموارد الطبيعية المتاحة؛ حيث نوقش المقترح في المؤتمر السنوي للمركز عام 2015م، ولم يُقدَّم ذلك المشروع بوصفه مبادرة سياسية، بل كرؤية استشرافية من أجل بقاء المنطقة المهدَّدة بالجفاف ونُدْرَة الموارد خلال المستقبل القريب، مع الإشارة إلى أن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة شديدة الجفاف في العالم.

وتقدم الرؤية نموذجًا لهيكل سياسي عملي، ورمزًا موحدًا يجمع كل الأطراف في الأرض بين نهري دجلة والفرات ونهر النيل، عبر إقامة اتحاد فيدرالي يجمع 18 دولة عربية و«إسرائيل» وتركيا وإيران معًا؛ أي ما سيُعْرَف باسم الولايات المتحدة الإبراهيمية، أو ببساطة «الأرض المقدسة»، وتقود عملية التكامل الفيدرالي «إسرائيل»، ثم تركيا بحكم امتلاكهما للموارد والتكنولوجيا، في ظل جهل وتخلف عربي، أما التمويل لإقامة الدولة والربط الإقليمي فسيكون من جانب دول الخليج بسبب التهديد الإيراني.

لذلك فإن نظرة ثاقبة من أيّ غيور على هذه الأُمّة، تُظهر حجم المخاطر الاقتصادية الناجمة عن هذه الأفكار؛ حيث إن المراكز البحثية الضخمة والغامضة التي تقف وراء الإبراهيمية، تتلقى في معظمها تمويلاً من أبرز الجهات العالمية، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي[2]، ثم آل الأمر إلى قيام بعض الدول العربية بتسخير الأموال، وحشد الجهود البشرية والإعلامية، وإقامة الأنشطة والفعاليات والمشروعات المتنوعة.

وقد شكَّلت العلاقات الاقتصادية بابًا واسعًا، بل فخًّا كبيرًا، لمختلف الدول للوقوع من خلاله في فلك التبعية للغرب و«إسرائيل»[3]، ولا شك أن انهيار جدار المقاطعة ومنح الاقتصاد «الإسرائيلي» الفرصة تلو الفرصة لترميم خسائره وتوسيع أعماله وزيادة مكاسبه سيترك آثاره السلبية في مستقبل أي مفاوضات تطبيع عربية - «إسرائيلية»، فما رفضته «إسرائيل» طوال العقود الماضية، لن تُقْدِم عليه وهي تعيش حالة من الرخاء والاستقرار والتوسع الأمني والاقتصادي، والتفكك العربي سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا.

وقد أثبتت التجارب أن تأثير «إسرائيل» على الاقتصادات العربية سيؤدي حتمًا إلى عواقب وخيمة، أبرزها في اختراق هذه الدول اقتصاديًّا؛ بهدف التحكم في ثرواتها ومُقدّرات بلادها، كما أن «إسرائيل» التي تشير بيانات المكتب الإحصائي فيها إلى تراجع معدل النمو الاقتصادي من 5% إلى 1%، هي المستفيد الأكبر، من خلال تنمية اقتصادها ومصالحها، وجلب الاستثمارات العربية بالمليارات.

كما أن الانتعاش الاقتصادي المرتقب، سوف يقابله تأثر في المساعدات العربية، على محدوديتها، للمناطق الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية؛ إذ إن «إسرائيل» ستستخدم علاقاتها الاقتصادية، كورقة ضغط للحد من أيّ مساعدات عربية ترى فيها خطورة على سياستها القاضية باستمرار حصار الاقتصاد الفلسطيني، ناهيك عن شرعنة عمليات السرقة والنهب التي تقوم بها «إسرائيل» للثروات والمُقدّرات الفلسطينية والعربية المجاورة[4].


 


[1] ما تأثير «الاتفاق الإبراهيمي» على إزالة الحواجز الاقتصادية؟، أبو ظبي، موقع سكاي نيوز عربية، 2021م.

[2] الإبراهيمية الجديدة وخدعة التسامح، نعيمة عبد الجواد، موقع ميدل إيست، 2020م.

[3] التطبيع والممانعة: أيهما الأربح اقتصاديًّا؟، علي إبراهيم مطر، صحيفة الأخبار اللبنانية، 2021م.

[4] اقتصاد «التطبيع»: خريطة جديدة للتحالفات والمصالح، زياد غصن، موقع الميادين، 2021م.

 

 

أعلى