وأشرق قلبها بالنور
إنها
هي بشحمها ولحمها – كما يقولون -.. لم تخدعني عيناي إذاً، ولم يَخُني إحساسي..
ورغم ما بدا في ملامحها وهيئتها من تغيير ظاهر، فلا تزال تحتفظ بجاذبيتها وفتنتها
القديمة.. بل وزادها الحجاب جمالاً وإشراقاً.. في عينيها الآن نوع من الرضا
والطمأنينة أثار دهشتي وحيرتي..
كانت
صامتة وكأنها تشارك في الحوار بكل حواسها دون أن تنبس ببنت شفة، وكنت غارقة في
الماضي.. أفكر بتلك الصديقة التي كانت تعيش حياتها بالطول والعرض وتحلم بأن تكون
نجمة في عالم الفن يشار إليها بالبنان، وكانت واثقة بعلو كعبها في عالم الجمال وأن
ذلك كفيل بتحقيق ما تصبو إليه من شهرة وذيوع صيت.. ثم اختفت من حياتي بعد زواجها
من شاب ذي أصول عريقة وجاه عريض..
ولكن
فجأة حانت منها التفاتة عابرة فانتبهت إليّ واحتضنتني عيناها في ابتسامة واسعة
وهادئة..
كنت
أتوقع أن أراها حيث كانت تحلم وتتمنى.. بل ولعلني أحياناً ودون وعي كنت أفتش صفحات
المجتمع في بعض المطبوعات التي أطالعها بحثاً عن صديقتي وأحلامها الزائفة..
المهم
أنني كنت أتخيل كل شيء إلا أن ألتقي بها في أحد الدروس الدينية، فماذا حدث
لصديقتي؟ ومتى ارتدت الحجاب؟ ومن دعاها إلى هنا؟ وماذا فعلت بها الأيام؟
عشرات
الأسئلة تنتصب بقلبي وعقلي كالرماح المسنونة.. أنتظر انتهاء الدرس على أحرِّ من
الجمر علّ صديقتي تشفي بكلامها وجع الأسئلة الحائرة..
بعد
انتهاء الدرس كان لقاؤنا عاصفاً، مليئاً بالأسئلة التي رحت ألقيها دون أن أمهلها
لتجيب أو تفتح فمها بكلمة.. كانت تبتسم في هدوء ومحبة.. وأخيراً تمتمتْ في رقة:
لنجلس أولاً، فقد يطول الحديث.
وانتحينا
ركناً هادئاً ورحت أتأمل ملامحها الواثقة وهي تلملم شتات نفسها وأفكارها.. وانطلقت
صديقتي قائلة: أنت تعرفين بالطبع ما كنت أحلم به وأتوق إليه منذ تفتح صباي على
الدنيا.. كنت أريد كل شيء، المال الوفير رغم أنني لم أكن فقيرة أو ينقصني شيء وعلى
العكس تماماً فقد نشأت في أسرة ميسورة لا تؤخر لي طلباً أو ترد لي أمراً.. ولكنه
الشره والطمع فيما هو أكثر مما حباني الله به.
وكنت
أرى جمالي الباهر جواز سفري الوحيد إلى الدنيا التي أحلم بها وعالم الأضواء الذي
أتمناه، وحتى إنني كنت أحياناً أضن به أن يصير ملكاً لرجل واحد تحت أي اسم.. وحين
تقدم للزواج مني شاب من أسرة عريقة وثرية وافقت وظننت أنني صرت قاب قوسين من تحقيق
أحلامي الكبيرة.. وبعد الزواج سافرنا – زوجي وأنا – طويلاً، كنت أريد أن أطوف
العالم شرقاً وغرباً وأنهل من كل متعة متاحة..
عشت
أياماً جميلة ورائعة.. ولكن إصراري على تحقيق أحلامي كان يحرق كل سعادة ويصيبني
بالتعاسة، وبعد عودتي أصابني الملل سريعاً وكان الغضب يشتعل بقلبي حين أرى من هن
أقل جمالاً وفتنة مني تحيط بهن الأضواء والشهرة الواسعة.. وأجلت أحلامي قليلاً بعد
أن رزقني الله بطفل جميل.. كان قدومه على الأسرة بشارة خير وسعادة؛ فتوسعت أعمال
زوجي وصار التراب يتحول بين يديه إلى ذهب، وعشقت تلك الحياة الرغدة التي توفر لي
كل ما يصبو إليه إنسان..
وغرقت
في عالمي الجديد، أشتري ما يلزم وما لا يلزم، وكانت متعتي في تبديد المال تعادل
متعة من يسعى لجمعه بكل وسيلة.. أتنقل بين عيادات التجميل طلباً لمزيد من الجمال
وخوفاً على جسدي.. صارت محال تصفيف الشعر الفخمة غايتي، ودور الأزياء الراقية
مقصدي.. وإقامة الحفلات والسهرات الصاخبة هوايتي.. زوجي لم يكن يعارضني كثيراً،
كان يكفيه أن يراني سعيدة، فقد كان يحبني بجنون ويراني كنزه الكبير وثروته
العظيمة.. وأصبحت على ثقة بأن حلمي الكبير بالنجومية والأضواء في متناول يدي بعد
أن تدفق المال الوفير الذي يفتح كل الأبواب المغلقة ويمهد كل الطرق الوعرة..
وفجأة..
ضاع كل شيء كأنه قطرات الندى سلطت عليها أشعة شمس حارقة فلم تبقِ على شيء منها..
أتساءل في قلق وخوف: كيف؟
بينما
تنحدر دمعتان ساخنتان فوق خديها.. أربت على كتفيها والقلق يقرع قلبي في عنف كأنه
طبول إفريقية متوحشة في ليل مظلم..
وبعد
لحظات مرت بطيئة وقاسية كأنها عمر طويل مديد فتحت صديقتي فمها لتكمل قصتها بين
إشفاقي عليها ولهفتي لمعرفة ما حدث:
بينما
كنت أظن أن الدنيا تفتح ذراعيها لاحتضاني إذا بها تطيح بي وتدفعني إلى لجة العذاب
والقهر..
كنا
عائدين بالسيارة – زوجي وأنا وطفلنا الصغير – من نزهة بأحد المصايف الشهيرة حيث
كان زوجي يمتلك هناك قصراً فخماً وأنيقاً.. كان الليل يهبط ثقيلاً وموحشاً، وصدري
ينقبض خوفاً وتوجساً من شيء يلوح في الأفق البعيد لكنني لا أتبينه.. وفجأة قطعت
طريقنا شاحنة ضخمة.. ولم أفق إلا في صباح اليوم التالي.. كنت راقدة في سرير بإحدى
المستشفيات وحولي أمي وأبي وإخوتي، وصرخت متسائلة عن مصير طفلي وزوجي؟.. لم يجبني
أحد، توسلت إليهم، قبلت أقدامهم.. كنت أصرخ في جنون وأحطم أثاث الغرفة في عنف
وغضب..
أشفق
أبي عليّ من الجنون فألقى بوجهي الخبر كالقنبلة الحارقة التي مزقتني إلى أشلاء
وألقت بي من حالق.. راح طفلي وزوجي ضحية الحادث ونجوت أنا..
قال
الجميع كلاماً كثيراً في محاولة يائسة لتعزيتي.. كنت أحترق وكبدي يتمزق والكلمات
تنزلق على قلبي كأنها الماء ينساب فوق زجاج أملس فلا يؤثر فيه..
وخوفاً
عليّ وإشفاقاً على عقلي، نقلتني أسرتي إلى إحدى عيادات العلاج النفسي حتى أستعيد
هدوئي وتوازني وأصبحت لا أنام إلا بالعقاقير المخدرة ولا أصحو إلا بابتلاع
المنبهات، ولا أرغب في رؤية أحد أو سماع أحد.. كنت أستيقظ في جوف الليل صارخة أطلب
طفلي الصغير وأنادي على زوجي.. فتهرع إليّ الممرضة الساهرة بجوار غرفتي لتمنحني
جرعة زائدة من العقاقير المخدرة..
وذات
ليلة استيقظت في جوف الليل كعادتي أصرخ في جنون، لم يسمعني أحد، وكأنني في واد
سحيق وحيدة حائرة وخائفة..
وعندما
اكتفيت من الصراخ هدأت قليلاً، تلفت حولي أبحث عن شيء يسري عني.. كان هناك فوق منضدة صغيرة بجوار سريري، والله
لم ألتفت إليه إلا في تلك اللحظة ولم يقع عليه بصري إلا الآن.. إنه مصحف كبير
وضعته أمي في الغرفة طلباً للبركة ليس إلا.. وامتدت أصابعي إليه وأنا أرتعش كأن
بيننا جداراً عالياً، رحت أقرأ في هدوء ودموعي تتساقط كالمطر.. كأن الصوت الذي
أسمعه ليس صوتي الذي ألفته أذناي وكأن نوراً يشرق من آي الذكر الحكيم فيسري إلى
جوانح نفسي الحائرة فتسكن، وإلى روحي المعذبة فتطمئن.. بعدها رحت في سبات عميق حتى
الصباح.. والحق أنني لم أصدق ما حدث وظننته حلماً عابراً سيتبدد تحت وطأة أحزاني
ولوعتي..
وفي
الليلة التالية رفضت تعاطي العقاقير المنومة حتى أعاود التجربة.. وبعد أن توضأت
شرعت في قراءة القرآن الكريم.. كانت النفس الملتاعة تستعيد سكينتها شيئاً فشيئاً..
ولو اجتمعت كل عقاقير الدنيا ما كانت لتمنحني ذلك النوم الهانئ وذلك الرضا بما
قدره الله عليّ..
وصار
القرآن الكريم أنيسي في خلوتي، ورفيقي في محنتي، ألوذ به فأجد الواحة الخضراء
وارفة الظلال فأرتوي من نبع صاف عذب فتنطفئ عذاباتي وتبرد أحزاني، وعرفت كم كانت
أحلامي غبية وساذجة وكم كانت حياتي تافهة لا قيمة لها، لم أكن أعيش في الأضواء كما
توهمت.. كنت أتخبط في ظلام دامس..
لقد
وُلدت من جديد يا صديقتي.
:: مجلة البيان العدد 310 جمادى الآخرة
1434هـ، إبريل - مايو 2013م.