• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مأساة «فلسطين» خلّفت شِعرًا يقطر دمًا وقصائد مغسولة بالدمع!

الشّاعر والدبلوماسي اليمني د. عبــد الولـــي الشُّميـــري لـ«البيان»: مأساة «فلسطين» خلَّفت شِعْرًا يقطر دمًا وقصائد مغسولة بالدمع! أجرى الحوار/ محمد عبد الشَّافي القُوصِي

 

مع أنه بدأ حياته في سلك العسكرية، ثمَّ الْتحقَ بالعمل الدبلوماسي، وعلى الرغم من الضغوط التي يَفرضها العمل السياسي، وتُوجِبها أعباء الدبلوماسية المتزايدة؛ إلاَّ أنه أصرَّ على  أن يكون مرابطًا في ميدان العربية وخادمًا للميراث الأدبي، وحارسًا أمينًا لتراث الخليل وسيبويه وابن جنّي والجرجاني وابن قتيبة، ومدافعًا عن أرباب البيان العربي وعباقرته، فلم تستطع  أوزار السياسة وأعباؤها أن تطرد (الشَّاعر) الذي يسكن بداخله، ولم تمنعه من الإبحار حول شواطئ الفراهيدي الممتدة مسيرة أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ كيْ يستخرج منها أجمل القوافي ومختلف الأوزان!

ظلَّ -ضيفنا- على هذه الحالة يُواصل سباقه في مضمار الفكر والثقافة والأدب، في حِلّه وترحاله، حتى أغرته مدرسة (البارودي، وحافظ، وشوقي) بحُلَلِها وقلائدها الذهبية، فأناخ رَحْله بجوارها، وأنشأ صالونًا ثقافيًّا على ضفاف النيل، غدا قِبْلَة الأدباء الساهرين على الثغور الثقافية، والكُتّاب الغيورين على تراثهم الفكري والثقافي.

ذلكم الدبلوماسي اليمني، الأديب الشَّاعر الدكتور (عبد الولي الشُّميري) سفير اليمن السابق بالقاهرة، والحاصل على الدكتوراه في الأدب العربي، وصاحب الروائع الفكرية والأدبية؛ الذي استطاع بصالونه الأدبي أن يُنافس جماهير كرة القدم الغفيرة...

وقد اغتنمنا فرصة لقائنا به لاستلهام رأيه حول بعض القضايا الثقافية التي قد تختلف حولها الآراء، وتتباين فيها وجهات النظر، مثل: مدى نجاح الدعوة إلى «الأدب الإسلامي» في ظل المعوقات الكثيرة في هذا العصر، ومدى إسهام الأدب والشّعر في التعبير عن مأساة فلسطين، وحجم الأخطار والتحديات التي تُواجه لغة الضاد، ومستقبل الأدب في ظل ضجيج التكنولوجيا والمخترعات الحديثة، وسِرّ تخلُّف مسيرة المرأة في عالَم الإبداع والأدب عن الرجل، وغير ذلك من التساؤلات... وإلى نصّ الحوار:

البيان: سألناه في بداية الحوار عن علاقته بالأدب متى وكيف بدأت؟ وماذا يُمثّل الشّعر بالنسبة له؟

 فقال: أنا أحيا بالشّعر، وبدونه تستحيل الحياة، ولعلّي أصبر على الجوع والعطش، ولا أصبر على فراق الشّعر، وإنْ كان جسدي في الجامعة العربية ومعتركاتها السياسية، بيد أنَّ لساني وقلبي مع الأدباء والشعراء باختلاف مدارسهم، وقد عبّرتُ عن ذلك شِعرًا، وقلت:

الشّعر فيض خيالٍ فيه عاطفة

يُمليه شجو وأفراح وأحزان

ووثبة اللغة الفصحى وأوزان

وما سِواه فلا شِعر ولا أدب

متى تساوى أدونيسٌ وحسَّان!

البيان: تُرى، ما هو سِر إعجابك باللون الأدبي الموروث، ومعانقتك لـ«الخليل» على النحو الذي يمكن أن يُقلّل من فرصة انتشارك -في هذا العصر بالذات- الذي راجت فيه بضاعة المُحْدَثين؟

للناس فيما يعشقونَ مذاهب، وكلٌّ يعزف على قيثارته ويغنّي على ليلاه، بلْ يأكل ويلبس -أيضًا- ما يشتهي، وحسبي أنَّني متدلّه بديوان العرب الذي وسِع شعراء لغة الضاد منذ أكثر من ستة عشر قرنًا من الزمان.

ولعلَّ نشأتي الأدبية كانت على دواوين كبار الشعراء، وروّاد التجديد في العصر الحديث أمثال: البارودي، وحافظ، وشوقي، وأحمد محرم، وغيرهم من الرواد، الذين سارت أشعارهم وقصائدهم سيْر الليل والنهار، وليس في هذا تقليل من شأن المدرسة الحديثة التي احتفت -بدَوْرها- بعددٍ غير قليل من المبدعين، مثل: نازك الملائكة، وعبد الله البردوني، وأحمد مطر، وحسن الأمراني، وغيرهم... وفي نهاية الأمر نترك للقارئ حرية التذوق والاختيار، والأيام هي التي سوف تفصل في هذه القضية!

البيان: باعتبارك من المنافحين عن قضية «الأدب الإسلامي»؛ لماذا جاءت الدعوة إلى هذا اللون الأدبي في هذا الوقت بالذات؟ وما مدى نجاحها في ظل المعوقات الكثيرة التي تواجهها؟

«الأدب الإسلامي» كان -وسيظل- في سائر العصور والأزمنة؛ لأنه عنوان الأدب الراقي، والذوق الرفيع الذي تستظلُّ به النفوس السوية، وتتشرّبه الأفئدة النقية. أمَّا سبب تكريس الدعوة إليه الآن، فذلك ردّ على موجة «الحداثة» الفاسدة، وتَصدٍّ لرياح التغريب العاتية التي يهدف أصحابها إلى تذويب هويتنا، واقتلاعنا من  جذورنا، وإلى اليوم هم فاشلون، ولن يفلحوا أبدًا. وأعتقد أنَّ مستقبل الأدب الإسلامي مرهون بمستقبل الأمة ذاتها، فمتى تخلت أُمتنا عن التبعيَّة للآخَر، وتخلصت من أدرانه وأوحاله، ففي هذه الحالة لن يكون الأدب إلاَّ أدبًا إسلاميًّا، كما كان طيلة الحِقَب الماضية. 

البيان: مِن وجهة نظركم، هل استطاع الأدب بمختلف ألوانه أن يُعبِّر عن حجم (مأساة فلسطين)، كما نجح في التعبير عن قضايا أخرى؟

نعم، مأساة فلسطين الحبيبة خلّفت شِعرًا يقطر دمًا، وقصائد مغسولة بالدمع، وجميع الفنون الأدبية واكبت الأزمة منذ البداية، وخلّفت رصيدًا هائلًا من الإبداع المشتعل كالقنابل، ففي الشّعر نجد هناك أسماء كبيرة وقامات عالية مثل: التهامي، وعمر بهاء الأميري، ويوسف العظم، وغيرهم مِمَّن لم ينتشر شِعرهم كما ينبغي؛ لأنهم يُحرّضون شعوبهم على تحرير الأرض، ويزرعون الحقد ضد المغتصب وأعوانه، ويوم تتحرر إرادتنا سوف يُتاح لهذا الصوت أن يظهر ويرتفع بإذن الله.

كذلك، قدَّم «علي أحمد باكثير» نتاجًا مميزًا في المسرح، ولو كان بيننا الآن لَمَا استطاع أن يعرض منه شيئًا كما كان من قبل!

البيان: هل تراجع (الشّعر) عن مكانته السامقة التي تربَّع عليها طيلة العصور الماضية أمام (الرواية) التي سرقت منه الأضواء في الحقبة الأخيرة؟

الثورة الروائية أشبه بـ«موضة» يمكن أن تتلاشى، كغيرها من الموضات التي تظهر وتختفي، وسيظلّ الشّعر ديوان العرب والمؤرخ الحقيقي للحياة وما عليها، فالرواية موجودة منذ عصر عبد الله بن المقفع، ولم تستطع الصمود في عالم الإبداع الإنساني، وكانت تُسمَّى قديمًا بالمقامات، مثل ما قدَّمه الزمخشري، والحريري، وبديع الزمان الهمذاني، مثل: «كليلة ودمنة»، كذلك القصص الرائعة في النثر الجميل عند الرافعي والمنفلوطي، ويمكن أن نصطاد منها درر الأفكار، وجواهر المعاني، لكن في النهاية تظل القصيدة هي هيَ روح  الإبداع الأدبي.                   

   ولا يخفى على عاقل أنَّ ضجَّة (الرواية) صنعتها دوائر سياسية، لتخدم أهدافًا معينة، وفكرًا معينًا، وأيديولوجية مكشوفة، وقد رصدت لها جوائز عالمية، تمنح هذه الجوائز والنياشين لأناسٍ بعينهم، ولا يطالها آخرون، كالذي يأبى أن ينسلخ عن جسم أبيه وأمه!

البيان: هل تعتقد أنَّ اللغة العربية تواجه تحديات خطيرة بالفعل؟ أم أنَّ هذا الشعور المخيف من وحي هزيمتنا الحضارية في هذا العصر؟

لا أحد يجهل أنَّ اللغة العربية مستهدفة أيما استهداف، وتعاني من حالة تجاهل من أبنائها وعقوق واضح من أهلها، فهناك حرب التغريب التي تناصبها العداء، سواء من الفرانكفونية أوْ السكسونية التي تُوجّه إليها ضربات متتالية في خاصرتها، وهناك الطاعنون بأسلحة الدولار، وهناك حرب اللهجات الدارجة، وسلاح العاميات الذي يناوئها في الداخل، ويريد أن يحتل مقاعدها، ويجعل الفصحى خاضعة له خضوعًا تامًّا. وهذه، وتلك كلها محاولات لئيمة وجائرة ومكشوفة، ولولا أن قيّض اللهُ -تعالى- لهذه اللغة مَن ينافح عنها، ويرد عنه كيد الشانئين، لضاعت معالمها وذهبت ريحها، إنها معركة حامية الوطيس بين الفصحى وخصومها، أشبه ما تكون بحركة المد والجزر.

فالعربية الفصحى ليست لغة تخاطب فحسب، ولكنها لغة عبادة، يُقرأ بها القرآن، وتتم بها مواثيق الزواج، ومَن يتهاون في أمرها أو يُفرّط في شأنها، فإنما يُفرط في جزء من دينه وعقيدته. ولذا فإنني أدعو القائمين على أمر هذه الأمة أن ينتبهوا لهذه الحقيقة، وأن يعلموا أنَّ اللغة هي التي تحفظ للأجيال القادمة هويتهم الفكرية والعقدية والخلقية أيضا.

البيان: برأيك؛ هل نحن في حاجة إلى الأدب والفن في ظل المدنية الحديثة والبهرجة الإعلامية؟ وما هو مستقبل الأدب في عصر التكنولوجيا والمخترعات الحديثة؟

الإنسان هو الإنسان -بآماله وآلامه- في كل العصور والأزمنة، والمتأمل في بلاد التكنولوجيا ذاتها وموطنها الأصلي، يجد المكتبات تغصُّ بالمؤلفات الأدبية ومختلف القصص والروائع الإبداعية، وهي تدفع إلى مزيد من العمل ومواصلة الحياة وإعمار الكون، فلا تصلح التكنولوجيا إذا لم يصاحبها الأدب وتاريخه، والثقافة وأغراضها، فهي التي تربط الجديد بتجارب الماضي. قد يظن الناس أنَّ الغرب عاكف أوْ منقطع للتكنولوجيا وحدها، لكن الحقيقة أنَّ 90 % منهم يهتمّون بالدراسات الإنسانية والأدبية.

انظر -مثلًا- إلى الأفلام السينمائية، فالعالم العربي لم يُنتج حتى الآن 100 فيلم، بينما الغرب هذا المشغول بالتكنولوجيا والمخترعات الحديثة يمتلك ثروة فنية هائلة! 

   غاية الأمر، أنَّ المجتمع حينما يَحلُّ به المسخ أوْ التخلُّف تظهر عليه أعراضه في كل جوانب الحياة؛ علميًّا وأدبيًّا وعسكريًّا وفكريًّا وأخلاقيًّا، وعندما تدبُّ فيه الحياة وتعود إليه عافيته، تشمله من رأسه إلى قدميْه وفي سائر أحواله.. والشواهد على ذلك تفوق الحصر.

البيان: ما هو سر تخلُّف مسيرة المرأة في عالم الإبداع عن الرجل، في مختلف العصور والأزمنة؟

بالطبع؛ لأنَّ الطبيعة الفسيولوجية للرجل أتاحت له فرصة الخروج والاطلاع بما لم يُتَح للمرأة، أيضًا لوحظ أنَّ وجدان الرجل متميز عن وجدان المرأة، ولعلَّ هذا التميز الخَلْقي في هذا الكائن الذكري أتاح له أن يكون رائدًا أو قائدًا لأيّ جنس آخَر، سواء في البشر أو الكائنات الأخرى، حتى إنَّ الله -سبحانه وتعالى- جعل القوامةَ للرجل على المرأة، ولم يأتِ هذا التفويض عبثًا، وإنما لحكمة إلهية، ومشيئة عليا، أوجدت في الرجل القدرة على القيادة والبحث والتمحيص، وقد يشذّ من جنس الرجل عدد لا تنطبق عليهم القاعدة.

      لكن المرأة خُلقت لرسالة أخرى جليلة القدر، عظيمة المكانة، وهي التميز العاطفي بالرقة والحنان؛ إنها وردة لا تحب الذبول أوْ الجفاف أوْ حر الهواجر، فمهمتها في الحياة تختلف عن مهمة الرجل، وبالتالي فكان حظّها في صراع الوجود صراع يتناسب مع فسيولوجيتها، ومن ثمَّ جاء إبداع المرأة دون مستوى إبداع الرجل... عالَم الرجل هو الصحراء والبيداء والحروب وخوض المخاطر وصناعة القرار، وغير ذلك من الصعاب وتكاليف الحياة، بينما عالَم المرأة هو عالَم الظل الوارف، والورد الفواح، والماء الزلال، والحنان الدائم، والأمومة الحانية... ومَن يتجاهل هذه الفوارق، فقد تجاهل الحكمة وراء تأخُّر أوْ نُدرة عطاء المرأة عن الرجل في عالم الإبداع وميدان الأدب!               

البيان: لكَ تجربة ثرية في الإبداع ومتنوعة، ففي أيّ الأغراض الشعريّة وجدتَ نفسك؟

   لا يعلو شِعر ولا إبداع فوق الفن والإبداع الذي يتغلغل في الوجدان، ويحاسب النفس، ويُحرّض على الفضائل، وينهى عن الرذائل، وقد قلتُ في هذا المعنى:

إليكَ عزفتُ عن خلجات نفسي

وتُبتُ إليك من طغيان جنسي

ولازمتُ الرجاء وبِتُّ أخشى

عتابكَ أوْ حسابكَ عند رمسي

وأنتَ إذا دجا بالإثم قلبي

تُنير بصيرتي وتُبيد نحسي

وأنت المستعان على همومي

وأنتَ اليوم لي وغدي وأمسي

أهيـمُ صبابةً وأذوبُ وَجدًا

إليكَ، وكمْ أخافُ جموح نفسي!      

 

 


أعلى